عريان السيد خلف : الشاعرية المكتملة في الشعر الشعبي العراقي (2)
تعود معرفتي بالشاعر عريان السيد خلف الى بدايات عام 1970 م . عندما نشر قصيدته المعروفة ( ردّي ردّي ) حيث كانت هذه القصيدة بمثابة – جواز سفر- الى عريان للدخول الى الوسط الشعري الشعبي العراقي بقوة ،فقد كان الوسط الشعبي متذوّقاً وذو بصيرة عالية بكل مناحي الشعر الشعبي ، إضافة إلى أن كثرة الشعراء في هذا الميدان، لايمكن أن تحصى أو تعد ، بمعنى أن هذه الكثرة من الشعراء عصية على الإختراق وليس من السهولة أن ( يبرز) إسم شاعر حديث ، جاء من مدينة الناصرية الى معقل الشعر بغداد ، ويتجاوز الآخرين بسهولة ، ناهيك عن الحاسة الذوقية العالية عند متلقي الشعر الشعبي في مدينة الثورة التي إتخذها عريان مقراً لسكناه، وهذه المدينة ، إن قبلت شاعراً فقد قبله كل أهل العراق ،نظراً لكثرة الشعراء فيها ، ولكون الشعر الشعبي يمثل الرئة التي يتنفسون منها الحياة ، إضافة الى أن إسلوب الشاعر مظفر النواب ، في نظم القصيدة الحديثة ، بدأ يفرض نفسه على كل شعراء جيل السبعينات ، يضاف إليه شعر الرواد من بقية شعراء العراق مثل شاكر السماوي وكاظم الرويعي ومجيد جاسم الخيون، وغيرهم الكثير الذي كان شعرهم مهوى الأفئدة ، ومتداول بين أوساط الشعر الشعبي، من مثل كاظم إسماعيل الكَاطع ، وأبو سرحان ( ذياب كزار) ،ومما ساعد قبول عريان في هذا الوسط بسهولة وقوة هو (يساريته) بمفهومها السياسي ، وتبني الشيوعيين له ، ولكن هذا لاينكر عليه شاعريته القوية وإسلوبه المتميز في النظم وطريقة الإلقاء العذبة وجمالية الصورة التي يوظّفها في القصيدة ، مع فرادة في الإختيار للمفردة الموغلة في المحلية العراقية ، لاسيما لهجة جنوب العراق ، التي ينتمي إليها ، حساً ونشاة وقاموساً لهجوياً ، يجسد مفرداتها العميقة ،بتلقائية فريدة ، تستجيب الى وعي الناس البسطاء العام ، أو مايطلق عليه إسم (الحسݘة) الجنوبية، والتي تحمل بين ثناياها مضمرات شعبية ، يصعب فهمها على أبناء بعض المناطق في العراق، يقول في قصيدته ( ردّي ردّي ) :
ردّي .. ردّي
ياضعن شت عن هله ، وحدّاي
غربة .. البيه يحدي
ردّي .. ينباع العشگ .. وال ياگلب
تهوين صدّي
لا تهيجين الجروح .. اجروحي من تنلݘم
... تدّي
وانة من دم اولحم .. مو من صخر
ݘبدة العندي
ردّي .. مليت الصبر .. وامگاطر
الدمعة .. اعلّى خدي
وانة .. خلاني الوكت .. ناعور
بس اترس .. وابدي
ݘورت ليل الصبر . واعجزت منه ..
وهذا حدّي
بلجي من يغفى الجفن .. ما ݘلمة
التنگال ، بعدي
انه موش اول زند .. يشتل
شلب .. ويحصد بردي
او لا آنه بس اتغرّبت والمعتنيله ..
ايصير ضدي
ردي .. ردي
مالي حيل امعاتبݘ .. وانه العليݘ
اديت جهدي
غلّست .. عن الگلت والگال ..
گمت اسمع .. واعدي ..
او صابرت صبر الطفل .. شربي الطفل
والحزن مهدي
واحملت ليل العطش .. وانه العيون
السود .. وردي
اوساهرت .. طول البعد لمّن
عشگت إليال .. سهدي
والله ݘا مل او جزع .. لو قصتي ..
