في مجلس ابن جِنِّي: 8 (تلقِّي التفسير على مذهب بلال بن أبي بُردة!)
رُؤى ثقافيّة 313
انتهى الحِوار بين (أبي الفتح ابن جِنِّي) وصاحبه في مجلسهما السابق إلى أنه لم يَعُد القرآن الكريم مُبينًا، حسب التفسير المتكلَّف الذي ابتدعه مهندس التفسير المعاصر، ولا ميسَّرًا للذِّكر، ولا بلسان قوم الرسول، ولا صادقًا في ما أكَّده من ذلك كلِّه. والسبب أن الرجل أراد أن «يلبلر» الإسلام من خلال القرآن. وقد رأى ابن جِنِّي أن الرجل قد جاوز في تكلُّفه نطاق المعقول. قائلًا:
- لقد تكلَّف لكم «مُخَّ البعوض» من التأويلات، لا نُجْحٌ ولا عُذْر، وحمَّل اللغة ما لا تحتمل، ظاهرًا ولا باطنًا.
- إنه الهوى، والإديلوجيا التي وضعها نُصب عينيه هدفًا، ثمَّ حاول أن يفصِّل القرآن على مقاييسها متطفِّلًا على عِلْم التفسير. وكثيرًا ما تسمعه يحتج بأن الرسول لم يُفسِّر القرآن.
- هذا كلام غير صحيح على إطلاقه. بل للنبي تفسير وللصحابة تفسير آيات. لا بمعنى تأليف كتاب كامل في التفسير، ولكن تفسير آيات مشكلات. وبالطبع، لم يكن القرآن في حاجة إلى تفسير كامل في عصر الرسول؛ لأن كل عربي كان يفهمه إجمالًا، مسلمًا كان أو غير مسلم، لا كما يخبط صاحبك خبط عشواء. فلمَّا بعُد المسلمون عن لغتهم، وبعدوا عن سياقات التنزيل، وأسلم من غير العرب مَن أسلم، احتاج القرآن إلى تفسير. إن تدبُّر القرآن باب مفتوح إلى يوم القيامة، ولكن ليس بالتصنُّع والتمحُّل والادِّعاء.
- من الإنصاف القول إن ممَّا يحمد للرجل أنه يتراجع أحيانًا عن بعض ما يذهب إليه.
- هو سلوكٌ علميٌّ محمود، لكنه في الوقت نفسه يؤكِّد أنه قد خاض ابتداءً في ميدان ليس من أهله؛ إذ لم يُحكِم أدواته، ولا توافر على التأهيل لمقاربته.
- والطامَّة الكُبرى في قراءة أيِّ نصٍّ- حتى مع إحكام الأدوات والتأهيل- الإقدام على القراءة بنوايا مسبقة، وعقائد مرسومة، وأهداف مرصودة، فإن لم يستجب النص، اتَّجه المرء إلى المراوغة والاختلاق. على الطريقة البروكستية، نسبة إلى (بروكست) في الأسطورة الإغريقيَّة، الذي كان يمط أجساد ضحاياه أو يقطع أرجلها لتناسب مقاس سريره الحديدي.
- على كل حال، معروف أن التأويل لا تتطلَّبه كلُّ النصوص، ضربة لازب. والأصل أن القرآن لا يحتمل التأويل كثيرًا؛ لأنه بيِّن ميسَّر. حتى إن ما يسمَّى المتشابِه قد ورد الذم لابتغاء تأويله: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ، هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ، ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، ومَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّـهُ، والرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ، كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا، ومَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ﴾(1).
- صحيح، لكن ما العمل وممَّن يبتغي تأويله طائفة من المسلمين لم يعجبهم ظاهره، ولا محكمه، ولا أُمُّ كتابه، فاتخذوا الغنوص سبيلًا، أو جفلوا ممَّا يثار ضدَّه من أتباع الدِّيانات الأخرى، أو أحبُّوا منافقة أتباع التوجُّهات المستثقلة لما جاء فيه، فابتغوا أن يواطئوا به ما وافق الميولات والتشريعات والضرورات التي يرونها.
- عندئذٍ لم نعد أمام تأويل، بل أمام تلفيق ونفاق ظاهر.
