الضوابط الشرعية لدراسات الإعجاز العددي في القرآن الكريم
بين يدي البحث:
لقد جاء هذا البحث استجابة لطلب جائزة دبي الدوليه للقرآن الكريم التي اعتزمت إقامة ندوة حول الإعجاز العددي في القرآن الكريم بتاريخ 12 -13 من شهر مارس /2007/ وارتأت اللجنة أن تسند إليَّ البحث تحت هذا العنوان:
" الضوابط الشرعيه لدراسات الإعجاز العددي في القرآن الكريم "
وذلك شعورا منها بأهمية الموضوع بعد أن كثرت دراسات الإعجاز العددي واختلفت فيها الأنظار بين موافق ومخالف، وبين ملتزم بقواعد البحث العلمي وناء عنها. وربما أصبحت لكل باحث طريقة خاصة به لا يبالي إن كان غيره يوافقه عليها أو يخالفه فيها ... ومن هنا برزت الحاجة إلى البحث في الضوابط الشرعية ... وسندير الكلام في هذا البحث على النقاط التالية:
- تعريف القرآن تعريفا موضوعيا.
- المعحزة والإعجاز في القرآن.
- وجوه الإعجاز في القرآن.
- هل يمكن أن يكون هناك وجه للإعجاز نسميه "الإعجاز العددي"؟
- الإعجاز العددي يقوم على ترتيب سورالقرآن وآياته فهل هذا الترتيب اجتهادي أو توقيفي؟ .
- الإعجاز العددي يقوم على اعتبارالرسم العثماني هوالأصل في هذه الدراسات. فهل الرسم كان باجتهاد من الصحابة، أو بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل لهذا الرسم دلالات معنويه؟
- هل للإعجاز العددي إشارات في دراسات السابقين؟
- أسرار الحروف المقطعه ودلالاتها.
- حروف الجمَّل وموقف العلماء منها.
- الإشارات القرآنيه وعلاقتها بالغيب.
- خاتمة: الضوابط الشرعية في نقاط محددة.
تعريف القرآن موضوعيا:
على كثرة مطالعاتي في علوم القرآن لم أطَّلع على تعريف موضوعي بمثل هذا الشمول وتلك الدقة.وهذا التعريف مما انفرد به النورسي في كتابه "الكلمات"( 1 ) وقد جعله في ثلاثة أجزاء كما يلي:
الجزء الأول:
القرآن ما هو؟ وما تعريفه؟
لقد وضّح في الكلمة التاسعة عشرة وأثبت في رسائل أخرى أن القرآن:
هو الترجمةُ الأزلية لكتاب الكائنات الكبير.
والترجمانُ الأبدي لألسنتها المتنوعة التالية للآيات التكوينية.
ومفسّرُ كتاب عالَم الغيب والشهادة.
وكذا هو كشّافٌ لمخفيات الكنوز المعنوية للأسماء الإلهية المستترة في صحائف السماوات والأرض.
وكذا هو مفتاح لحقائق الشؤون المضمَرة في سطور الحادثات.
وكذا هو لسان عالَم الغيب في عالم الشهادة.
وكذا هو خزينةٌ للمخاطبات الأزلية السبحانية والالتفاتات الأبدية الرحمانية الواردة من عالم الغيب المستور وراء حجاب عالم الشهادة هذا.
وكذا هو شمسُ عالم الإسلام المعنوي وأساسُه وهندسته.
وكذا هو خريطةٌ مقدسةٌ للعوالم الأخروية.
وكذا هو القولُ الشارح والتفسيرُ الواضح والبرهانُ القاطع والترجمان الساطع لذات الله وصفاته وأسمائه وشؤونه.
وكذا هو المربي لهذا العالم الإنساني.
وهوكالماء والضياء للإنسانية الكبرى التي هي الإسلام.
وكذا هو الحكمة الحقيقية لنوع البشر.
وهو المرشد المهدي إلى ما يسوق الإنسانية إلى السعادة.
وكذا هو للانسان: كما أنه كتاب شريعةٍ،
كذلك هو كتابُ حكمةٍ،
وكما أنه كتابُ دعاءٍ وعبوديةٍ،
كذلك هو كتابُ أمر ودعوةٍ،
وكما أنه كتابُ ذكرٍ كذلك هو كتابُ فكرٍ.
وهو الكتاب الوحيد المقدس الجامع لكل الكتب التي تحقق جميع حاجات الإنسان المعنوية، حتى إنه قد أبرز-لمشرَب كلِّ واحدٍ من أهل المشارب المختلفة، ولمسلك كلِّ واحدٍ من أهل المسالك المتباينة من الأولياء والصديقين ومن العرفاء والمحققين-رسالةً لائقةً لمذاق ذلك المشرَب وتنويره، ولمساقِ ذلك المسلك وتصويره.
فهذا الكتاب السماوي أشبهُ ما يكون بمكتبةٍ مقدسةٍ مشحونةٍ بالكتب.
الجزء الثاني وتتمة التعريف:
لقد وضح في " الكلمة الثانية عشرة " وأثبت فيها: أن القرآن قد نزل من العرش الأعظم، من الاسم الأعظم، من أعظم مرتبة من مراتب كل اسم من الأسماء الحسنى؛ فهو:
كلام الله بوصفه ربّ العالمين.
وهو امر الله بوصفه إله الموجودات.
وهو خطابه بوصفه خالق السموات والارض.
وهو مكالمةٌ سامية بصفة الربوبية المطلقة.
وهو خطاب أزلي باسم السلطنة الإلهية الشاملة العظمى.
وهو سجل الالتفات والتكريم الرحماني النابع من رحمته الواسعة المحيطة بكل شئ.
وهو مجموعة رسائل ربانية تبين عظمة الألوهية-اذ في بدايات بعضها رموز وشفرات-.
وهو الكتاب المقدس الذي ينثر الحكمة، نازلٌ من محيط الاسم الأعظم ينظر إلى ما أحاط به العرش الأعظم.
ومن هذا السر أُطلق على القرآن الكريم ويطلق عليه دوماً ما يستحقه من اسم وهو: " كلام الله ".
- وتأتي بعد القرآن الكريم الكتب المقدسة لسائر الأنبياء عليهم السلام وصحفهم.
- أما سائر الكلمات الإلهية التي لا تنفد، فمنها:
- ما هو مكالمة في صورة إلهامٍ نابع باعتبار خاص، وبعنوان جزئي، وبتجلٍ خاص لاسم خصوصي، وبربوبية خاصة، وسلطان خاص، ورحمة خصوصية. فإلهامات المَلَك والبشر والحيوانات مختلفة جداً من حيث الكلية والخصوصية.