اعلى ايوب تسدي
ردي ..وانه .. موطبعي العتب
عالم حلاله .. ايصون عهدي
يا رخص ذاك الجدم . كون اعله ياهو
الݘان .. يبدي
او يا مناحة ذلتي .. وليل الگضيته
ادموع وحدي
وانه .. من دم .. ولحم .. مومن
صخر ݘبدة العندي
انه خلاني الوكت
ناعور
بس .. اترس وابدي .
لعبت الصحافة والإعلام دوراً هاماً في تقديم عريان الى الوسط الأدبي والفني ، فقد أذيعت له أكثر من قصيدة في الإذاعة العراقية ، ضمن برنامج (مع الشعر الشعبي) الذي كان يقدمه الشاعر أبو ضاري، والصحافة المحلية، واليسارية خصوصاً، أخذت تنشر قصائده، ثم مال المغنون والملحنون صوب قصائده، وصاغوها بأجمل الألحان، فقد غنى له المطرب سعدون جابر قصيدة (تلولحي بروحي قصيدة تلولحي) وغنى له فؤاد سالم ورياض احمد ، كثير من القصائد ،كما غنى له المطرب كريم منصوروعبد فلك ومحمد عبد الجبار وغيرهم الكثير، وشارك في أكثر من مهرجان شعري ، رغم أن الإعلام الرسمي للدولة كان يضايق عليه بشكل حاد ، كونه يتقاطع مع توجهات البعث السياسية ، حتى وصل الأمر بهم إلى إنذار وإغلاق جريدة ( طريق الشعب) الشيوعية في منتصف عام 1978م ، عندما نشرت له قصيدته الرائعة ( الشجر يثبت شجر والخاوية آتطيح) وتم آعتقاله أكثر من مرّة ، وتوقيعه على تعهد بعدم الإنتماء الى أي حزب سياسي ، لكنّ قصائده بدأت تظهر على ألسنة العامة من الناس عند أهل الثورة ، بشكل يتحدّى سلطة البعث السياسية والإعلامية،وراحت قصائده وأخباره تدخل كل بيت معارض لسلطة البعث الفاشية ، مما خلق له صدى واسع النطاق على الساحة الشعرية في العراق ،وبدوره هو أخذ يشتغل على قصيدته بإبداع متفرّد خاص به ، إذ مال في نظم قصائده الى آستخدام القافيتين والوزن الواحد ، وسماه ب ( الأندلسي ) وهو المعروف عندنا في العراق بإسم ( النصّاري) وكان أغلب شعره السياسي قد صاغه بهذه الطريقة المتقنة حتى غدت علامة خاصة به ، سار عليها الشعراء فيما بعد، ومن أمثلة ذلك قصيدته المعروفة التي يقول فيها
( گصرن يا حسافه وماخذن ثار .. ؤوصل بيهن گصرهن حد المتون
مانشفن دمع والدمع مدرار ... وما وصلن لخدّي مسحن آشلون )
حتى طبع هذا الإسلوب أغلب قصائده ، ثم بدأ إسلوبه يتفرّد على مساحة واسعة من العراق ، وراح الآخرون يقلدونه في نظمه وشكل تعاطيه القصيدة ، إلاّ أنهم لم يصلوا الى ماوصل إليه من شأوٍ عال في البناء والسبك والمعنى والمفردة ، وبدت هذه الطريقة في نظم قصائدة تلقى قبولا منقطع النظير، لآنه جعل هذا الإسلوب مبنياً على وزن إيقاعي يقبل التلحين والغناء ببساطة وسهولة ، إسمه ( النصّاري)،هذا من ناحية ومن ناحية أخرى مال الى الغور في آستخدام مفردات محلية شعبية موغلة في القدم وأعطاها بعداً ثقافياً ، من خلال الإستخدام في النظم، فأحيا بذلك الكثير من المفردات التي كادت أن تندثر من التداول ، الأمر الذي جعل شعره مقبولاً عند كل طبقات المجتمع العراقي.
