يجري المجاز بما لا تشتهي الحقيقة!
رُؤى ثقافيّة 321
ناقشْنا في حوارنا السابق مع (ابن الوردي) سعي بعض القدماء إلى تعطيل فنِّ المجاز، بل إنكارهم إيَّاه. ذلك أن تلك الثقافة المتوارثة ما انفكَّت تطغى على عقولٍ وأذواق؛ من حيث إن الثقافة العربيَّة باتت ثقافة مذهبيَّة منذ القرن الثاني للهجرة. فعاشت ممزَّقة في صِراع بين غلوِّ وغلوِّ مضاد؛ حياتها كحياتنا، متطرِّفٌ ينزو على متطرِّف! قال ابن الوردي:
- ولذا أصبحت البلاغة العربيَّة في مهبِّ المعطِّلة والمشبِّهة منذ العصر العبَّاسي، كلٌّ يسعى إلى تكييف اللغة لخدمة مذهبه. وشاعت حساسيَّة بلاغيَّة، أسرفت بسببها طائفةٌ في التأوُّل، ووقفت طائفةٌ ضِدَّ التأويل، حتى بلغ الأمر بها إلى أنْ جعلت ترتاب في ما خالف الحقيقة من التعبيرات، أو جنح نحو المجاز. وأيُّ مَفسدةٍ جناها هؤلاء وأولئك على الذوق والبلاغة واللغة العربيَّة!
- نعم، ومن الأمثلة المعاصرة- وريثة ذلك التراث- أنك طالما سمعتَ بعضهم يصيح على من استعمل، مثلًا، كلمة «مقدِّمة»، (بكسر الدال)؛ إذ لا يصحُّ، من وجهة نظر هؤلاء المصابين برُهاب المجاز، أن يكون ما يكتبه المرء في صدر كتاب أو نحوه فاعلًا بل مفعولًا. قائلًا أحدهم لك: هي «مقدَّمة»، يا بُنَيَّ، بفتح الدال، لا «مقدِّمة»، هداك الله؛ لأن الكاتب هو مَن يُقدِّمها بين يدي عمله.
- بل سنقول لهذا وأضرابه: أيها الآباء، كفُّوا عن الناس، بل هي «مقدِّمة»، على سبيل المجاز؛ لأنها بما تحتويه من مضامين تقدِّم التعريف بالعمل إلى القارئ! وعلى هذا سمَّى (ابن خلدون) مقدِّمته في التاريخ. ولو سلَّمنا بما تزعمون لأسقطنا اللغة كلَّها؛ إذ لا نهوض لها ولا حياة فيها بغير المجاز، إلَّا نهوض العليل البليد، وحياة السقيم الهالك. عِلَّة هؤلاء فقر الذوق الأدبي، وكسل المخيِّلة البلاغيَّة، إلى أسباب أخرى، عِلْمها عند ربِّك!
- ولمَّا كانوا لا يستطيعون تخطيء النصوص البلاغيَّة التي تُناقض ما استقرَّ في أذهانهم؛ تراهم يلتفُّون عليها بالتأويل أو التحريف. التأويل يُعمِلونه في نصوص القرآن المجيد، والتحريف يُعمِلونه في الشِّعر العربي، ليُعيدوه إلى حضيرة المألوف من الحقائق التي يدركونها ويطمئنُّون بها، ولا تُرهِق أذهانهم ومخيلاتهم.
- حتى الشِّعر لم يسلم من آثار هذا التيَّار؟! هل من شواهد على ذلك؟
- كثيرة. خُذ من ذلك أن (المتنبي) قال:
ما كُلُّ ما يَتَمَنَّى المَرءُ يُدرِكُهُ ** تَجري الرِّياحُ بِما لا تَشتَهي السُّفُنُ
فجاء بعض المصابين بأنفلونزا المجاز المعاصرين قائلين: كيف «تَشتَهي السُّفُنُ»، وهل السُّفن ذات شهوات؟! إنَّ هذا لإفكٌ عظيم! لا بُدَّ من حلٍّ يقمع هذا التعبير النابي عن الحقيقة! إذن، الشاعر لم يقل «تَشتَهي السُّفُنُ»، بل «يَشتَهي السَّفِنُ»! وما السَّفِنُ هذا؟ إشارة إلى رُبَّان السفينة! هذا أفضل! وليذهب الشِّعر والشاعر إلى الجحيم، المهم تقليص سطوة المجاز على اللغة، فهو باب شُبهات لا تنتهي!