الجزء الثالث:
إن القرآن الكريم، كتاب سماوي يتضمن إجمالاً؛ كتبَ جميع الانبياء المختلفة عصورهم، ورسائل جميع الأولياء المختلفة مشاربهم، وآثار جميع الأصفياء المختلفة مسالكهم.
- جهاتُه الست مُشرقة ساطعة نقية من ظلمات الأوهام، طاهرةٌ من شائبة الشبهات؛ إذ نقطةُ استناده: الوحي السماوي والكلام الأزلي باليقين.
- هدفُه وغايتُه: السعادة الأبدية بالمشاهدة.
- محتواه: هداية خالصة بالبداهة.
- أعلاه: أنوار الإيمان بالضرورة.
- أسفله: الدليل والبرهان بعلم اليقين.
- يمينُه: تسليم القلب والوجدان بالتجربة.
- يساره: تسخير العقل والإذعان بعين اليقين.
- ثمرتُه: رحمة الرحمن ودار الجنان بحق اليقين.
- مقامُه: قبول المَلَك والإنس والجان بالحدس الصادق.
إن كل صفةٍ من الصفات المذكورة في تعريف القرآن الكريم بأجزائه الثلاثة، قد أثبتت إثباتاً قاطعاً في مواضع أخرى أو ستُثبت، فدعوانا ليست مجرد ادعاء من دون دليل، بل كل منها مبرهنة بالبرهان القاطع."
وهكذا نرى المجالات الواسعة التي يتحدث عنها القرآن، والآفاق الرحبة التي تتحرك فيها المعاني والدلالات.
ومثل هذا التعريف يشير إلى أن في القرآن مجالا لكل باحث، وتوجيها لكل قاصد.
فمعانيه متجدده لا تبلى، وآياته ساطعة لا تنطفئ، ولا تنقضي عجائبه، ولا يخلق على كثرة الرد.
فهو مليء بالحكم والأسرار التي لابد للعلماء أن يسعوا في اكتشافها وأن يتنافسوا في الوصول اليها عملاً بقوله تعإلى:
" سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ".
ولا شك أن الإعجاز العددي الذي بدأ يتكشف للدارسين هذه الأيام، هو من هذه الآيات التي تثبت أن القرآن حق. وبذلك تقوم الحجة العلمية على الذين لايؤمنون إلا بمثل هذه الدراسات ...
المعجزة والإعجاز:
كلمة" المعجزة" لم ترد في القرآن الكريم. وقد استعملها النّظار والكلاميون بمعنى
" الآية " الواردة في القرآن. فقالوا" معجزات الأنبياء" يريدون بها الآيات الدالة على نبوتهم وأنهم مبعوثون إلى الناس، من قبل الله خالقهم عز وجل. ومن ثم فقد عرّفوا المعجزة بأنها:
" الأمر الخارق للعادة يظهره الله على يد مدعي النبوة تصديقا لما جاء به من عند الله بشرط أن يكون مقروناً بالتحدي وأن يسلم من المعارضة "
غير أن هذه الكلمة بالتعريف الذي عُرِّفت به، تعتبر كلمة مولدة. ومن ثمًّ فقد كان لبعض العلماء تحفظات على استعمالها:
ابن تيمية وموقفه من لفظ المعجزة:
يقول ابن تيمية:
"والآيات والبراهين الدالة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم -كثيرة متنوعة. وهي أكثر وأعظم من آيات غيره من الأنبياء. ويسميها من يسميها من النظّار: " معجزات". وتسمى" دلائل النبوة". و"أعلام النبوة ".
وهذه الألفاظ إذا سميت بها آيات الأنبياء، كانت أدل على المقصود، من لفظ المعجزات.
ولهذا لم يكن لفظ المعجزات موجودا في الكتاب والسنة.
وإنما فيه لفظ "الآية"، و"البينة"، و"البرهان"، كما قال تعالى في قصة موسى: "فذانك برهانان من ربك " -في العصا واليد -.
وقال الله تعإلى في حق محمد -صلى الله عليه وسلم –:
"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا".
وأما لفظ " الآيات" فكثير في القرآن كقوله تعالى:
" وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون. وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته ".
وقوله تعإلى:
" ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ".
وقال تعإلى:
" وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى ".
وقول فرعون له:
"فأت به إن كنت من الصادقين". وقال قوم صالح له:
" فأت بآية إن كنت من الصادقين. قال هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم".
وقال:
" هذه ناقة الله لكم آية ".
وقال المسيح:
" قد جئتكم بآية من ربكم إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرىء الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين ".
وقال في حق محمد – صلى الله عليه وسلم-:
" وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين. فقد كذبوا بالحق لما جاءهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون ". " اقتربت الساعة وانشق القمر. وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر".
عبد الحميد الفراهي ..وموقفه من المعجزات :
يقول الفرا هي: " طال بحثهم عن " المعجزة، والخوارق " واختلفو فيها:
- فمنهم من أنكر إمكانها.
- ومنهم من أنكر دلالتها على النبوة.
- ومنهم من جعلها من لوازم النبوة.
مع أن هذه الكلمه بدعة في الدين. فما جاءت في القرآن، ولا في الكتب الأول، ولا فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم. وظنوا أن لها ذكرا في كل ما سبق باسم "الآية ".
فلابد لطالب الحق في أمر المعجزة أن يترك هذه الكلمة المولدة، وينظر في معنى
" الآية" ومواقع ذكرها. ثم يرجع إلى بحث "الخوارق والمعجزات" وسيتبين له ان ترك هذه الكلمة أولى. فإنها تدل على خيال اختلط فيه الحق بالباطل " ( 1 ).
محمود شاكر وموقفه من المعجزة:
وهذا الذي قاله الفراهي حق لاريب فيه. فلقد تركت هذه الكلمه آثاراً مشوشة في تراثنا، سواء عند النظّار والمتكلمين، أم عند الباحثين في إعجاز القرآن.
ولعل هذا مادفع الأستاذ محمود محمد شاكر -علامة العربية -رحمه الله – إلى أن يقوم بدراسة تاريخية لهذه الكلمة مبيناً نشأتها في أحضان المعتزلة، وكيف تصرفوا في دلالتها وشروطها.
يقول الأستاذ محمود شاكر:
" فبين أيدينا في كتب علماء الأمة-على اختلافهم، واختلاف مباحثهم-وعلى أالسنتنا جميعا إلى يوم الناس هذا: لفظان جاريان. هما:
لفظ " الآية "، ولفظ " المعجزة " كان لهما شأن عظيم العواقب في باب "آيات الأنبياء" الدالة على صدقهم، وفي فهمهما حيث وقعا من كتابة الكاتبين، وأقوال الناطقين، وفي استعمالهما أيضا في أبواب مختلفة من القول والحديث والكتابة.