لقد بدأت تجربة عريان السيد خلف في نظم القصيدة الشعبية تأخذ مداها الزمني في التطور، مع قلق مواظب نحو الأحسن والأكمل من قبل الشاعر نفسه ، بوصفه شاعر حداثة شعرية بدت تقترب من شاعر الحداثة الشعرية الأول في الشعر الشعبي في العراق ، قصدت الشاعر مظفر النواب، وهذه المسألة أملت ضرورتها عليه لأن يكون في مستوى التحدي لقامة مظفر النواب الشعرية ، مما شكل له عامل قلقٍ متواصل بغية إثبات التحدي هذا, لذلك بدأ أكثر حرصاً على تشذيب قصيدته الشعبية من كل الزوائد والإضافات والحشو. بمعنى آخر ، أن عريان بدأ يدرك بوعي كامل مسؤوليته في تطور القصيدة الشعبية لديه ، من وازع المنافسة أولاً، ومن وازع الوجود الإبداعي ثانياً ،إضافة الى الحفاظ على رواج القصيدة العريانية في الوسط الثقافي ، لذلك شكلت قصيدته ( گبل ليلة) منعطفاً هاماً في تجربته الشعرية أفضت به الى تطور منظور القصيدة من حيث الشكل والبناء والموضوع ، لأنها كانت حدّاً مفصلياً في تطور قصيدته الشعبية . وسنحاول هنا، قراءة هذه القصيدة ، بشكل تفصيلي للوقوف على تجربة الشاعر عن قرب ومحاولة كشف أعماق التجربة الشعرية ، يقول عريان في هذه القصيدة:
گبل ليلة
هلي كتبتلكم مكاتيبي على آوراق دفتر البافرة
وضميتهن لمن يصح طارش ليوصلهن ، وما صح الطارش
ومن المامش گضن وحده وره الاخره دخان انترس صدري
* * *
(1 )
وعلى واهسكم خبطنا الماي الازرگ
طالبين بدين وآعرف دينه
وعلى واهسكم لگينا ( الگصبة) كعبة
نزور حزها ولو سفاهة يعينه
وعلى واهسكم عرفنا الموت الآول وآستحى
وعينه آنثنت من عينه
وݘان ليل الخوف لفحة ريح شتوه
ولو شبݘنا الگاع يعرگ ليلنه
هاذبين ..
وݘانت الظلمة سوالف ناثرت ضحݘه بحوافر خيلنه
وعلى ريحتكم تلگتنا الشواطي بفرح نثية وعانگتنا وطحنا ݘلمة إثنينا
* * *
(2 )
ݘلمة بيها الماي ذبل كل زراگه
ݘلمه بيها العين غبش كل ترمها
وخضرت طاگات بعيون الرفاگه
وباگه باگه
الموت من يحصد الوادم ..... باگه باگه
وباگه باگه
الصوت من يصحى آعلى ظالم ...باگه باگه
* * *
( 3 )
هلي ..وثبتت گلوبنا ولايه ، وسوالفنا ظفيره
وشوگنا لدهله ، ومحبتنا اظنونه
وخطارنا تراب الجزيرة .
وديره ديره .
الموت من يشرب الوادم ... ديره د يره
وديره ديره
الفيض من يمحي المعالم ... ديره ديره
* * *
(4 )
وصبحت يهلي على جفون الخواطر غاليات
وطيفكم ، وطيفكم عاود على عيوني حنينه
وجرّعت روحي لجلكم حنظل الوحشة
ولگيت الروح بالصفننات أمينه
وذاك من ذاك اللگى النجمة العزيزة بلا سما ودگ الها عينه
وذاك من ذاك ليحط گلبه آعلى ݘفه
ويغسل بآخر نفس وجه المدينه
وبينه بينه
إشما تعب لف المغازل بينه بينه
وبينه بينه
إشما ثگل صوت الهلاهل بينه بينه
* * *
( 5 )
ومرت الوحشه على آجفوني
خرز سبحه وتعب روجة بلدنه
وسالفة، وضحݘة بدويه تموت بطراف الندم
ومرّت الظلمه تغش الشوف الأبيض
والطوارش حامت بحامي البخت توگف علم
وݘان جفي يلاعب النسمة وذرى الگذله عشب
وݘان گلبي يريد يكبرأكبر من آسمه ويا ذاته ويكره ويشگى ويحب
وݘنت آسميكم الذمه...
