جَدليَّة التَّحوُّلات عند شُعراء صَدْر الإسْلام..! 1
جَدليَّة التَّحوُّلات عند شُعراء صَدْر الإسْلام..!
1-2
د. حسن الهويل
ما أضر بالمصطلحات المُتَلاحِق سَكُّها إلا اختلاف المفاهيم. ومما يزيد الإشكاليات المصطلحية، ويُحكم حلقاتها المجادلون الجوف، الذين يظنون أنهم يحسنون بمناجاتهم الفارغة صُنْعا.
والمنقِّبون في المشاهد الأدبية والنقدية يصابون بالدوار، لأنهم يسمعون جَعْجَعَةً، ولا يجدون طِحْنا.
فسبب الاختلاف سوء الفهم، إذ لو فُهِمَت المصطلحات وفق مقاصد مُنْشِئيها، لكفيت المشاهد شر الجدل المستطير. فمصطلح [الأدب الإسلامي] -على سبيل المثال- أقام الدنيا، ولم يقعدها، لقد أغرق المختَصِمون في الحديث عن مفهومه، وعن مشروعيته، وعن الحكم الشرعي فيما لا يدخل فيه، حتى لقد أسرف البعض على أنفسهم،وعلى مشاهدهم، وظنوا أنه معادل،أو مقابل لـ[لأدب الكافر]، وأنه من محدثات الأمور، وكُلُّ محدثةٍ بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. ولو عرفوا أن القران الكريم أولُ من فَرَّق بين شعراء الهداية،وشعراء الغواية، وأن المصطلح لا يعني أكثر من الدعوة إلى الكلمة الطيبة والقول السديد, وأَنَّه (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُ)،لما ضربوا في أودية التيه، وركضوا بأرجلهم في طرق العِمَاية.
ولربما وجد المستشرقون ومن سايرهم في هذه المماحكات مدخلا للقول: إن الإسلام ضد الفن عامة، وضد الشعر على وجه الخصوص، وأن الشعر ضَوى جِسْمه في ظل الموقف العدائي من الإسلام. وتلك الفرية التي أطلقها المُغْرضون، وصدقها المتسرِّعون أصبحت من المسلمات التي كثر اجترارها، والقول بمقتضاها. وحين نقارب الحديث عن أي تحول ملموس عند [الشعراء المخضرمين]، نجد أنفسنا بحاجة إلى تحرير تلك المقولات السائدة, والحيلولة دون استشرائها. فمتى انسابت مقتضياتها كالخدر في مفاصل المشهد النقدي, أصبح من الصعوبة بمكان القول في التحولات الفنية والدلالية عند شعراء الرسول خاصة، بوصفهم من شعراء الخضرمة، الذين عُدُّوا عند البعض ممن أردتهم ضربة الإسلام للفن. وناتج هذا التصور الخاطئ أن المتغير الشعري لا يعد من باب التحول الإيجابي.
من المتوقع أن يُحْمل قولي على أنه من باب المغالطة، فالقراءات المهيمنة من الصعوبة بمكان الخلوص من شراكها، لأنها تدخل في إفرازات [عقدة الأبوية]: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ).
وكيف لا تفعل المغالطات فعلها،والضَّالَّون حقاً يوهمون أشياعهم بدعوى:- (مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ).
لقد تَصَدَّى [النقد الأدبي الإسلامي] لهذه المفتريات, وبخاصة مقولة :إن الإسلام تعمد إضعاف الشعر وتهميشه، أو مقولة :إن الشعر لم يَضْعف في عَصْرِ البعثة.
الحق أن الشعراءُ ارتبكوا أمام الإعجاز البياني للقرآن، ولم يطل أمد الارتباك،إذ بادر الشعراء إلى التكيف مع الرؤية الجديدة للحياة والكون. واضطلع الشعراء بمهماتهم الدعوية والدفاعية، وأعادوا ترتيب صفوفهم،والتحول من التيه والضياع واللهو والمجون إلى الجهاد باللسان إلى جانب الجهاد بالسنان.