وقد استخدم الناس هذين اللفظين على أنهما " مترادفان " بلا غضاضة.
وهذا " الترادف" قد أفضى إلى خلط كثير جدا يصعب معه تبين وجه الحق. بل أفضى إلى ما هو أكبر من ذلك، إلى تصورنا أننا فهمنا فهما يبلغ بنا غاية اليقين. والحقيقة أن هذا الفهم تلبيس على العقل وتدليس، يستوجب الشك ويمنع من اليقين " ( 1 ).
وقد ناقش الأستاذ محمود في دراسته القيمة قضية الإعجاز وانتقد قول المتكلمين بأن مدار الإعجاز على "عجز الخليقة"، واختار بديلا لهذا القول أن مدار الإعجاز على "إبلاس الخليقه" مفرقا بين العجز عن الفعل، أو محاولته، وبين الإبلاس الذي هو اندهاش، وشعور بأن هذا الفعل: لايدخل في طاقة الإنسان، لأنه من خصائص الفعل الإلهي.
كما ناقش أيضا قضية التحدي وأصل استعمالها في اللغه، وكيف تسربت إلى أقوال المتكلمين.وفي ذلك يقول:
"وإذن فالأمر ليس عجزاً من الخلائق عن فعل طولبوا بمثله، فعجزوا، أو يتوهمون توهما أنهم لو أرادوا لعجزوا عنه، بل هو "إبلاس" محض من جميع الخلائق، ودهش وسكوت، ووجوم وإطراق، أحدثته مباغتة الآية عند المعاينة، ثم تسليم قاطع تستيقنه النفوس، بأنها فعل ممتنع أصلاً على هذا النبي، وعلى جميعهم بلا ريب يخامرها في ذلك.
وإذن فالشرط الذي وضعه المتكلمون وهو" مدار الآية على عجز الخليقه" شرط فاسد المعنى، غير دال على حقيقة الآية. والشرط الصحيح هو أن نقول:
" مدار الآية على إبلاس الخليقه ليس غير " ( 2 ) .
أما "التحدي" فيقول فيه الأستاذ شاكر:
"التحدي" – في أصل اللغة -: من قولهم: " فلان يتحدى فلاناً " أي: يباريه وينازعه الغلبة، والحادي: المتعمد للشيء. يقال: حداه، تحداه، وتحراه، بمعنى واحد. أي تعمد الأمر وقصده .......
هذا هو الأصل، وظاهر جدا أن معنى "التحدي" في اللغة: هو أن يتعمد الرجل المتحدي فعل شيء وهو يريد بفعله هذا أن يباري خصمه ويعارضه في فعل فعله، طالبا بذلك مساماته وغلبته والظهور عليه.
فالمتحدي إذن هوالذي يقصد أن يعارض بفعله خصما طالبا بذلك إظهار قدرته وتفوقه عن طريق معارضة يرتكبها هو نفسه.
والتحدي بهذا المعنى قليل جدا. لا تكاد تظفر به في كلام الناس إلا الزمان بعد الزمان.
وأما "التحدي" الذي نحن بصدده، وهو المستفيض على ألسنة الناس إلى اليوم، والمبثوث في كل كتاب، فهو على عكس هذا المعنى بلا ريب .... لأن النبي يأتي قومه بشيء يعلم أنه خارج عن طاقاتهم، ويطالبهم بمعارضته والإتيان بمثله .. وهذا عكس المعنى التي تنص عليه اللغه .. "( 1 )
وقد أطال الأستاذ محمود النَّفس في قضية المعجزة، والآية، والتحدي، والإعجاز.
وقد قضى شطرا كبيرا من حياته حائرا متردداً بهذا الذي كان يقرؤه في موضوع الإ عجاز، وكان دائم التفكير فيه ، حتى ظن أنه قد وصل إلى لب المشكلة ، وأنه آنس النار التي يمكن أن يجد عليها هدى أو يأتي منها بخبر . وقد قدم بحثه "مداخل إعجاز القرآن " إلى المطبعة وطبع منه مئة وأربع وأربعون صفحة، ثم أوقف الطباعة فجأة ولم يتمها، وشعر بأن ما انتهى إليه ليس نهاية المطاف. فآثر أن يسحب الكتاب من المطبعة وأن يتوقف .. وبقيت هذه الصفحات أشبه بالمسودات يتناقلها تلاميذه. وما نقلناه منها يعطي فكرة واضحة عن معاناته الطويلة التي لازمته، والتي كان يطمع أن يضع حدا لها بمثل هذه الدراسة.
والهدف الذي وضعه أمامه والنتائج التي كان يرمي إليها أشار إليها قائلا:
" وقد الجأني إلى العناية بتفسير لفظ "الإعجاز"ولفظ " المعجزة" على ما يوجبه مجاز اللغة أمور سوف اقتصر منها على أمرين. ولكن مهما بلغت هذه الأمور من الخطر، فإنها لا تستطيع أن تسقط هذين اللفظين " إعجاز القرآن " و "معجزات الأنبياء " من أقلام الكتاب المحدثين ولا أن تنتزعه من تراث اللغة المكتوبه في مصنفات علماء الأمة، منذ القرن الثالث للهجرة إلى يومنا هذا.
فكان أعدل الطرق عندي هو إثبات تعريف صحيح من مجاز اللغة للفظ "الإعجاز" ولفظ
" المعجزة" لا يختلف الناس عليه مهما تباينت آراؤهم. والألفاظ التي تستقر في اللغة استقرارا شاملا مستفيضا، يكون من الجهل والتهور، محاولة انتزاعها وإسقاطها من أقلام الكتاب ومن كتب العلماء قديما وحديثا، بل الواجب الذي لامرية فيه هو محاولة تعريفها تعريفا مطابقا للحق الذي نراه، لأن الذين وضعوها وكتبوها في كتبهم ومصنفاتهم وضعوها وضعا مطابقا لحق رأوه، لا نخالفهم نحن في جوهره، وإن خالفناهم في وجوه النظر التي أوجبت عليهم وضع هذه الألفاظ.
وما دام مجاز اللغة قادرا على تعريف اللفظ تعريفا يرفع أسباب الاختلاف، ويسير بنا جميعا على طريق مستتب، فلا معنى لإبطال ما استقر عليه الكتاب والعلماء من التعبير عن الجوهر المتفق عليه.