وݘنت أشيلنكم وصية بغير حز ماتنكتب
عفية نهران آشكثر غدرانها ملها ومايها الراݘد عذب
* * *
( 6 )
وليلة حضنتنا بتعبنا بخوفنا بيوت العشيرة
وݘان أول بيت ضحݘه
وݘان ثالث بيت رجفه
وݘان رابع بيت عين
وݘان ...دخان المواگد ݘلمة مروّه وهله من يغفى الحنين
وصوّغتنا عيونهم بطابگ دنان ، ولبن شݘوه وݘلمة مگطوعها بطول السنين
وعين عين
إنشدّت بتالي الطوارف عين عين
وعين عين
بلهفه تنشد ع السوالف عين عين
* * *
(7 )
وعين لفتنا بحزنها وزوّگت لون الجرح
وعين هزتنا ونختنا إيغزّر ويانا الملح
وعين تنشدنا من آجيتوا ... ماعثر بيكم صبح !؟
هلي ... وزتتنا الظفايروالضمايروالخناجر
والدّفو الغطى الݘفوف
وݘانت الهلهوله خرسه تضيع بالشفه وتطوف
والگاع من يكبرگلبها يشب عشبها وتوصل آحݘاياتها لتالي الجروف
* * *
( 8 )
هلي ... وسيرتوا عليّ بوحشتي ... حݘاية بريد ، وبيت نايل
وشتهيتوني آكتب الكم عن وفا البردي وحنين الماي ودموع السنابل
وعن عين التلم الليل دمعه ،وتعتلگ وكت الوفا شموع ومشاعل
وعن الگلوب التموت بلايا سم وبلايا رايه
وعن شمس طلگت بسمها وعسرت بآوّل قضية
وغربتي وصوت النواعي يلوحني وتلتم إيديه
الصوت بيه ريحة عيوني ، وبيه هلي ؤوّحشة مسيه
هلي يامن ضيعوني
* * *
( 9 )
وكحه النفس ماتفعل تلين
منبت حزن ومخالف آسنين
والليل لو سد الروازين
شمسين حمرا آيخضر الطين
وهيه هيه
العين من تگضي السوالف هيه هيه
وهيه هيه
الگاع من تجفي وتوالف هيه هيه
* * *
( 10 )
هلي ..وشرّعني هواكم باب للخطوة الغريبة
وخايرني عيونكم :
ذِل لوݘتل ؟
وآنا والموت آلتحمنا بمايكَم ساگ وحجل
الروح شاخص والعمر برگة گمر والموت ظل
أويه كل مغدرة زمرة رصاصه
أويه كل لهبة أصرخ بدمّي إشتعل
الدنيا من يشح ضواها الدم بكل حيله يهل
هلي ... وآخر مكاتيبي كتبته الكم على الگاع
إبنكم باعته الدنيا ولا آنباع .
