وقتلك البحر

كريمة الإبراهيمي

تكجدة: قمة جبلية بالجزائر

[email protected]

سأرحل..

لماذا كنتُ دوما أشعر أن البحر سيأخذكَ مني؟

المساء الموحش..وجسدك الأزرق المنتفخ ..وهذه المدينة التي تعيش على وقْع الموت..

منذ أعوام لم نعد نتقن إلا الدفن والصمت..

تصلبت المآقي بعد أن باعتنا الأشياء لهذا الغدر..

المساء البارد، المتلبس بالدم والرصاص..

كل الأشياء هنا تهرب في اتجاه الموت..

هل صار الموت فجأة حلما؟

هل تذكر..؟

كان الزمن جميلا،

وكنا عاشقين،

وكان العمر لنا..

أمطرنا الشوارع بقصائد الجنون العابث،

وأمطرنا البحر بضحكاتنا..

أدور.. وأدور..وفستاني الأخضر يطير..ويدك تمتد عاليا لتضم يدي..وأتوقف فجأة أمامك..أقترب وأقترب وأتلاشى بين يديك وصدرك العاجي يستقبلني وتجذبني إلى البحر..إلى عمق البحر لتغسلني بسكر من يديك..

سأسكنكِ جزيرة من العشق والنوارس وهذا الوطن يشهد..

قلتُ لي يوما ونحن نقف من على-تكجدة- والثلج اللؤلؤي يرصع قمتها..

وشهد الوطن يومها..

شهد حلمنا المكسور في شوارع نلفها راكضين خلف ملفات نجمع أوراقها ونجمع معها حزمة أحلامنا المسافرة في الهواء..

شهد طوابيرنا ونحن نقف بالآلاف من أجل إعلان وظيفة لشخصين...

شهد بكاءنا مع كل ملف يعود إلينا مع ملاحظة بالأحمر-مرفوض-...

شهد الألق المنطفئ بأعيننا كلما غادرنا امتحان الوظيفة المعدة مسبقا...

كم كنا يومها قادرين على أن نراهن على أحلامنا...

سأرحل...

هو البحر دوما بيننا...الهاجس ذاته يلاحقني...سيأخذك مني...

هل تذكر....؟

جزيرة العشق والنوارس توارت خلف المدينة التي صارت أفواهها من نار...

وغيب المدى الذي من وجع بقايا ضحكاتنا خلف أسوار الجامعة...

كنتَ شاعرا...

كنتَ تخلط الكلمات مثلما تخلط تلك المواد لتجاربنا في مخبر الكيمياء...

وكنا ندعوك بالكيميائي الشاعر...

**نحن نحب الشعر

كما نحب القمح،

وهذا السنونو الدائر

يقرع أجراس المواسم القادمة...

وتحول الوطن إلى رحلة دم...توزع الرصاص في روابيه...وولى السنونو رعبا...

ولت المواسم...

وانطفأ الشعر في عمرك الفتي...

ست سنوات من الركض خلف وظيفة...

ست سنوات طحنت الحلم والعمر وبقايا القصائد الباكية...

وصرنا نلتقي لنبكي على وطن يبكي...

صار الرصاص والقنابل جزءا من أيامنا وكنت أخاف أن تفترسك المدن الدامية كلما غامرت صوب إحداها ملاحقا فتافيت الأحلام المتطايرة في فضاء ضبابي...

سأرحل...

مرة أخرى هاجس البحر الذي أخاف أن يأخذك...

وانفلتت يدك من يدي فجأة

المساء الموحش يبكي حزنا...

استدرتَ إلى البحر الغاضب ويدك تدير الخاتم الذي بإصبعك بغضب...

شيء ما فيك كان منطفئا ذاك المساء...

ضوء عينيك...

إلى أين؟

سألتك بعد صمت...

إلى أي مكان... أجبتني...

وأحلامنا؟

ألم نشهد موتها معا؟ لم يعد لهذا الوطن غير جثثنا...

اقتربتُ منك... أردت أن أختبئ في صدرك.

كان صدرك باردا...للمرة الأولى لم أشعر بتلك الحرارة التي طالما غبت فيها كلما ضمنا البحر وسكر يديك...للمرة الأولى أكره البحر بعنف لأني تأكدت أنه سيأخذك مني...