ولقد تكاثرت عليّ الأمورالتي تدعوني إلى النظر في تعريف"الإعجاز" و" المعجزة" على هذا الوجه الذي بينته آنفا، ولكني اقتصرت على أمرين هما عندي من الخطر بمكان، وكان لهما من الخطر في مباحث علماء الأمة، مالا يخطئه قارئ كتبهم على امتداد عشرة قرون على الأقل. وكلا الأمرين يتعلق بالألفاظ وبدلالة هذه الألفاظ _( 1 ) _ " وهي الإعجاز، والمعجزة، والتحدي ".
وهكذا نرى أن الأستاذ محمود أراد من دراسته أن يرفع المدلولات الخاطئة التي ارتبطت بهذه المصطلحات، وأن يضمنها المدلولات التي انتهى إليها، دون أن يعمد إلى رفعها من التداول، أوإسقاطها من كتب التراث ...
ومثل هذا البحث في غاية الأهمية، لما ينبني عليه من نتائج كبيرة، في مثل هذه الدراسات القائمة والمستمرة، حى يرث الله الأرض ومن عليها.
لقد كتب مالك بن نبي كتابه " الظاهرة القرآنية " والذي يعتبره نوعا جديدا من إعجاز القرآن نظرا لأن المعاصرين له من العرب والعجم، قد بعدوا عن العربية وأسرارها وتذوق بيانها وأصبح موضوع الإعجاز البياني لايكاد يكون مفهوما لدى الأجيال الحديثة ، كما أن الغربيين أيضا لايدركون هذا الإعجاز بطريق الأولى، لأنه ليس بلغتهم فوضع لهم هذا الكتاب، الذي يعتبر فتحا جديدا في باب الإعجاز، والذي يثبت أن الظاهرة القرآنية مختلفة عن الذات المحمدية ، وبالتالي فلا يمكن أن يكون هذا القرآن صادرا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو وحي إلهي . ومن ثمّ فهو يثبت صحة نبوة النبي بطريق جديد ....
وقد طلب الأستاذ مالك بن نبي من الأستاذ محمود أن يكتب مقدمة لهذا الكتاب، فكتب له مقدمة حاول فيها أن يفصل فصلا كاملا بين الإعجاز، ودلائل النبوة.
وقد قال في مقدمته تلك: إذا ثبت إعجاز القرآن: كان ذلك دليلا على إثبات النبوة.
أما إذا أثبتنا دلالة النبوة فليس شرطا أن يعني ذلك إثبات إعجاز القرآن، بدلالة أن الكتب السابقة للقرآن ليست معجزة، مع أنها كتب الله، وذلك لأن التحدي لم يكن مذكورا فيها. والتحدي إنما هو خاص بالقرآن. ومن ثمّ فقد جعل إعجاز القرآن مقصورا على الناحية البيانية فقط، أما النواحي الأخرى التي يستدل بها على النبوة، فليست تثبت إعجاز القرآن وإنما هي من دلائل النبوة ....
وقد صحبت الأستاذ مالك لأيام أثناء زيارته لدمشق عام / 1964 – على ما أذكر – كما التقيت بالأستاذ محمود شاكر مرارا وتكرارا. وقد سألته عن مقدمته لكتاب "الظاهرة القرآنية" وأن هذه المقدمة في واد، وكلام الأستاذ مالك في واد آخر. فكيف تكون هذه المقدمة مقدمة للكتاب؟
فأخبرني أن الأستاذ مالك صديقه، وهو يحبه ويقدره. ولكنه لا يعتبر كلامه في الظاهرة نوعا من الإعجاز. فآثر أن يذكر الفرق بين الإعجاز، وبين دلائل النبوة. وهو رد غير مباشر على ما أورده الاستاذ مالك من اعتباره كتابه نوعا من الإعجاز. لأن الإعجاز الذي تحدى به القرآن العرب، لم يكن إلا إعجازا بيانيا فقط...
وكان هذاالرد غير المباشرفيه شيء من المجاملة، لأنه كان صديقا له، وطلب منه مقدمة لكتابه، فرأى أن يكون المخرج، بهذه الطريقة غير المباشرة.
وهذا الكلام الذي جاء في مقدمة الظاهرة القرآنية سارت به الركبان، وتناقلته الأقلام، وأصبح معظم الذين يكتبون في الإعجاز: يرددون قول الأستاذ محمود شاكر.
ولكن ما كتبه الأستاذ محمود مجددا في موضوع المعجزة، والإعجاز، والتحدي: سيكون له أثر آخر، كما أن الذين سلموا لكلامه السابق، سيعيدون النظر فيما اعتبروه حقائق غير قابله للرد.
وأسجل هنا أن لي ملاحظات خاصة على معنى "المعجزة" وحصرها في التعريف الذي سبق، وأن لفظ "الآية" كما ورد في القرآن: أعم من معنى " المعجزة" بتعريفها السابق. ولايتسع مثل هذا البحث لمناقشة هذه القضية، وأوثر أن أترك الحديث عنها إلى مناسبة أخرى ....
المعجزة عند الفراهي:
على الرغم من النقد الذي وجهه الأستاذ محمود شاكر، إلى تعريف المعجزة عند السابقين، والذي كان يرمي من ورائه إلى إعادة تعريف المعجزة تعريفا صحيحا، إلا أن ذلك لم يتم،لأن البحث سحب من المطبعة، قبل تمام الطباعة، فحال بيننا وبين التعريف المنتظر، ومن ثم سنحاول الاستفادة مما ذكره العلامة عبد الحميد الفراهي، الذي نرى أنه يلتقي في كثير من النقاط، مع الملاحظات التي ذكرها الأستاذ محمود شاكر:
يقول الفراهي في تعريف المعجزة:
"المعجزة: ما جاوز حد قوة الإنسان وحيله".
فالآيات: معجزة. ومع ذلك دالة على أمر من الله تعإلى، فإن هذا معنى كلمة "الآية"
– كما أخبر الله تعإلى عن الحواريين في إنزال المائدة -:
"قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن بها قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا-في ماجئت به من الرسالة من الله تعإلى-. فإن أنزل الله ما سألناك علمنا أنه تعإلى أرسلك.
"ونكون عليها من الشاهدين" -أي: على غيرنا بما شهدنا وعلمنا من رسالتك -.
وأما "المعجزة" بمعنى أنها فعل النبي، فلا أصل لها في الشرع. إنما يظهرها الله تعإلى على أيديهم شهادة لنبوتهم .. والقرآن صرح بهذا وكذلك الصحف الأولى.