* * *
المقدمة النثرية للقصيدة ، ترسم لوحة لرجل سياسي ينتمي الى طبقة الفلاحين ، يكتب على ( أوراق لف السجائر المعروفة في العراق بإسم – ورق بافرة) كانت سائدة الإستخدام في أغلب مناطق العراق الجنوبية ، في بداية الخمسينات والستينات من القرن المنصرم، وهذا الفلاح الثائر إسمه (أبو محيسن) من أهل الناصرية ، كان قد أودع سجن ( نگرة السلمان) المشهور والخاص بالسجناء السياسيين ، وأغلبهم من الحزب الشيوعي العراقي ،ويقع في محافظة المثنى ، على الحدود السعودية العراقية . وليس لدى هذا السجين سوى ( دفتر لف السجاير هذا) , بمعنى أن الشاعر ينطلق بتوصيف الحالة من ضروراتها الذاتية والموضوعية كي يرسم حالة إنتماء صادقة لهذا الفلاح اليساري السجين ، وهو ( يكتب) بعض خواطره لأهله، على هذا ( الدفتر) المخصص للف السجاير، ( وهنا نلمس أن كلمة أهله) تعني تنظيمه الحزبي ، من ناحية ، ومن ناحية ثانية تشير الى أهله الحقيقيين الذين ينتمي إليهم ، وقد تنسحب الدلالة على كل الأصدقاء والموآزرين له ولحزبه , وهنا نلمس قوة الإيحاء في رسم المفردة الشعرية ، التي تقرأ على أكثر من وجه ، وتلك واحدة من خصوصيات عريان السيد خلف الشعرية .
إذن ، أشارت هذه المقدمة ، وبشكل مباشر، الى أن القصيدة ( ذات طابع سياسي) منذ الوهلة الأولى, الأمر الذي سيفسر – لاحقاً- بعض إسقاطات المباشرة في القصيدة ، وكيف سيتخلص منها الشاعر بحرفيته العالية . فيما يكون – المقطع الأول- يشير الى بدايات ( ثورة الأهوار) عام 1968م حيث لجأ – الثوار الشيوعيين- إلى منطقة الأهوار في جنوب العراق، وآتخذوها ملجأ عصياً على الحكومة ،في حالة آقتحامه ، لذلك تظهر مفردات تلك البيئة على القصيدة ، مجسّدة حالة التفاعل الثوري – عند أبو محيسن- ولحظة وصوله الى – الهور- حيث ، الماء الأزرق، والقصب ، الذي شكل للثوار ( كعبة) بوصفه الحامي الأرأس والمتراس الأصلد لهم من كل طوارئ مفاجئة من الحكومة التي ( تزورهم على شكل زركَات ) مفاجئة ، قد توقع بهم . لكن الحالة الثورية ترفع درجة اليقظة عندهم كونهم ( أصحاب حق ) وأن الناس تنظر إليهم بآعتزاز بطولي يعزز قدرتهم على الصمود ، لذلك نقرأ عبارة الشاعر ( وعلى واهسكم عرفنا الموت الآول، وآستحى وعينه آنثنت من عينه) هذه العبارة المجنحة بجماليتها المرسومة بعناية وبساطة ، قد تعجز عن مجاراتها بالتوصيف العبارة الفصيحة في رسم تلك الصورة في مواجهة الموت ، أو تلك العبارة التي يصوّر زمهرير البرد وهم يخوضون ليالي الشتاء في تلك المستنقعات المائية ، وكأنهم في نزهة وليس في حالة قتال (وݘان ليل الخوف لفحة ريح شتوه ولو شبݘنا الگاع يعرگ ليلنه . ) هذه المفردات لاتدانيها مفردات ، تعبر عن حالات المقاتلين ، لأنها من روح تلك البيئة التي تفهم أبعاد مضمراتها النفسية ولأنها عامل رئيسي في الدفع والمواصلة في خوض النضال. وعلى العموم ، كان هذا المقطع يعبر عن حالة الإقدام المتناهية عند الثوار من أجل قضية آمنوا بها.
فيما يوضح – المقطع الثاني- حالة الفرح التي يستقبل بها الثوار عند زياراتهم الخاطفة الى شواطئ الأهوار ، وكيف يستقبلهم الناس ، دون وجل وخوف ، فيما ترسم عبارات التحدي للسلطة أفقاً يؤمن به المقاتلون ، وهم يرددون في ذواتهم أمنيات صادقة يؤمنون بها تقول :( الموت من يحصد الوادم .. باگه باگه ) (والصوت من يصطي آعلى ظالم باگه باگه) حيث تشير مفردة الجناس ( باگه) في البيت الأول الى معنى ( مجموعة مجموعة) فيما تكون في البيت الآخر بمعنى (سرقه من الحياة) ونلاحظ الترابط الجميل بين الطباق في المفردات ( يصطي و باكّه) حيث التلازم في التوظيف والدلالة والبناء الشعري الجميل .
