أنفلونزا المجاز! (مقال في البلاغة العربيَّة)
رُؤى ثقافيّة 320
حدَّثنا (ابن الوردي) في المقال السابق عن أن من تراثيِّي العرب، القدماء منهم والمحدثين، مَن أسدوا خدمات جُلَّى للطاعنين في القرآن الكريم والوالغين في دماء العربيَّة، بتعطيلهم فنَّ المجاز، بل إنكارهم إيَّاه. إذ أصبحت البلاغة العربيَّة- كما قال- في مهبِّ المعطِّلة والمشبِّهة في العصر العبَّاسي وما تلاه. ثمَّ أردفَ:
- الطريف أن لهؤلاء تبابعة مقلِّدين، كالحين متعصِّبين، يزعم بعضهم أنه متخصِّص في عِلْم البلاغة، وهو في الوقت نفسه يقول بإنكار المجاز اللغوي!
- ماذا بقي من البلاغة إذن؟
- بل قل: ماذا بقي من اللغة؟ إذا لم يكن مجاز، لم تعد ثمَّة بلاغة، ولا أدب، ولا لغة أصلًا.
- لا يهم؛ المهم ردُّ الكلاميِّين، من المعتزلة والمؤوِّلة، عليهم من الله ما يستحقُّون!
- هو ذاك. وإلَّا فلولا المجاز لتيبَّست أشجار اللغة وماتت. لأن المجاز هو إكسير الحياة في اللغة، وأكسجين التنفس الطبيعي لرئتَيها، ونسغ التطوُّر المستمر لذريَّاتها، وعامل المواكَبة الفاعلة فيها لمستجدات الأزمان والثقافات والحضارات.
- ولكن على أيِّ منطقٍ كان يلوي هؤلاء، أم بأيِّ عِلْمٍ جاؤوا ليضيفوا إلى عِلْم اللسان والبلاغة؟ لكأني بهم ما سبقهم بهذا المذهب من أحدٍ من العالمين!
- ولا لحقهم أيضًا، اللهم إلَّا تلاميذ مدرستهم نفسها، التي لا تنطلق أساسًا من اللغة ولا من البلاغة، بل تنطق عن المناكفات الكلاميَّة الإديولوجيَّة. ولا نعرف نظيرًا لبدعتهم تلك لدى أرباب اللغات الأخرى. إن هؤلاء النُّفاة لا يلوون على شيء من منطقٍ أو عِلْم. وإنَّما مَثَلهم كمَثَل الذي اعترض على (أبي تمَّام)، لمَّا أنشد:
لا تَسقِني ماءَ المَلامِ فإِنَّني ** صَبٌّ قَدِ استَعذَبتُ ماءَ بُكائي
فجاء ذلك المنتقدُ- وقيل هو (عبدالصمد بن المعذل)- بقارورةٍ أو كوز: قائلًا، هازئًا: «ائتني شَربة من ماء المَلام، يا حبيب!» فقال أبو تمام: «إذا أنت أتيتني بريشة من جناح الذلّ!» إشارةً إلى الآية القرآنية: ﴿واخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَة﴾. وهذا الجواب المفحِم الذي سيق في جدل التقليد مع التحديث في الشِّعر، يصلح جوابًا في الجدل بين المشبِّهة والمعطِّلة، أو قل بين الحنابلة والمعتزلة، ممَّن عصف بهم التعصُّب، حتى كاد يعصف باللغة والبلاغة. فإنْ لم يكن في القرآن من مجاز، فليأتونا بريشةٍ من جناح الذلِّ على الحقيقة!
- على أن من أنصار الموروث أعداءِ الجديد مَن ظلَّ يقول: «جناح الذلّ» تعبير مأنوس، وللإنسان جناحان!
- ما جعله مأنوسًا إلَّا القِدَم والتداول. وإلَّا فليس للإنسان جناحان، بل للطائر. فهذا التعبير في أصله استعارة. غير أن المجاز مع الاستعمال يصبح حقيقة، أو شِبه حقيقة. وكثير ممَّا نَعدُّه اليوم حقيقة، إنْ لم يكن كلُّ ما نَعدُّه كذلك، كان في الماضي استعارةً ومجازًا. وتلك طبيعة اللغة. ومشكلة هؤلاء الكُبرَى أنهم يورِّطون أنفسهم فيما فرُّوا منه. فلئن كانوا فرُّوا من التعطيل بنفي المجاز، فقد وقعوا فيما لا سبيل إلى تنزيه الله عنه إلَّا بالمجاز، كوصفه تعالى: «بخير الماكرين»، مثلًا، وغيره من التعبيرات القرآنية المجازيَّة، التي لا يفهمها على ظاهرها سِوَى غير ناطق من الخلق، أو مَن ران على قلبه التعصُّب والتحزُّب. لأن القرآن نزل بلسانٍ عربيٍّ مُبين، وجاء وفق اللغة البشريَّة وأساليبها المتداولة، بما فيها من بلاغيَّات لا مناص من التسليم بها، وجاء إلى أناس فهموه حق فهمه، وفق لسانهم البلاغي الشاعري، قبل حذلقات المعتزلة والحنابلة وجدليَّاتهما الفارغة.