فما كان للنبي أن يأتي بآية إلا بإذن الله، كما قال تعإلى:
"قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السموات والأرض، يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم، ويؤخركم إلى أجل مسمى، قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا، تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين." - أي: ما يفصل بيننا –
وكان المراد بذلك آيات العذاب التي كانت الأنبياء ينذرونهم إياها-
" قالت رسلهم: إن نحن إلا بشر مثلكم، ولله يمن على من يشاء من عباده، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ، وعلى الله فليتوكل المؤمنون . ومالنا ألا نتوكل على الله، وقد هدانا سبلنا، ولنصبرن على ما آذيتمونا، وعلى الله فليتوكل المتوكلون"(1).
ويلاحظ قول الفراهي في المعجزة:"ما جاوز حد قوة الإنسان وحيله" حيث يتفق هذا مع ما قاله الأستاذ محمود في المعجزة بأنها"إبلاس محض. ثم تسليم قاطع تتيقن النفوس بأنها فعل ممتنع أصلا على هذا النبي، وعلى جميعهم، بلا ريب يخامرها في ذلك.."
كذلك قول الفراهي:
"وأما المعجزة بمعنى أنها فعل النبي فلا أصل لها في الشرع"
فإنه يتفق مع قول الأستاذ محمود"بأنها – أي المعجزة –:
" فعل ممتنع أصلا على هذا النبي، وعلى جميعهم بلا ريب".
كما يلاحظ عدول الفراهي عن التعريف التقليدي للمعجزة، حيث لم يعرض له أصلا، ولم يناقشه، وذلك لما سبق من قوله:
أنه لا بد لطالب الحق في أمر المعجزة أن يترك هذه لكلمة المولدة، وينظر في معنى "الآية" ومواضع ذكرها وما يتعلق بها، ثم يرجع إلى بحث الخوارق والمعجزات.وسيتبين له أن ترك هذه الكلمة أولى. فإنها تدل على خيال اختلط فيه الحق بالباطل"
وهذا أيضا موافق لقول الأستاذ محمود الذي ذهب في آخر بحثه المطبوع للتفريق بين الآية والمعجزة، حيث ذكر "الآية" في سياق الآيات القرآنية، وبين معانيها، بعد أن ذكر معانيها اللغوية. وفصل فصلا كاملا بين "الآية"، و"المعجزة".
وأن المصيبة الكبرى إنما كانت من اعتبارهما مترادفتين بمعنى واحد…
وإذ صح أن المعجزة "ما جاوز حد قوة لإنسان وحيله"، وأنها فعل إلهي وليست من فعل النبي، فإن تعريف المعجزة يكون كما يلي:
"هي الفعل الإلهي الذي يتجاوز حد قوة الإنسان، وحيله، فيبهته".
وإنني أفضل كلمة "البهت" على كلمة "الإبلاس"، لأنها وردت في القرآن في مثل هذا الموقف، حينما قال إبراهيم للنمرود:
"ربي الذي يحي ويميت" يريد بذلك أن هذا الفعل من خصائص الألوهية، ولا يستطيعه البشر. فيجيبه النمرود:
"أنا أحيي وأميت".
يريد بالإحياء: العفو عن المحكوم بالإعدام. وبالإماتة: تنفيذ حكم الإعدام.
ولم يرد إبراهيم عليه السلام أن يطيل معه الجدل، فآثر أن يأتيه بفعل آخر، لا مجال فيه للتأويل، والجدال:
_____________
القائد إلى عيون العقائد: 116 – 117
"قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر"(1) أي: دهش وتحير. - يقال: بهت الرجل بهتا: أخذ بالحجة فشحب لونه…ويقال:
بهت الرجل: دهش مأخوذا بالحجة -.
والإبلاس: الحزن المعترض من شدة البأس: يقال: أبلس……ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت، وينسى ما يعنيه. قيل: أبلس فلان: إذا سكت، وإذا انقطعت حجته…".
وأرى أن "البهت": أدل على المراد، من خلال الآية المستشهد بها.
وجوه الإعجاز:
- الإعجاز البياني:
سبق أن بيينا أن معظم الذين تحدثوا في إعجاز القرآن، وبحسب التعريف الذي ذكروه للمعجزة، اعتبروا المقصود بالإعجاز: انما هو الإعجاز البياني.
وذلك بناء على أن التحدي، إنما كان بالبيان، دون غيره، لأن العرب إنما كانت شهرتهم بالبلاغه، والبيان. وقد جرت العادة أن تكون "المعجزة" من مثل ما برع فيه القوم فكانت معجزة موسى عليه السلام من جنس ما برع فيه السحرة في عهد فرعون، واستندلوا لذلك ايضا با لقرآن حيث قال في تحديه:
" فأتو بعشر سور مثله مفتريات "
فقالوا: المثليه إذن في البيان، بغض النظر عن الموضوع، سواء أكان مفترى، أم غيرمفترى.
ولا بد لنا-باديء ذي بدء-أن نقرر أن الإعجاز ليس من مقاصد القرآن، وإنما هو من لوازمه. وأن قوله تعإلى:
" فأتو بعشر سور مثله مفتريات "
______________
البقرة: 258
إنما كان جوابا لمن قالوا إن الرسول -صلى الله عليه وسلم – قد افترى هذا القرآن بنسبته إلى الله.
وهذا نوع من التنزل في المحاججة، ولا ينطبق على جميع آيات التحدي، التي خلت من هذه الصفة صفة الافتراء.
ثم ان التحدي إنما كان موجها للشاكين:
"وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتو بسورة من مثله ..."
وأرى أن التحدي ليس مقصودا لذاته، وإنما المراد به لازمه. وهو إثبات كون القرآن من عند الله.
"فإن لم تفعلو ولن تفعلو فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة ".
إذن يلزم من هذا العجز: إثبات صحة نسبة القرآن، إلى منزله. وهو الله سبحانه ...
ثم إن صورة التحدي -كما وردت في كتب الإعجاز -وأنه كان بإمكان العرب: أن يأتوا بسورة من مثل القرآن، ولكن الله صرف همتهم عن ذلك – القائلون بالصرفه – كلام غير مقبول، ولا معقول ... إلى غير ذلك من الملاحظات، التي سبق أن نقلناها عن الأستاذ محمود شاكر ...
وفي نفسي شيئ من فكرة التحدي هذه، فإن التحدي: يكون عادة بين اثنين متقاربين في القوة، كل منهما يدعي بأنه أقوى من الآخر، فيدعوه إلى المباراة، والمعارضة. ومثل هذا المعنى غير وارد هنا، لأن الفرق الهائل بين قدرة الخالق، وقدرة المخلوق، يمنع من إرادة هذا المعنى.
