" عديقي اليهودي" .. فانتازيا واقعية ترجمتها للعالمية ضرورة وطنية وقومية ..!
استهوتني رواية " عديقي اليهودي " للكاتب والروائي الفلسطيني محمود شاهين الصادرة عام ٢٠١٨ عن دار الناشر مكتبة كل شيء- حيفامن حيث طبيعتها الفريدة وموضوعها المتميز الفكري والتاريخي والسياسي، وابحارها في عمق التاريخ، ومناوشتها للعقل وفكرة الوجود والخلق، وطرقها على كوابح السياسة برؤى قد تبدو " فانتازوية " اذا جاز التعبير، وقدرتها على توظيف المخيال الانساني وتعقيدات واقع الأرض الفلسطينية في ظل الاحتلال، وإلى ما قبل فجر التاريخ، وقدمت لنا طبقا شهيا من الفكر وفهم صيرورة هذا التاريخ على ارض البرتقال الحزين، وفق تسلسل تاريخي درامي مثير ومحّير في نفس الوقت.
ويمكن القول ان الرواية بأبطالها عارف نذير الحق الفلسطيني الكنعاني اليبوسي، ويعقوب وسارة التوراتيين او الاسرائيليين الحاليين، صورة صادقة لتفسير علمي قائم على الحقائق للنصوص الدينية التلمودية والتوارتية، وكشف مبهر عن طبيعة كم هائل من الاكاذيب والتزييف المهول الذي ينخر متون هذه النصوص، التي جرى استغلالها لفرض حقائق جديدة رغم انف التاريخ والجغرافيا السياسية الحديثة، ويصحبنا الكاتب بأسلوبه المشوق في رحلة ممتعة مع النصوص الدينية التوراتية؛ ليضعنا أمام قراءة واعية وجديدة لمعنى التاريخ الحقيقي، وأنه في النهاية لن يصح الا الصحيح.
وتنحى الرواية حسب فهمي المتواضع منحى واقعيا من خلال تمهيدها الأرضية لوقائع هذه الرواية في أرض البرية وفصولها على تخوم القدس، وفي القلب منها الخان الاحمر الذي يشهد صراع بقاء مصيريا هذه الأيام، وتنسج هذه الفصول ببراعة بحيث تمزج كل عناصر الرواية بأبعادها التاريخية والفكرية والسياسية ، عندما تتبدى ملامحها المثيرة في عكس البعد التاريخي القديم لطبيعة الحياة البشرية إلى اليوم الحاضر، حيث ما تزال ملامح الحياة القديمة ماثلة للعيان . . الأرض القفراء ورعي الأغنام والإبل ومضارب البدو وتفاصيل الحياة البسيطة، مما يخلق هذا الانشداد اللاواعي لروح الرواية ومضامينها ورموزها وألغازها البادية للعيان والاخرى المستترة.
وأزعم أن مطالعة الرواية تغني الكثيرين عن العودة مجددا الى قراءة نصوص التوراة أو العهد القديم من الكتاب المقدس، التي غالبا ما يشعر القارئ بالملل والضجر اثناء تصفحها للتكرار في العديد من فصولها أو اصحاحاتها، أو للصياغة اللغوية المتعبة للفهم السريع، أو لتناولها مواضيع حياتية ولاهوتية جافة ومملة، ولكن استعراض الرواية لأبرز هذه النصوص التوراتية وشرحها والتعقيب عليها وتفنيدها، قد أعطاها روحا جديدة بحيث دبت الحياة في مفاصلها، واستمتع القارئ أيّما استمتاع بأسلوب هذا التناول الجميل الذي لا يخلو من سخرية لاذعة ظاهرة أحيانا ومبطنة أحيانا أخرى.
ويفوح من الرواية عبق الأرض الفلسطينية البكر .. تلك الارض الخلاء الصافية التي تساعد على التخيل والتفكر في بديع صنع الخلق، ودور المادة والطاقة الأزلية في التحولات الكونية عبر مليارات السنين، وانعكاس هذا الفضاء اللامحدود على نمو افكار انسانية قائمة على المساواة والعدل والحق والخير والجمال، ولذا أزعم مجددا ان الرواية كانت موفقة في مشهد تصور أو تخّيل انقاذ الاطفال اليهود من الغرق في واد أبو هندي من برية القدس القريب من بعض المستوطنات، وهي صورة انطباعية في غاية الجمال والتوفيق ولا تتيح مجالا للانتقاص منها، انها ربما مستحيلة الحدوث على ارض الواقع ، وإن كنت أفضل عدم المبالغة في انقاذ هذا العدد الكبير من الأطفال من قبل بطل الروايةعارف نذير الحق الذي هو في منتصف الستينات من العمر، وهو ما برّره الكاتب بشيء مقنع على كل حال .. ولكن هذا هو حال الأدب ونمطه المتخيل الذي يشطح بعيدا في العادة.
ولعبت الرواية بذكاء حسب ما أرى، على تناقضات المجتمع الإسرائيلي، وأبرزت الصوت الاسرائيلي الحر المعارض للسياسات المتطرفة التي ستقود حتما الى الخراب والدمار، وإن كان هذا الصوت خافتا ومبحوحا خصوصا هذه الأيام، كما تبنت الموقف السياسي الفلسطيني الرسمي المتوازن والعاقل والمعتدل ولكنه المتمسك بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني، كما اقرتها الشرعية الدولية عبر عقود من الصراع والنضال والتضحيات، ويا ليت الجهات المسؤولة عن الثقافة الفلسطينية، تعمل على ترجتمها للغات الأجنبية وخاصة الانجليزية والعبرية لعلها تساهم ولو قليلا في الكشف عن معدن الشعب الفلسطيني الأصيل، وتطلعه الحق الى السلام العادل والدائم رغم ما تعرض له وما عاناه من كوارث منذ الغزوة الصهيونية الأولى، وبدء المشروع الصهيوني المدعوم من الغرب الامبريالي بقضه وقضيضه.
والحقيقة ان كل فصل من الرواية بحاجة الى الوقوف عنده وتأمله لما يحويه من عناصر ثراء وقيم رفيعة ومفاهيم انسانية راقية، ولا تغني هذه الانطباعات البدائية المبتسرة والمجتزأة شيئا عن ضرورة الولوج الى أعماق وكنه الرواية التي هي من طينة أو عجينة تكاد تكون فريدة من نوعها وغير مسبوقة، والبحث والغوص عميقا في مجاهلها ، لاكتشاف المزيد من كنوزها المخبوءة ودلالاتها ومراميها البعيدة. الرواية في كلمتها أو سطرها الأخير صيحة حرّى عاتية من قلب الانسان الفلسطيني الموجوع والمكلوم والمقهور، الباحث عن العدل والحياة الحرة الكريمة.. والمتطلع الى عالم انساني خالٍ من أسلحة العنف والكراهية والقتل والاحقاد، التي لا توّرث الا المصائب والكوارث. فهل ينتصر داود وجوليات العصر الحديث، لقيم الخير والجمال ويقبران رياح الموت والخراب مرة واحدة والى الأبد؟ هل ينتصران لهذه المعاني؟ لنعش ونرى.
وسوم: العدد 788