- وبأيِّ لغةٍ يتحدَّث هؤلاء؟! وكيف غاب عِلْمهم هذا عن شُرَّاح ديوان المتنبي؟! إن هؤلاء، حين يُدْلون بأقوالهم هذه، في تعالم فاقع، لا يعُون أنهم إنما يعبِّرون عمَّا في رؤوسهم وفي نفوسهم. ولو بُعِث المتنبي، وقال إنني بالفعل قلتُ: «تَجري الرِياحُ بِما لا يَشتَهي السَّفِنُ»، لقلنا له: عفوًا، يا أبا حُميد، ظنناك أشعر من هذا، وقد ظهر لنا عكس ذلك! فالمتلقِّي الذي غيَّر بيتك إلى: «تَجري الرِياحُ بِما لا تَشتَهي السُّفُنُ» كان أشعر منك، وقد منحك حسنةً شِعريَّةً من جيبه البلاغي لم تكن في جعبة بيتك الضعيف. ذلك أن صدر بيتك قد سبقك إليه (أبو العتاهية، -211هـ)، في قوله:
حَتَّى مَتى أَنتَ في لَهوٍ وفي لَعِبٍ
والمَوتُ نَحوَكَ يَهوي فاغِرًا فاهُ
ما كُلُّ ما يَتَمَنَّى المَرءُ يُدرِكُهُ
رُبَّ امرِئٍ حَتفُهُ في ما تَمَنَّاهُ
وها أنت ذا، يا أبا مُحسِّد، تُفسِد عجز البيت أيضًا، بمحو المجاز منه، الذي كان يمكن أن يُحسَب لك حسنةً تشفع لك أخذ صدره من المعتَّق بوعظيَّاته المانويَّة، أبي العتاهية. فهل بقي في البيت من الشِّعريَّة شيء، حين تقول: إن الرياح تجري بما لا يشتهي البحَّارة؟!
- صدقتَ! أوَهناك مَن لا يُدرِك هذا المعنى أو يستطيع صوغه؟! وإنَّما المزيَّة في أَنْسَنَة السُّفُن، وجعلها ذات اشتهاء، وهي في صراع مع الرياح. هنا الخيال وهنا الصورة.
- هذه المعاني عازبة عن هؤلاء؛ لأن وظيفة اللغة لديهم لا تعدو نقل معلومات وأفكار وحقائق، بصُوَر مباشرة. ولذلك نقطع بأن أبا الطيِّب لا يقبع في هذا الحضيض مع المرضى بما تسمِّيه «أنف العنزة» المجازيَّة.
- وهم كذلك يتطفَّلون لإفساد بيتٍ آخَر لأبي الطيِّب، ومن المدخل نفسه. وهو قوله:
على قَلَقٍ كَأَنَّ الرِّيحَ تَحتي ** أُوَجِّهُها جَنوبًا أو شَمالا
فتسمع أحدهم يستدرِك بأن صِحَّة البيت: «عَلى قَلِقٍ»، بكسر اللام، ثمَّ يُردِف، وهو يهتزُّ طَرَبًا تعبيرًا عمَّا أراد، وتباهيًّا بما ظنَّه فِقهًا للمعاني وتحقيقًا لأقوال الشُّعراء: «أيْ على فَرَسٍ قَلِق»!
- ألا ويلٌ للشِّعر والشُّعراء من أمثال هؤلاء! بل ويلٌ للتفكير اللغوي من أقفال العقول هذه! «على فَرَس قَلِق»؟! وما الذي أبقى هذا من المتنبي ومن بيته؟! إنما الإنجاز الشِّعري هو في تجسيد القَلَق نفسه في صورة فَرَس. بل في صورة مركوب غير محدَّد؛ حتى لكأن مركوبه القلَق المطلَق. هاهنا المجاز وهاهنا البلاغة. أمَّا أن يقول إنه على فَرَسٍ قلِق، فما زاد على أن جاء بمألوف القول، وكلٌّ يعرف أن من صفات الخيل القلَق في حركاتها. فاتقوا الله- يا عُبَّاد الحقيقة اللغويَّة وخصوم المجاز المدافعين عن الباطل لا عن الحقيقة- في لغتنا العربيَّة وبلاغتها، لا تُميتوا علينا لغتنا وبلاغتها وجمالها وشِعريَّتها بآفات فهومكم ومواريث رجالكم!
- وبذا يظهر توالج الجدل الكلامي بالمسائل اللغويَّة والبلاغيَّة في تراثنا الإسلامي. وأن هؤلاء الذين يطعنون في القرآن اليوم وفي التاريخ الإسلامي، إنما يقتاتون على مائدة أولئك السلف من المتكلِّمين وإنْ في غير ما يفقهون، وممَّن لا يتجرَّدون أحيانًا في خصوماتهم الكلاميَّة غير العِلْميَّة عن الأغراض في أقوالهم وأحكامهم المطلقة. وقد لا يترفَّعون عن المكابرات، والأخذ بمبدأ أن الغاية تبرر الوسيلة، شأنهم في ذلك شأن أبناء الحِرف المختلفة، خصومةً، وشأن المتكسِّبة، تجارةً وطلبَ جاهٍ أو علوِّ منزلة. ربما كان بعضهم على منهج بيَّاعي الخضار، الذين ضرب بهم المَثَلَ الفيلسوفُ (فريدريك نيتشة) في أن أعلاهم صوتًا أكثرهم كسبًا، وإنْ كانت بضاعته مزجاة فاسدة. ثمَّ يأتي بعض المتأخِّرين، فإذا هو شرُّ خَلَفٍ لشَرِّ سلَف، تَمَدْرُسًا وتقليدًا وتقديسًا ودفاعًا، ليدور بهم المِغزلُ هكذا أبدًا، في نسيجٍ مهلهل، لا يستر عاريًا ولا يزين لابسًا.
وسوم: العدد 790