فلو تصورنا على سبيل المثال أن رجلا عاقلا مقتدرا: يتحدى طفلا صغيرا، لكان هذا الأمر غير لائق بالرجل ... ومن ثم فقد رفض الأستاذ محمود شاكر ما اصطلح عليه في تعريف " المعجزة " بأن مدارها على " عجز الخليقة "، واقترح بدلا من ذلك:
"على إبلاس الخليقه ". لأن الإبلاس يتضمن الاندهاش، والتسليم. وأن مايراه الإنسان من المعجزة فوق طاقته أصلا. ومن ثم فهو لا يفكر في المعارضة، ولا تخطر له على بال. وهو يريد بذلك أن شأن معجزة القرآن، كشأن المعجزات السابقة، انتهت بإبلاس الخليقة، ولم يفكر أحد من المخلوقين: أن بإمكأنه أن يعارض ذلك .
وجوه أخر للإعجاز :
مع تسليمنا ابتداء بأن " الإعجاز البياني ": أحد الوجوه التي ينطوي عليها " إعجاز القرآن " وربما كان هو الأظهر-في عصر النزول-، نظرا للأدلة السابقه، التي تمسك بها الحاصرون للإعجاز في هذا الوجه. فإننا نرى أن هناك أدلة اخرى: تفتح الباب على مصراعيه، للقائلين بتعدد وجوه الإعجاز. وبخاصة بعد سقوط كثير من المسلمات، في معنى " المعجزة "،
و " الإعجاز "، و " التحدي "" – والتي سبق بيأنها -.
ابن تيميه من القائلين بتعدد وجوه الإعجاز:
يقول ابن تيميه:
"وكون القرآن أنه معجز ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط، أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم على معارضته فقط.
بل هو آية بينة معجزة من وجوه متعددة:
- من جهة اللفظ ومن جهة النظم.
- ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى.
- ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الله تعإلى وأسمائه وصفاته وملائكته وغير ذلك.
ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الغيب الماضي، وعن الغيب المستقبل.
ومن جهة ما أخبر به عن المعاد.
ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية، والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة. كما قال تعالى:
" ولقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا". وقال تعالى:
" ولقد صرفنا في هذا القرآن للناس من كل مثل وكان الإنسان أكثر شيء جدلا." وقال:
" ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون. قرآنا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون. " وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن، هو حجة على إعجازه، ولا تناقض في ذلك. بل كل قوم تنبهوا لما تنبهوا له.
ومن أضعف الأقوال قول من يقول من أهل الكلام: إنه معجز بصرف الدواعي مع تمام الموجب لها، أو بسلب القدرة التامة، أو بسلبهم القدرة المعتادة، في مثله سلبا عاما مثل قوله تعالى لزكريا:
" آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا ".
وهو أن الله صرف قلوب الأمم عن معارضته مع قيام المقتضي التام، فإن هذا يقال على سبيل التقدير والتنزل، وهو أنه إذا قدر أن هذا الكلام يقدر الناس على الإتيان بمثله، فامتناعهم جميعهم عن هذه المعارضة، مع قيام الدواعي العظيمة إلى المعارضة، من أبلغ الآيات الخارقة للعادات..."
النورسي يرى أن وجوه الإعجاز تتوزع على طبقات الناس:
على الرغم من أن النورسي يقول بتعدد وجوه الإعجاز، والتي ربما بلغت عنده أربعين وجها كما ذكر ذلك في الكلمة الخامسة والعشرين.
إلا أنه في مكان آخر: يبين وجه الحكمة في هذا التعدد، حيث يرى أن هذا التعدد، يمكن أن يتوزع على طبقات الناس، بحيث تخصص كل طبقة بإدراك وجه من هذه الوجوه، وهو ما أوضحه في الإشارة الثامنة عشرة – حيث يقول:
إن أعظم معجزة من معجزات الرسول الأكرم -صلى الله عليه وسلم -هو القرآن الكريم؛ الذي يضم مئات دلائل النبوة، وقد ثبت إعجازه بأربعين وجهاً، كما في الكلمة الخامسة والعشرين، لذا سنحيل بيان هذا الكنز العظيم: للمعجزات، إلى تلك الكلمة، ونكتفي هنا ببيان ثلاث نكات دقيقة.
النكتة الاولى:
إن قيل: إن سر إعجاز القرآن الكريم إنما هو في بلاغته الفائقة، بينما لا يرقى إلا واحد من الألف، من علماء البلاغة الفطاحل، إلى إدراك هذا السر، مع أنه كان ينبغي أن تكون لكل طبقة من طبقات الناس: حظها من هذا الإعجاز؟
فالجواب:
إن للقرآن الكريم إعجازاً لكل طبقة، من طبقات الناس، إلاّ أنه يُشعر إعجازه هذا بأسلوب معين وبنمط خاص.
فمثلاً:
يبيّن إعجازه الباهر في البلاغة " لأهل البلاغة والفصاحة".
ومثلاً؛ يبين أسلوبه الرفيع الجميل الفريد "لأرباب الشعر والخطابة".
هذا الأسلوب مع أنه تستسيغه كل طبقة من الناس، إلاّ أن أحداً لا يجرؤ على تقليده، فلا تخلقه كثرة الرد، ولا يبليه مرور الزمان، فهو أسلوب غض طري، يحتفظ بفتوته وشبابه ونضارته دائماً، وهو أسلوب يحمل من النثر المنظوم، والنظم المنثور ما يجعله رفيعاً عالياً ولذيذاً ممتعاً في الوقت نفسه.
ثم إنه يبين إعجازه فيما يخبر من أنباء معجزة عن الغيب فيتحدى به" طبقة الكهان والذين يدّعون أنهم يخبرون أشياء عن الغيب".
ثم إنه يقصّ "لأهل التاريخ" والذين يتتبعون أحداث العالم من العلماء ما يشعرهم إعجازه، وذلك بذكره أحداث الأمم الغابرة وأحوالها، وما سيحدث في المستقبل من وقائع، سواء في الحياة الدنيا أو في البرزخ، أو في الآخرة، فيتحداهم بإعجازه الرائع هذا.
ويعرض ايضاً إعجازه "لعلماء الاجتماع والسياسة والحكم" وذلك بعرض ما في الدساتير القرآنية المقدسة من إعجاز.
نعم! إن الشريعة الغراء المنبثقة من القرآن الكريم تظهر إظهاراً تاماً سر ذلك الإعجاز.
ويبين كذلك لأولئك الذين توغلوا في "المعارف الإلهية والحقائق الكونية" إعجازاً باهراً في سوقه الحقائق الإلهية السامية المقدسة، أو يشعرهم بوجود هذا الإعجاز.
