في البدء كان الشِّعر!
رُؤى فنيَّة
إن الفنون قد نبتتْ على هوامش الشِّعر، الذي صاحب الإنسان منذ طفولة العمر، وطفولة الزمان؛ مع الأغنية والآهة والحاجة البشريَّة. فلقد ولد فنّ الشِّعر- حسب تاريخ الفنون ونشأتها- قبل أيِّ فنٍّ مركَّب آخر. وإنما نشأت الفنون بتطوّر الكائن الإنساني، فردًا وجماعة وحضارة. بل لقد وُلِد بعض تلك الفنون شِعرًا، وظلَّ المسرح شِعريًّا إلى عهدٍ قريب، على سبيل المثال. وجاءت الرواية فنًّا حديثًا، ورث الملحمة الشِّعريَّة. هذا في البُعد التاريخي. ولا يُقارَن- من بَعدُ- أيّ فنٍّ بصريٍّ أو سمعيٍّ أو حركيٍّ بفنٍّ لغويّ. وما أظن أحدًا يُجادل في أن اللغة هي الإنسان، بكلّ ما تعنيه الكلمة من معنى. وعليه، فإن من الحق القول إن أهميَّة الشِّعر الاستثنائيَّة تتمثَّل في أنه الفنّ اللغويّ الأوّل والأعرق والأسمى والأبقى. من هنا كان الشِّعر، تاريخيًّا ونفسيًّا، ألصق بالذات الإنسانيَّة والضمير الجمعي، وأصدق معبِّرٍ عنهما، وظلّ أقرب ملامسة للنفس، وأكثر مخاطبة- في إطاره العامّ لا النخبويّ- لكلّ الفئات والطبقات، منذ أغاني هدهدة الأطفال إلى دندنة الشيخ الهرِم في منافي العمر وسباسب الأفول!
ومن المعروف تاريخيًّا، لدى العرب ولدى غيرهم، أن إسهام الشِّعر في المدّ الثوري، ضِدّ الظلم، والاستعمار، والعدوان، لا نظير له في فنون القول الأخرى، فضلًا عن الفنون غير القوليَّة. حتى إن مصطلح "الشِّعريَّة" الذي يُضفَى على روحانيَّة الفنون وتأثيرها الجماهيري، إنما يُشتقّ من طبيعة الشِّعر تلك.
قد يقول قائل: إن السينما اليوم تفعل مثل ذلك. وأقول: إنها لم تفعل ذلك إلَّا باقتباسها مشعل الطبيعة "الشِّعريَّة"، المحرِّكة بمزيج سِحرها وحكمتها، من الشِّعر. وهي تُحدِث ما تُحدِث بصفةٍ وقتيَّة، واستهلاكيَّة، سرعان ما يعفّي عليها الزمن ويبتلعها التاريخ، ولا تضاهي بحال من الأحوال تأثير قصيدة خالدة لشاعر عاش قبل مئات السنين أو آلاف السنين، تظلّ تشكِّل الذاكرة والشخصيَّة والوجدان والمواقف، إنْ بحقٍّ أو باطل.
ولـمَّا كانت للشِّعر تلك المكانة، فلا غرو أن يرتبط بالهويَّة، وبمكوِّن الشخصيَّة القوميَّة. ومن ثَمَّ يصبح المساس به مساسًا في الصميم بالقِوام النوعي، وبالمختلف الثقافي، وبأُفهوم التعدُّديَّة الحضاريَّة. بل يصبح مساسًا بالإنسان من حيث هو إنسان حُرّ، لا عبد، أو آلة. وليس هذا شأن الشِّعر في الثقافة العربيَّة وحدها، بل شأنه في الثقافات الإنسانيَّة كافَّة، حتى إن اللغات لتُنسب إلى الشعراء، كما تُنسب إليهم العرقيَّات والمأثورات.
لا يمكن لامرئٍ، بالضرورة، أن يتوجَّس خيفةً على الهويَّة العربيَّة حينما نستبدل العَرضة النجديَّة بالديسكو، أو برقصة الباليه، أو حينما تقع زوبعةٌ في مجال الفنِّ التشكيلي، أو حتى في الطُّرز المعماريَّة. لأن تلك تظلّ فنونًا خارجيَّة، لا تتعلَّق باللغة، وطرائق التفكير، والتعبير، والذائقة اللغويَّة الخاصَّة. بيد أن البراكين تتفجَّر حينما يتعلَّق الشأن بالشِّعر وأصوله الفنِّـيَّة. لأجل ذلك فإنّ من الابتسار (المـُغرِض) عزو المعارضة لتحطيم البيت الشِّعري العربي إلى تفعيلات، أو معارضة انتماء النثر إلى الشِّعر، إلى محض التعصُّب للقديم، أو الضيق بالجديد! نعم هناك نِسَب من تلك العوامل مخامِرة، غير أن المخامِر الأدق والأعمق هو شعور الإنسان بأنها قد انتُهكت استقلاليَّته بانتهاك عالمه الشِّعري، ودُمِّر رصيده الإنساني، وذُوِّب تميُّزه، واختُرق اختلافه، ودُجِّنت لغته في لغات الآخَرين، وخُنِق صوته، وطُعِن في مقتل، وباختصار: قد "أُخرب بيته وبيت الذين خلَّفوه!" تمامًا كما تفعل إسرائيل بتجريف بيوت الفلسطينيِّين؛ ومِن وراء البيت الشِّعري تنهدّ البيوت. أ وليس من الدالّ أن بداية الشِّعر الحُرّ- 1946- هي نفسها بداية النكبات العربيَّة وخراب البيت العربي؟! ولأمرٍ من هذا سمَّى العرب السطر الشِّعريَّ "بيتًا"؛ إذ هو للعربي بمثابة بيته، ومسكنه الذي تأوي إليه طيور الشكوى. والبيت قد يعبَّر به في العربيَّة عن الزوج أيضًا، ذكرًا أو أنثى. أفلا يقاوم مَن فُعِلت به الأفاعيل، ويثور مَن ثُلَّت على رأسه العروش؟!
تلك هي العلاقة الحميمة بين الإنسان وبين الشِّعر، وتلك هي مكانة الشِّعر الاستثنائيَّة التي أهَّلته ليوصف بـ"ديوان العرب"، لا لما يحمل من تاريخٍ أو معلومات، كما سار الفهم الساذج لمقولة ابن الخطّاب. مكانة يجدها الإنسان البسيط في نفسه، ويعيها، لا شعوريًّا، دونما حاجة إلى كبير حِجاجٍ أو تفلسف، ما ظلَّ غيورًا على نفسه وعِرضه وماله.
وسوم: العدد 802