رجعٌ
كلام يتلوه كلام:
محمد الهجابي
تسّاقط وريقاتُ المتون في مغابن الذاكرةِ؛
كما تسّاقطُ نشابُ الماء فوق المغايضِ.
عمّرتْ كثيراً هذه الذاكرة، حتّى غيّبت التخومَ،
وقليلاً جادتْ،
وما برحت أن أنغلتْ مثل جلد زنَخ،
ثمّ أنتنتْ.
وها أنتَ، وقد شئتَ أن تغرق في خدرِ الوقت طويلاً،
حدّ التماهي،
وحدّ الحلول،
وشئتَ أن تجعل نجمكَ يهتدي بنجوم يُسراك،
لا يُمناك.
وآمنتَ، ووفيتَ.
وخادنتَ، وعاهدتَ.
وما أفلحتَ في هذا، وما أُنصِفتَ في ذاك.
لمْ تحسبْ للتقسيط في كلّ قسمةٍ،
لمْ تحسبْ.
ليس هذا ديدنك.
الإجمال لا التقسيط، تقول.
بل، ولا الإجمال حتّى.
لمْ تحسبْ.
كنتَ الحالمَ،
وكنتَ المسرنمَ.
لمْ ترحم فيكَ تداولَ المقامات،
ولاترادفَ الأحوال..
وبعد حين،
ها رواشنُ صدركَ مشرعة على الأمداء،
من جديد.
أنت في الهنا،
وفي الهناك.
وأنت في القريب،
وفي البعيد.
ها اليدان توزّعان الإلماعات.
وحيثما جنحت رياح الأعماق المدوّية جميعُها،
تسّاقط وريقاتُ المتون كلّما انساحت قدماكَ في خصيفِ الطريق.
تعبر هذا الرصيف وحيداً، لا يتبعكَ غير شواظ حريق.
تصيخُ السّمعَ لعويل رياح الأعماق، ولا تصيخُه للشواظ، فلا تقبض، في الحالتين معاً، سوى على بياض يغزو الفودين،
وقنّة لا تني تتصحّر،
وتضجر.
رويداً رويداً، يكتسحك ما فضلَ من الآيات،
أنت العنيد.
قد ينتهي هذا الطريق سريعاً،
ولمّا تكتمل الخطوة الأخيرة فوق الرصيف العتيد.
مَنذا الذي، يا ترى، يشلح مربّعاته، دفعة واحدة، وبالنيابة، ويفتّتها إلى ذرات غبار،
كي بهاءَها الوارف تستعيد؟
قبْل أن ينفثَ الزمان مكنونه، ويستقيل،
قبْل أن يرتدّ الوحش ويعضّ ذيله، وتستوفيَ الحلقة مدارها الخارق.
قبْل أن ترتخيَ منك الأنفاسُ، وتنتهيَ إلى خوافيك.
قبْل أن تطرقَ دخيلتك طواحينُ الأنواء.
قبْل أن يعشى العمهُ البصر، وما تبقى من وميض.
قبْل أن تدهمكَ جحافلُ الجنون، فتفقد البوصلة،
وتمسي كالشريد.
وأنت لا تريد،
لا تريد.
تسّاقط وريقات المتون،
واحدةً واحدةً، من ذاكرة لم تعد تتحمّل موتاً بطيئاً، ثقيلاً،
ولا دماً صار مخثّراً في الوريد.
(النص كتب قبل هذا التاريخ بكثير)