ولأولئك الذين يسلكون "طرق الولاية والتصوف" يبين القرآن الكريم إعجازه لهم بكنوز الأسرار التي ينطوي عليها بحر آياته الزاخرة.
وهكذا تُفتح أمام كل طبقة من الطبقات الأربعين للناس نافذة مطلة إلى الإعجاز الباهر.
بل إنه يبين إعجازه حتى لأولئك الذين لا يملكون سوى قدرة الاستماع، من دون أن يقدروا على التوغل في الفهم، من "عوام الناس". فنراهم يصدِّقون إعجازه ويشعرون به بمجرد سماعهم له، إذ يحاور ذلك العامي نفسه ويقول:
"إن أسلوب هذا القرآن يختلف تماماً عن أساليب الكتب الاخرى ، فإما إنه في مستوى من الأسلوب: هو أدنى منها، وهذا محال - بل لم يتفوه به ألد الأعداء، وأهل الخصومة - أو هو أسلوب أرقى من الجميع، أي أنه معجز".
فالعامي الذي لا يستطيع إلاّ الاستماع، يفهم الإعجاز على هذه الشاكلة، ولأجل ان نساعده شيئاً في إدراكه هذا نوضح ما يلي:
لقد أثار القرآن الكريم لدى الناس من أول ما برز إلى ميدان التحدي رغبتين شديدتين:
أولاهما:
رغبة التقليد لدى أوليائه، أي حبّهم الشديد بالتشبه بأسلوبه الرفيع، فاشتاقوا إلى تشبيه أسلوبهم به.
ثانيتها:
الرغبة في المعارضة والنقد التي تولدت لدى الأعداء والخصماء، أي إتيان أسلوب مثله لدحض دعوى الإعجاز.
فهاتان الرغبتان الشديدتان سببتا ظهور ملايين الكتب العربية الماثلة أمامنا، ولكن
لو قارنا أبلغ هذه الكتب وأوضحها قاطبة بالقرآن الكريم، أي لو قرأناهما معاً لقال كل سامع وقارئ بلا تردد، إن القرآن لا يشبه أياً من هذه الأساليب، فهو اذاً ليس بمستوى تلك الكتب، فإما أنه أدنى اسلوباً من الجميع، وهذا محال، بلا أدنى ريب، ولم يتفوه به أحد قط، بل حتى الشيطان يعجز عن أن يتفوه بهذا، 1 فثبت اذاً ان أسلوب القرآن الكريم فوق الجميع وذلك بإعجازه الرائع.
بل إن "العامي الجاهل" الذي لا يفهم شيئاً من معاني القرآن الكريم: يشعر بإعجاز القرآن من عدم سأمه في التلاوة. فيحاور ذلك العامي الجاهل قائلاً: إن الاستمرار على تلاوة هذا القرآن لا يولد السأم قط، بل تزيد كثرة تلاوته حلاوتَه، بينما لو استمعت إلى قصائد جميلة رائعة لمرات عدة فإني اشعر بالملل، لذا فالقرآن ليس بكلام بشر بلا شك.
ثم إن "الأطفال" الذين يرغبون في حفظ القرآن الكريم، يظهر لهم إعجازه في قدرتهم على حفظه، في عقولهم اللطيفة الصغيرة، على الرغم من وجود مواضع متشابهة تلتبس عليهم، فتراهم يحفظون القرآن الكريم بكل سهولة ويسر، بينما يعجزون عن حفظ صحيفة واحدة من غيره.
بل حتى "المرضى والمحتضرين" في سكرات الموت ممن يتألمون بأدنى كلام، تراهم يستمعون إلى القرآن الكريم وتنزل آياته على أسماعهم كأنه السلسبيل، وبهذا يشعرون بإعجازه.
الإعجاز العددي:
من خلال ما سبق يتبين لنا أن وجوه الإعجاز غير محدودة، وأن بإمكان الدارسين أن يجدوا وجوها جديدة للإعجاز نتيجة التطورات والاكتشافات العلمية الكثيرة التي ما زالت تترى ...
وهكذا ظهرت عناوين جديدة للإعجاز:
كالإعجاز العلمي، والإعجازالنفسي، والإعجاز التشريعي...
وأحدث ما ظهر من هذه الوجوه هو المسمى بالإعجاز العددي، أو الإعجاز الرقمي. ومما ساعد على ظهور هذا النوع من الإعجاز، وجود الحاسبات الآلية، التي توفر على الدارسين كثيرا من الجهود الحسابية اليدوية، التي تستغرق الأعمار والأوقات.
الإعجاز العددي يقوم على ترتيب آيات القرآن وسوره:
ترتيب الآيات:
ترتيب الآيات في سورها توقيفي ثابت بالوحي وبأمر النبي -صلى الله عليه وسلم –
وبما علم من تلاوته للقرآن بمشهد من الصحابة وعلى كونه توقيفيا، دلت النصوص وانعقد الإجماع.
قال السيوطي في بحث ترتيب الآيات ما نصه:
"الإجماع والنصوص المترادفة، على أن ترتيب الآيات توقيفي، لا شبهة في ذلك.
أما الإجماع فنقله غير واحد:
منهم الزركشي في البرهان. وأبو جعفر بن الزبير في مناسباته، وعبارته: ترتيب الآيات في سورها واقع بتوقيفه صلى الله عليه وسلم وأمره من غير خلاف في هذا بين المسلمين".
وهذه هي النصوص التي استدل بها السيوطي على أن ترتيب الآيات توقيفي. 1-ما قاله زيد بن ثابت فيما رواه البيهقي والحاكم: "كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم نؤلف القرآن من الرقاع" قال البيهقي: "يشبه أن يكون المراد به تأليف ما نزل من الآيات المفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة النبي صلى الله عليه وسلم"
2-ما أخرجه أبو داوود والنسائي وغيرهما عن عثمان بن عفان أنه قال:
"كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا".
3-روى الإمام أحمد بإسناد حسن عن عثمان بن أبي العاص قال: "كنت جالسا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شخص ببصره ثم صوبه ثم قال:
"أتاني جبرائيل فأمرني أن أضع هذه الآية هذا الموضع من
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} إلى آخرها".
4-روى البخاري عن عبد الله بن الزبير قال:
"قلت لعثمان بن عفان: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} نسختها الآية الأخرى فَلِمَ تكتبها أو تدعها -والمعنى لماذا تكتبها؟ أو قال: "لماذا تتركها مكتوبة مع أنها منسوخة؟
قال: يا ابن أخي لا أغيّر شيئا منه من مكأنه".
