قراءة سوسيولوجية لأحسن القصص 4

إن المنافق لا عهد له ، لأن الخيانة متجذرة في خلقه وفي قرارة نفسه ، قد تطبع عليها  لا يحيد عنها أبد ،  فهي  جزء من سلوكه اليومي ،  وما فعل إخوة يوسف  بأخيهم وما حدثنا  القرآن الكريم به عن فعلهم إلا تجسيدا واقعيا لسلوك المنافق ، الذي يتظاهر بغير الذي يخفي ،  فقد جاؤوا أباهم عشاء يعتذرون  ويتظاهرون بالبكاء . [ قالوا يا أبنا إنا ذهبنا نستبق وتركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب وما أنت بمومن لنا ولو كنا صادقين ] " يوسف آية 17 " . لقد اختلقوا حجة باطلة ، كاذبة لا يقبلها العقل وهي : إحضار قميص يوسف ملطخ بدم كذب  [ وجاءوا على قميصه بدم كذب ]، ولكن أبوهم ، لم يستسغ ولم يصدق القصة ، ف [ قال بل سولت لكم انسكم أمرا فصبر جميل  ] ،  لأنه من المستحيل ، أن يأكل الذئب يوسف ، دون أن يمزق القميص ، ولو كان الذئب حقا  ، قد أكل يوسف لمزق القميص تمزيقا ، قبل أن يمزق اللحم . كما كان نبي الله يعقوب عليه السلام ، على يقين ، بأن يوسف سيكون له شأن عظيم انطلاقا من تعبيره وتأويله للرؤيا ، التي هي عبارة  عن علم ، علمه الله ليعقوب ، وعن وحي من االله  ليعقوب عليه السلام  ، وحاشى أن يجانب وحي الله الصواب ، أو يخطئ في تقدير المستقبل  . إن إخوة يوسف ، كانوا يتوقعون أن أباهم لن يصدقهم  وسيكذبهم ، فهم أدرى بفراسة أبيهم النبي ، التي لا تخطئ  [ وما أنت بمومن لنا ولوكنا صادقين ] .

 الغريب أن إخوة يوسف ،  نسوا أو تناسوا ، أنهم في الصباح فقط  ، كانوا يتطاولون على أبيهم  ويفتخرون بكونهم عصبة لا يشق لها غبار . [ قالوا لئن أكله الذئب ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون ] "يوسف  أية 14 " .  وهذا دأب المنافقين عبر الزمان  والمكان ،  يتناقضون في أقوالهم وأفعالهم  ويقولون ما لا يفعلون  ويمكرون بالليل لينفذوا مكرهم و خططهم العدوانية  بالنهار ويبيتون ما لا يرضى الله من القول والفعل ، ولا يستحيون ولا يخجلون من أنفسهم وسلوكهم المتناقض المشين .

طرحوه في الجب ليتخلصوا منه ، وباعوه بثمن بخس دراهم معدودات [ وشروه بثمن بخس دراهم معدودات وكانوا فيه من الزاهدين ]  إن ما فعله  إخوة يوسف لهو قمة الظلم والعدوان ، لأنه جاء  من الأخ القريب إلى القلب المؤتمن جانبه لا من العدو المرتقب ظلمه وعدوانه . فأن تسلب أخاك حريته وتفقد أباك ابنه  وتقطع  رحمك ، لهو أشد الظلم وأكبر الخيانة  والخذلان .  ولو صدر هذا من العدو لكان الأمر هينا ومقبولا . وهذه ظاهرة اجتماعية قابلة للتكرار في أي وقت ولقد  وصف طرفة بن العبد هذه الحالة وصفا بليغا فقال :

وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ............على المرء من وقع الحسام المهند