فيما يرسم المقطع الثالث، حالة من تداعيات الخوف المبطن والموجه ضد السلطات ، دون أن يكون هناك مباشرة واضحة، فيما تتداعي الأماني لإستحضار الأهل (وسوالف) الديرة والضيوف ، والتي لايروها ، ولكن يعزّون أنفسهم بأن خطارهم ( تراب الجزيرة) كتعبير عن حالة حالمة بالضيف ، بوصفها طبع متأصل تشتاقه الروح لتتعايش معه ، حتى وإن كان سراب .
فيما يستحضر الشاعر، وهو يتحدث بلغة (بطله) في المقطع الرابع ،طيوف الأهل والأحبة وهي تعاود عيونه ، وهو في لجة النضال ( وطيفكم عاود على عيوني حنينه ...وجرّعت روحي لآجلكم حنظل الوحشة ). حنظل الوحشة ، توصيف لمعادل موضوعي يكشف مرارة الإشتياق في الروح ، ومقدار حالة الصبر في روح الإنسان لتفضيل الأولويات في مسارات الوجود ، وهي درجة إختبار الذات في موضوعها ، ومن هنا نفهم عبارة الشاعر ( ولگيت الروح بالصفنات أمينه) بمعنى الإنتماء للناس هو مقياس النضال .
والمقطع ذاته ،يظهر الإسقاط الطبقي ، في محموله الماركسي المؤدلج ، إذ حاول عريان الإيحاء بين العمال والفلاحين حين قال :( وبينه بينه ...إشما تعب لف المغازل بينه بينه ) . فيما ينقل رؤاه الإجتماعية ، في المقطع الخامس، كجزء لاينفصم من تفكيره المقلق على ناسه وذويه ، لكن تبقى العبارة تحمل مدلولاتها السياسية حينما يقول : ( وݘان ݘفي يلاعب النسمة وذرى الگذله عشب ... وݘنت أسميكم الذمه ، وݘنت أشيلنكم وصية بغير حَز ماتنكتب ) فالوصية ، موقف أخلاقي ، يحافظ عليه الشاعر من خلال مضمرات النص ومحاميله المؤوّلة في البعد السياسي ، وهنا تظهر قوّة التوظيف عند الشاعر، حينما يفرض القراءة على المتلقي على أكثر من وجه ، وتلك أيضاً ، من سمات عريان الإبداعية في الشعر .
في المقطع السادس، يستوقفنا الشاعر أمام حالات إجتماعية في الريف العراقي ، تشكل فولكلوراً قوي الحظور في الذاكرة الجمعية ، مع كشف لحالة الواقع الإقتصادي الضعيف ، ولكن إبتهاجات الناس تتجاوز عسر الحالة من خلال شكل التآلف الوجداني فيما بينهم ، يقول : (وݘان ...دخان المواگد ݘلمة مروّه وهله من يغفى الحنين ، ..وصوّغتنا عيونهم بطابگ دنان،... ولبن شݘوه وݘلمة مگطوعها بطول السنين) .
بعض هذه المفردات ، لايحملها القاموس الفصيح، ولا تتداولها لغة المدينة ، فعبارة ( وصوّغتنا عيونهم طابگ دنان) ترسم معالم الترغيب في الضيافة ، وتقديم النادر- الطابگ المصنوع من ( حب الدنان الناعم) مع إيحائية لفت العين لهذا المصنوع ، وكأنه هدية ، والتي أوحت بها كلمة ( صوّغتنا) المشتقة من كلمة ( صوغة) أي الهدية في مفهوم الريف ،ثم مع هذه الهدية ( لبن شݘوة) أي ذلك اللبن الذي يشتق من خض السقاء ، بعد فرز الزُبد عن اللبن، مع كلمة شوق ووِد متسرمدة في ثنايا الروح بعزف الشوق كلّما إشتعل الوجد في النفوس ، أثناء الغياب ، هذه المفردات توقض الضمائر الغافية في حالة حظور شاهدة المكان ,وتلك أيضاً ، من صيدات عريان الشعرية .