فقوله: "لا أغير شيئا من مكأنه" يدل على أن وضع كل آية في مكأنها أمر توقيفي لا مدخل للرأي فيه. لذلك لا يجوز تحويل شيء منه عن مكأنه.
5-روى الشيخان وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه".
وروى مسلم عن أبي الدرداء مرفوعا:
"من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال".
فلولا أنه كان قد وقفهم على ترتيبه من قبل لما اعتمد في إرشادهم إلى الآيات المتقدمة على وصفها بأنها أول سورة كذا، أو آخر سورة كذا، إذ كيف تتميز لهم عن غيرها بوصف يكون مجهولا لهم؟
6-ما ثبت من قراءته صلى الله عليه وسلم لسور كثيرة بمشهد من الصحابة، ففي حديث حذيفة الذي رواه مسلم أنه:
" قرأ في صلاته ذات ليلة البقرة وآل عمران والنساء "
وفي صحيح البخاري أنه:
" قرأ الأعراف في صلاة المغرب."
وروى الشيخان أنه:
" كان يقرأ في صبح الجمعة بـ "الم تنزيل" و "هل أتى على الإنسان"
وفي صحيح مسلم:
" أنه كان يقرأ " ق " في الخطبة.
وعند مسلم:
أنه كان يقرأ في العيد بـ " ق " و "اقتربت"
وعنده أيضا:
أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بـ " الجمعة " و " المنافقون "
وفي المستدرك عن عبد الله بن سلام:
أنه قرأ عليهم سورة الصف حين نزلت حتى ختمها.
إلى غير ذلك من سور أخرى ثبت أنه صلى الله عليه وسلم قرأها بمشهد من الصحابة. وما كان لهم أن يختاروا ترتيبا يخالف ما سمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم[1]
فتبين بهذه الأدلة أن الصحابة تلقوا ترتيب الآيات عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي تلقاه عن جبرئيل عن الله تعإلى. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في آية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}:
"إن جبريل أتاني فأمرني أن أضعها في موضعها من سورتها". فتكون جميع الآيات كذلك، إذ لا فرق بين آية وأخرى.
وقد صرح جميع العلماء بذلك، وبأنه مجمع عليه كقول القاضي عياض فيما نقله عن الحافظ في الفتح:
"لا خلاف أن ترتيب الآيات في كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف من الله تعإلىمقدمة جامع التفاسير للراغب الأصفهاني صفحه: 148 –9 14
بد يع الزمان النورسي:
يرى النورسي أن تحت المعنى الصريح للآية الكريمة طبقات متعددة من المعاني، إحدى هذه الطبقات هي المعنى الإشاري والرمزي. فهذا المعنى الإشاري أيضاً هو كليّ، له جزئيات في كل عصر. فـرسائل النور فردٌ في هذا العصر من أفراد كلية طبقة المعنى الإشاري ذاك. (1 )
وأنه قد جرى بين العلماء منذ القدم دستور حساب الجمل والجفر-حساب الابجدية -لإيجاد القرائن والحجج، فهذا الطرز من الحساب لا يخد ش الآية الكريمة، ولا يجرح معناها الصريح، بل قد يكون وسيلة لبيان إعجاز القرآن وعظمة بلاغته. فلا اعتراض على هذه الإشارات الغيبية-إذ الذي لا يستطيع إنكار ما لايعد ولايحصى من استخراجات أهل الحقيقة من الاشارات القرآنية التي لا تحصى-ما ينبغى له أن ينكر هذا بل لا يمكنه ذلك...."(2)
ومن كل ماتقدم نرى كلا من الراغب والنورسي يميل إلى إباحة حساب حروف الجمل، بينما لايبيحه غيرهم، ولعل استعماله في السحركان سببا في التحفظ عليه
علما بأن المسلمين استعملوه استعمالات بعيدة عن السحر. والحديث الضعيف المستشهد به وإن كان لا يقوى على إثبات مشروعيته، فإن ذلك لايعني تحريمه تحريماقاطعا بدون دليل صريح. ولعل التجربة العملية له، تكشف عن مدى صحته، أوخطئه، مما يساعد على اتخاذ موقف حاسم منه.
________________
(1) ملحق قسطموني، ص: 180
(2) سيرة ذاتية – ص : 302
الإشارات القرآنية..وعلاقتها بالغيب :
يرى العلامة عبد الحميد الفراهي أنه لابد من مراعاة النظم التاريخي لالتماس النظام، ثم إن النظام يمكن أن يكشف لنا بعض الأشياء المكنونة، وفي ذلك يقول:
( 1 ) تنتظم الأمور على أنحاء كثيرة ، فلابد لمن يلتمس النظام أن يحضر هذه الأنحاء .
ومنها تقاربها في الزمان: مثلا زمان الدعوة الأولى، فأمورها منتظمة من جهة الزمان، فلا يبعد بعضها عن بعض. وهكذا قبيل الهجرة، وهكذا على اثر الهجرة، ثم بعد التمكن في المدينــة، ثم قبيل الفتح و بعدها فأمور هذه الأزمنة معلومة متمايزة، وعلى هذا الأصل جرى –قول السلف في تقسيم السور في مكية و مدنية، أو جعل بعض آيات المكية، مدنية أو بالعكس.
بعد ما علمت ذلك فاعلم أنهم لم يقسموا إلا بين المكية والمدنية، ولكنك إن جريت على أصولهم وقفت على تميز أخص مما ذكروا فلا يخفى عليك أمور الدعـوة الأولى وطرفي الفتح، ثم بعد ذلك ما هو أخفى، وهو نظم الأمور التي تقع في المستقبل. وذلك بان القرآن قد تضمن الإشارة إلى ما يقع على الأمة، فهدى إلى ما يحتاجون إليه. وقد علم الصحابة رضي الله تعالى عنهم وبينوا لنا مصداق الإشارة في ما وقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم.
( 2 ) فعلى هذا الأصل تهتدي إلى بعض الإشارات ، ولا تقتضى إلا في الدار الآخرة ، فهناك يتم تأويل الآيات . ونذكر بعض الأمثلة لتكون أنموذجا ودلالة لما قرب ولاحت مخائله:
( 1 ) الكلمات : 422 – 423 .
( 1 ) القائد إلى عين العقائد : 161.
( 1 ) مداخل اعجاز القرآن : 133.
( 2 ) مداخل اعجاز القرآن : 46 – 47 .
( 1 ) مداخل إعجاز القرآن : 21 – 22 بشيء من التصرف .
( 1 ) مداخل إعجاز القرآن : 18 – 19.
وسوم: العدد 780