ولأهمية الشعر فقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم موقفاً صارماً من الشعراء المناوئين له، واتخذ شعراء ينافحون عن الدعوة. والعرب تتمترس خلف خطبائها وشعرائها. وكل وَفْدٍ من الوفود يُقَدِّمون بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم خطباءهم وشعراءهم. وكم قَدَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم [حسان بن ثابت] رضى الله عنه الذي يقول مفاخراً:
[لساني وسَيْفِي صارِمان كِلَاهما ويَبْلُغ ما لا يَبْلُغ السَّيفُ مِذْودي]
ولسنا بصدد الحديث عن أهمية الشعر, واحتفاء الرسول صلى الله عليه وسلم بالشعراء, والسماع لهم، والاستزادة من شعرهم، والثناء على بعضهم، ومكافأة البعض منهم.
لقد جَرَّنا إلى هذا الاستطراد [الجاحظي] ما يُشَاع عن موقف الإسلام من الشعر، ودعوى تعمد الإسلام إضعافه، وانعدام الفحولة في الصدر الأول. وهي دعاوى قائمة، ومتداولة، ولها بعض المثيرات، وبخاصة أن الشعراء وجدوا ما يملأ فراغهم، ويشغلهم عن اللهو.
ولما لم يكن حديثنا مرتبطاً بهذه القضايا، فإن الإشارة تغني عن الإطالة. على أنَّ التعويل في الحكم بضعف الشعر مَرَدُّه إلى انبهار الشعراء بالقرآن الذي فاق النثر والشعر،وَوَسِع قِيماً لم يتسع لها الشعر. وهذه الأجواء الإيمانية ثَبَّطت عزمات الشعراء عن التفرغ للشعر، ولربما يكون لآية الشعراء أثرها في تحفظ الورعين، وانصرافهم عن الشعر:
[ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعرَ من لبيد]
ثم إن في الجاهلية خَمْريات يَخْلع معها الشاعر ثوب الحياء، وهجاءً مُقْذِعاً يمدُّه بالغي، ومدحاً مُسْرفاً، وتشبيباً مُتهتِّكا، وفخراً متطاولاً, وفراغاً مُمِلاً . وتلك فضاءات تُمَكِّن الشعراء من التحرك بحرية، والتوفر على أغراض لم تتح على إطلاقها في ظل الإسلام. وتلك الأسباب يبالغ فيها بعض النقاد القدامى،كـ[الأصمعي] و[ابن سلام]، ويُهَوِّن من شأنها البعض، حيث يُرْوى اهتمام كبار الصحابة بالشعر, وحفظهم لعيونه، وروايتهم لنوادره. وقد أومأ [الجبوري] إلى كتابَيْ [أدب الكاتب] لـ[الصولي]، و[البيان والتبيين] لـ[الجاحظ].
ولن نتوغل في تفكيك تلك الرؤى, والترجيح فيما بينها، إذ يكفى أن نشير إلى أن المسألة مسألة ارتباك، وإعادة تنظيم للصفوف، ومحاولة للانسجام مع المبادئ والمثل التي أشاعها الإسلام. فهي مرحلة انتقالية، لا يمكن التعويل على نتائجها، فالشعر لم يلبث أن استعاد عافيته في ظل الإسلام الذي جاء لترشيده، ولم يأت لقمعه.
وشعراء الرسول صلى الله عليه وسلم غير الصحابة الذين قالوا الشعر, أو رويت لهم مقطعات. وكم هو الفرق بين صَحابِي أورد له [ابن حجر] في [الإصابة] أو [ابن الأثير] في [أسد الغابة] أو [ابن عبد البر] في [الاستيعاب] بيتاً، أو بيتين،أو مجموعة مقطعات،لا ترقى به إلى مستوى الشاعرية.
فشعراء الرسول هم أولئك الذين بَرزُوا بشعرهم من بين سائر الصحابة رضوان الله عليهم. ففي كتاب [الشَّعراءُ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم] الذي أعده [د. نايف الدعيس] خمسمائة وخمسة وثمانون شاعراً من الصحابة، أشار إلى أن لكل واحدٍ منهم شعراً يؤثر عنه. أما الشعراء الحقيقيون الذين أبدعوا المقطعات والقصائد، فلا يزيدون عن عشرين شاعراً، كما جاء ذكرهم في كتاب [شعراء حول الرسول] للأستاذ الدكتور [عبدالله أبو داهش].
(صحيفة الجزيرة، الثلاثاء،11/4/1435هـ، 11/2/2014م،)
تابع..