 والله سبحانه وتعالى ،  يقدم لهذا النوع من الظواهر الاجتماعية النفسية ، علاجا ناجعا ، صالحا لجميع الأزمان . فعبودية يوسف عليه السلام تبدو وكأنها شر ولكن كان فيها الخير الكثير . فهي تقدير من الله سبحانه وتعالى وتهييئ  منه ليوسف عليه السلام ،  ليصبح عزيزا ، ولولا هذه العبودية ، وهذا الابتلاء ، لما كان ليوسف شأن عظيم ، ولما أصبح عزيز مصر . يقول سبحانه وتعالى :  [ ... وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ] " البقرة آية 216 " ويقول سبحانه في آية  أخرى  [ ... فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ] " النساء آية 19 " وإن كانت الآية الأولى وردت في الجهاد ، والثانية في النكاح ،  فهما  تنطبقان على نماذج  أخرى عديدة في الحياة الإنسانية  يتجاذبها الضر والنفع ، الخير والشر . ويتم ميل الإنسان  في الغالب ، إلى أحدهما على أساس معيار الكراهية  والحب ،  ولكن القاعدة التي لا تتغير والقانون الثابت ،  الذي اختاره وأراده الله لعباده ، والذي في اتباعه  يكون  دائما خلاص المجتمع وتحقيق سعادته ، هو معيار الطاعة والعبودية الخالصة لله  ، وعليه  ليس كل ما يكره  الإنسان فيه شر  ، ولا كل ما يحب فيه خير . فالطاعة والمعصية تقلب موازين الخير والشر .  فالطاعة  قد تحول وتجعل من المصائب والمحن وما يكره الإنسان بصفة عامة ، منافع ومصالح ،  لا  يدركها ولا يعيها عقل الإنسان ولا فكره  . وقد يكون فيما يحب الإنسان المصائب   والشر ، الذي لا يتوقعه ، إن هو تخلى عن طاعة ربه وعصاه ، ولم يمتثل لأمر ربه ونهيه . فأنفع الأشياء للإنسان مطلقا ، ما كان فيها نصيب لطاعة الله وأضرها مطلقا ما كان فيها نصيب للمعصية .

لا  يختلف  اثنان  ، على أن العبودية شر،  ولا تجر وراءها  إلا شرا . ولكن عبودية  يوسف  عليه  السلام ، كانت استثنائية . فمنذ اللحظة الأولى يوصي سيده الذي اشتراه  امرأته ، بإكرام   وبتعهد منزلته وإقامته عنده ، ويحثها على  أن لا تعامله  كعبد ، ولا حتى كضيف ، بل كابن ، لعله ينفعهما ، أو يتخذانه ولدا . فيوسف عليه السلام في الحقيقة . لم يتجرأ مرارة العبودية المعتادة ، ولا ذاق طعمها المر ، ولم يعاني من قساوتها وآلامها ،  بل عوضه الله  فقدان حب الأب ، وأبدله  كراهية الإخوة وبغضهم ، بمحبة عزيز مصر ، كما أبدله شظف العيش وقساوة الطبيعة وقلة أمنها ، برغد عيش  الملوك ورفاهية المدينة وسهولة عيشها ووفرة أمنها ، ومكنه في الأرض ، وعلمه علم التأويل ، وضل سبحانه وتعالى يتعهد و يسوس ويدبر أمر يوسف وهو الغالب على أمره  والمسير له والمقدر لما سينتظره مستقبلا ، ولكن أكثر الناس عن هذا لغافلون ولا يعلمون تدبير الله سبحانه وتعالى للأمور ، كما لا يعلمون منزلة ومكانة يوسف عند الله ،  وما هيأ له ، وما ينتظره من نبوة ورفعة  وعزة وسؤدد . [ وقال الذي اشتراه من مصر لامرأته  أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ولنعلمه من تأويل الأحاديث والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون   ] "يوسف آية 21"

كان على  يوسف عليه السلام  ، أن ينتظر إلى أن يبلغ  سن الرشد ، وهوسن النضج  العقلي  والزيادة في الوعي والاكتمال النفسي والفيزيولوجي  والتكليف الشرعي ،  واكتمال الشباب والقوة الجسدية ،  وهي المرحلة العمرية  الحرجة  ، التي يمكن أن  يتعرض  فيها المرء ، إلى الانحراف والشذوذ والطغيان والاعتداد

والاعتزاز بالنفس  ويصيبه  خلالها الغرور والتكبر والتجبر على الضعفاء .  أو بالعكس قد يستقيم فيها  المرء ويلتزم بالطاعة  وبالعمل الصالح  وبالخوف من  الله ، مع استشعار المراقبة الإلاهية الدائمة ، لكل حركاته  وسكناته والتشبث  بالإيمان القلبي المتعلق بالدين وبالمبادئ العليا والأخلاق السامية

 إن هذه المرحلة من العمر، في تصوري ، تمثل ظاهرة اجتماعية نفسية ، تتكرر فيها مثل هذه السلوكيات المذكورة سافا ، في  كل الأزمنة ، سواء منها الحاضرة أو تلك التي عاشها يوسف عليه السلام .

في هذه المرحلة العمرية الصعبة بالذات ، تعرض يوسف عليه السلام

يتبع 

وسوم: العدد 780