يمكنكِ أن تستعيدي أحلامك مع رجل لم تكسره الأيام بعد...قلتَ...ويدك تنزع ذاك الخاتم الذي وحدنا لست سنوات...

داهمني الدمع وأنا أمسك بيدك...

لا تنزعه..قلت لك...

في ذلك المساء كنا نلم أشلاء حطامنا ونحن نغادر البحر بغصة دمعنا الذي امتزج بماء البحر الغاضب..

 لنصبر قليلا أيضا...قد تتغير الأشياء...قلتُ لك وأنا أودعك بينما تودعني آخر البقايا من روحي...

دمرتني تلك اللحظة...

دمرني الدمع المختنق بأحداقك وارتعاشة يديك الباكيتين...

دمرتني تلك اللحظة وأنت قد غيبك ضباب المساء الموحش حين افترقنا بعد صمت طويل...

لم نكن قادرين على اجتياز مسافة أخرى نحو حلم آخر ينكسر بعد عمر من الركض والخيبات...

بعد ثلاثة أيام...ذهبت إلى البحر...جلست في مكاننا...داهمني خوف كبير وذاك الهاجس يملأ فكري بعد أن أعلمتني بأنك سترحل...

انتظرتُ أن يبزغ وجهك فجأة على ذاك الشاطئ الحزين...

لكنك تأخرت...

-هل أخذك البحر؟ هل جئت تودعني في ذلك اليوم؟أسأل نفسي ومع كل سؤال يحترق شيء ما بداخلي...

عدتُ إلى البيت وملايين الأصوات والأشباح قد تجمعت بقلبي...كانت المرة الأولى التي تتأخر فيها عن موعدنا...

أجلس إلى التلفزيون...وألتقط الخبر...-وفاة عشرة شباب فيما يعرف/بالحرقة/ غرقا من بين عشرين كانوا على متن قارب متجه إلى اسبانيا-...شعور مفزع خالجني لحظتها بأنك من بين أولئك الموتى غرقا...اتصلت ببيتك وسألت عنك...فجاءني صوت والدك حزينا:غادر منذ ثلاثة أيام..لم يخبرنا شيئا..جاءنا اتصال من الشرطة..يبدو أنه غرق..والدته منهارة تماما..سنذهب صباحا لنعرف...أرجو أن يكون خيرا..

ازداد الشعور المرعب بداخلي...شيء ما يؤكد لي أنني لن أراك مرة أخرى...لن تغسلني بسكر من يديك ولن نقف متلاصقين كما كنا نفعل على قمة-تكجدة-.

أسرعت في الصباح إلى بيتك...

انتظرت وجهك ليشرق مع ذاك الصباح وأنا أحاول أن أطرد ذاك الشعور المرعي...وعدتَ...

دق الباب...ودق معه القلب المذعور...شيء ما تحرك بداخلي...وضعت يدي على صدري واندفعت جريا إلى الباب...

كان والدك بوجهي وجمع من الرجال يحملون شيئا...كان الدمع يلمع على وجهه وهو يفسح المجال لدخول الجمع الذي يحمل جثة ما...

تراجعت إلى الخلف وذهول كبير يسيطر علي...

تقدم الرجال إلى الداخل ووضعوا الجثة وابتعدوا مرددين:البقاء لله...

تقدمت من الجثة ومددت يدي لرفع الرداء وإذا بصوت ضخم يرتطم بالأرض من خلفي..كانت والدتك..

في تلك اللحظة..لم أفكر إلا بك..واصلت رفع الرداء فطالعني وجهك الأزرق المنتفخ..واصلت رفع الرداء ومددت يدي لألمس يدك..كان شيء ما يلمع بإصبعك..انه ذاك الخاتم الذي وحدنا لست سنوات..صرختُ بك: لم البحر؟هل أحببته أكثر مني؟ أم أنا الموعودة بفقدانكما معا؟

لم يقتلك الرصاص..فقتلك البحر..هل هو قدر هذا الوطن أن يموت أبناؤه قهرا أو رصاصا أو غرقا؟.

من ذلك اليوم وأنا أكره الخواتم..وأكره البحر..