وإنَّما وقع المشبِّهة والمعطِّلة- أو رافضو التأويل والقائلون به المتوسِّعون فيه- في حبائل الجدل السقيم خصومةً ومكابرة. وإلَّا فلا يقتضي إثباتُ الصفات لله، نفيَ المجاز. ومن رأى تنزيه الله عن المجاز؛ فلِمَ لا يُنزِّهه عن اللغة البشريَّة، أوَّلًا؟ ثمَّ يُنزِّهه عن لغة العرب، ثانيًا، لغة الحُفاة العُراة الأُميِّين رِعاء الشاء؟ أيُنزِّهونه ممَّا لم ينزِّه منه نفسه، وهو القائل عن القرآن: إنه «بلسانٍ عربي»؟! واللسان العربي معروف الخصائص، وهو كألسنة البشر كافَّة، ليس بخارجٍ عن طبائع اللغات وسُنَنها. وكان يسعهم أن يُثبِتوا ما اعتقدوا، وإمراره على ظاهره، فما كان من التعبير يحتمل المجاز فهو كذلك، وما لم يحتمله، بقي على وجهه بلا تأويل، مع نفي الكيفية؛ فالأمر غيب، دونما حاجة إلى نفي ظاهرةٍ لغويةٍ إنسانيَّة، وخاصيَّةٍ تعبيريَّةٍ بلاغيَّة، حتى كأنهم بذلك ينفون بلاغة القرآن، ليُقفِلوا المجال إلى غير رجعة دون التأويل للأسماء والصفات. أم لعلهم يتصوَّرون أنهم إذا قالوا بنفي المجاز، قد انتفى بالفعل؟! أم لعلهم يتوهَّمون أنهم إذا نفوه للأسباب الإديولوجيَّة المشار إليها، قد نفوه عن اللغات؟!
ولقد غلا راكبو هذا التيار الأعجوبة غلوًّا كبيرًا في انتصارهم لإنكار المجاز، وتولَّى كِبرهم في مَن تولَّاه كبيرُهم، الذي خَصَّه مشايعوه، مِن دون الأوَّلين والآخِرين، بجعله، لا شيخهم فحسب، بل «شيخ الإسلام» جملةً وتفصيلًا. كأنما الإسلام محض عشيرة في الصحراء، تحتاج إلى طوطم يشيَّخ على مضاربها، بعد ستة قرون. وهذا التصوُّر الأعرابيُّ في ذاته هو من معالم الغرام المذهبي الغالي وشواهد السويَّة الحضاريَّة البدائيَّة. لكنهم هنا سيصيحون في وجهك: «لا، لسنا نعني ما فهمتَ على الحقيقة، وإنما هذا تعبيرٌ مجازي!»
- المجاز يحضر متى شاؤوا ويغيب متى شاؤوا، على نهج القُمُّص الذي رأيناه في حوارنا السابق! تشابهت عقولهم!
- نعم. ومن بعد «شيخ الإسلام» واصل تلاميذُه البررةُ البربرةَ عبرَ هذا الطريق الملتوي، منذ القرن السابع للهجرة. متبعين أقوالًا شاذَّة مسبوقين إليها، نُسِبت إلى رجل اسمه (داوود الظاهري، -270هـ)، كان رأسًا في المدرسة الظاهرية المشرقيَّة، ومن بعده ابنه محمَّد؛ إذ كان هؤلاء قد أزَّهم الهاجسُ المذهبي، والعُصابُ العقدي، إلى هذه النِّحلة الظاهريَّة القروسطيَّة. المفارَقة أن ظاهريًّا مغربيًّا كان خصيمهم في مذهبهم. فإذا كان هؤلاء قد اندفعوا في هذا الاتجاه النافي لما سِوَى الفهم السطحي للنصِّ، فقد دفع ذلك (ابنَ حزم الظاهري الأندلسي، -456هـ)، على الضفة المغربيَّة من العالم الإسلامي، إلى تكفير هؤلاء المشارقة المبتدعة القائلين بنفي المجاز في القرآن. ولعلَّ أظهر حجج ابن حزم أنهم بذلك يُفضون إلى نفي بلاغة القرآن وإنكار إعجازه اللغوي. بل إلى تكذيب ما أخبر به القرآن من أنه «بلسانٍ عربيٍّ مُبين». فأيُّ «لسان» أبقوا، أو «عربي».. فضلًا عن أن يكون «مُبينًا»؟
- وهكذا أصبح هؤلاء، من حاملي (أنفلونزا المجاز)، ينفرون من كل استعمال يشتمُّون منه مجازًا، متفيهقين مخطِّئين عباد الله في كلِّ صغيرة من القول وكبيرة. وهم يظنون أنهم يُحسِنون صنعًا، مفسدين اللغة، معيقين الناس عن استعمالها الاستعمال الصِّحيَّ الحيويَّ الباني، بل مميتين لسان العرب وعبقريته. وليس بغريب بعدئذٍ أن يُنتِج لنا مثلُ هذا الفكر عقليَّةً إسلاميَّةً متخشِّبةً معوقةً، تقف ضِدَّ الجَمال، ضِدَّ الخيال، ضِدَّ الإبداع، ضِدَّ الفنون، ضِدَّ الفِكر، وفي المحصِّلة: ضِدَّ الإنسان واللغة والحداثة والحياة.
وسوم: العدد 789