- وتابِعُو هذه المدرسة هم أقل صدقًا، وأضعف أخلاقًا، وأخطر على النصِّ وأتباعه، ممَّن كفروا به محكَمًا ومتشابهًا، غير متأولين، ولا ممخرقين ولا منافقين. إننا بهذه الظاهرة أمام السلوك «الهرمنيوطيقي» نفسه الذي مرَّت به الدِّيانات السابقة، في ظروف تاريخيَّة ضاغطة، وإزاء إكراهات حضاريَّة جارفة، فاتجه بعض أتباعها إلى ابتكار تخريجات خياليَّة، وتأويلات كهانيَّة، تملُّصًا من إحراجات أصبح النصُّ بظاهر معناه يقرع بها الأسماع، فيمثِّل عبئًا على أتباعه، ممَّن يخشون الناس، والله أحق أن يخشوه. فماذا يفعلون؟ يخرجون على الناس بضروب من التأويلات، فيها ما لم يخطر على قلب بشر، كي يُدخِلوا الناس أفواجًا في فردوس نظريَّة جديدة من التديُّن واللا تديُّن معًا، ومن أوسع الأبواب!
- ويروج مثل هذا في جمهورٍ جاهلٍ باللغة العربيَّة من جهة وبالعلوم الطبيعية من جهة أخرى، يفغر لكل غريب فاه!
- نعم، فهو يظنُّ العِلْم «فهلوة»، ولعبًا بالبيضة والحجر، و"تشبيحًا" فكريًّا من تيار ضدَّ تيَّار! إنك لترى اليوم تمجيد المهندس المفسِّر الفطحل، وكأنه رسول رب العالمين المعاصر، تمامًا كما يغلو السلفيُّون في أعلامهم، في المقابل. هي العقليَّة نفسها هنا وهناك، لا تحتكم لا إلى عقل ولا إلى عِلْم، بل إلى الهوى ومناكفة الخصوم والتعصُّب الأعمى. تُرى كيف تفسِّر ظاهرة الجماهير هذه، يا مولانا، والتحلُّق حول كل آتٍ بغريب من القول؟
- لستُ بمولى أحد! ليس هؤلاء بأكثر من جماهير الغرائب في العالم كلِّه وفي كلِّ زمان. لا ريب أن جمهور مثل هذا الرجل ضربان: فارغون فاغرون، وذوو أهواء. وما أكثر هؤلاء وأولئك، إنْ لم يكونوا سواد الناس الأعظم! الضرب الأوَّل يمكن أن يسوَّق عليه أيُّ شيء، لا يلزم المرء سِوَى هالة من الإبهار العِلْمي المدَّعَى والحذلقة اللفظيَّة. والضرب الآخر يَعرف الحقيقة، لكنه على مذهب (بلال بن أبي بردة).
- مَن بلال هذا؟
- هذا، أطال الله بقاءك، (بلال بن أبي بردة، المتوفَّى بعد 126هـ)، أنشده (حمَّاد الراوية، -156/ 164هـ) قصيدة زعم أنها من شِعر (الحطيئة) في مدح (أبي موسى الأشعري)، فقال: «ويحك، يمدح الحطيئة أبا موسى، ولا أعلم به، وأنا أروي شِعر الحطيئة؟! ولكن دعها تذهب في الناس!»
- لماذا قال ذلك، وهو يعرف أنه كذَّاب؟
- لأن أبا موسَى هو جَدُّ بلال هذا، فما دامت له مصلحة في مديح جدِّه، ولو مديحًا مزوَّرًا، فسيُقِرُّ الكذِب، وإنْ كان يعرف حقيقته خيرًا من غيره!
- وأكثر من هذا كلّه، فإن مهندس المفسرين المعاصرين ذو مركز حركيٍّ، ينشر له مقاطعه التسجيليَّة على موقع «اليوتيوب»، ثمَّ يُعلِّق بأسماء مستعارة متعدِّدة، مُبجِّلًا مهندسه بطريقة فجَّة لا شبيه لها في المبالغة، وكأنه لم يفهم القرآن أحد من الأوَّلين والآخِرين سِواه! فتراهم يُطرونه إلى حدِّ التقديس، مهاجمين الأُمَّة الإسلاميَّة عن بكرة أبيها منذ البعثة النبويَّة؛ لأنها لم تفسِّر القرآن كمفسِّرهم الجهبذ!
- يا لبؤسكم، يا بُني! وماذا بعد، من طرائف صاحبكم؟
- ظننتك قد مللت من طرائفه!
- إذا حملتُه على محمل الجِدِّ ضقت به، لكني إذ تأملت حاله وجدته رجلًا ظريفًا جدًّا، وكثيرًا ما نحب، نحن اللغويين، كسر الجد في علمنا ببعض طرائف اللغة أو بالأحرى طرائف المتطفلين على علوم اللغة والبيان.
- أجل، ولن تجد أطرف من هذا الرجل؛ فبتفسيره العجيب لم تعد كلمة في العربيَّة تعني معناها، لا حقيقة ولا مجازًا. لكنَّ لطرائفه الأخرى مخاضًا لاحقًا في مجلسنا المقبل، بإذن الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سورة آل عمران، الآية 7.
وسوم: العدد 779