المقطع السابع ، يعزف على وتر اللقاء بالأهل والأحبة ومن ثم التوديع ، بعد تلك الزيارة الخاطفة للثوار،حيث يكون هناك ( الكتمان الواضح للزيارة) خشية أن توصل أخبارها من قبل ( المخبرين) الى السلطة ، لذلك جاء توصيف الوداع على النحو التالي : ( وزتتنا الظفاير والضماير والخناجر والدفو الغطى الݘفوف) ومن ثم عبارة ( وݘانت الهلهولة خرسة ، تضيع بالشفه وتطوف) وهو تعبير جميل جداً في قراءة وجوه الناس التي تحاول التعبير عن فرحتها بالقدوم ، لكن – الحذر- يُلجم حالة الزغردة ، أي الهلهولة ، ويبقيها أسيرة الشفاه ، ويلحظها القريب المقطع الثامن ، يدورفي فضاء حالة التداعي الحالمة وحضور أخيلة الأهل ، ومنلوج داخلي يحاور فيه الشاعرعن رغبات نفسه ورغبات أهله في الكتابة لهم عن ( حالة الهور) التي يعيشونا كساحة للنضال، وكتجربة جديدة عليهم ، ويتماهى بالتوصيف ، حتى يصل بذلك التماهي ، في المقطع التاسع ، الى التعبير عن حالة الموقف السياسي المتحدي للمستحيل عندما يقول : ( وكحه النفس ماتفعل تلين ) أي قوية وترفض أي مساومة ، ويعتبر ذلك موقفاً يحدد به نفسه .
أماالمقطع العاشر فقد أراده عريان أن يكون خاصاً به ، كموقف سياسي وإبداعي بنفس الوقت ، حيث كان البيت (هلي ..وشرّعني هواكم باب للخطوة الغريبة وخايرني عيونكم، ذل لو ݘتل )
وهذا موقف الإختيار بين أن يعيش مقتولاً ، ويصبح شهيد ، وبين أن يعيش ذليلاً ، كما تريد السلطات السياسية ، الأمر الذي فضل أن يكون شهيداً، كي لا يتلبسه عار الذلة ، ولذلك قال في نهاية المقطع ، وهو البيت الأخير في القصيدة أيضاً : ( هلي وآخر مكاتيبي كتبته الكم على الگاع .. إبنكم باعته الدنيا ولا باع ) وهنا أراد عريان أن يقول كلمته السياسية فقالها بهذا الوضوح الناصع .
كما أعتقد ، أن هذه القصيدة كتبها عريان عام 1973م ، كقصيدة طويلة ، حاول فيها أن يقترب من شكل ومضمون قصيدة مظفر النواب ( حݘام البريس) والتي كانت أجوائها ومضموتها ومكانها الجغرافي وبطلها الشيوعي أيضاً، هي نفس أجواء وأماكن ماكتيه عريان في تلك القصيدة، مع السبق لمظفر النواب، حيث كان مشاركاً حالة العمل السياسي في الأهوار،وكتب قصيدته تلك في عام 1970م ، بوصفه شاهد عيان ، لذلك من يقرأ القصيدتين لاشك أن ستعيده الى تلك الأجواء والحواضن لبيئة الأهوار،مع الفرق أن مظفر النواب في قصيدته تلك واضح المجاهرة بنقده للحزب الشيوعي العراقي ،فيما أحجم عريان السيد خلف عن ذلك ، رغم أن حركة أنصار الأهوار كانت من الفصيل المنشق عن الحزب الشيوعي العراقي ، والذي كان يعرف ب ( القيادة المركزية) ، بمعنى آخر أن عريان أميل لمهادنة (اللجنة المركزية) لكن هواه مع ثوار الأهوار ، وكل القصيدة تقول ذلك ، بل والأنكى ، أن عريان كتب قصيدة أخرى عن مناضل آخر ، كان يشتغل ( بلاّم) أي صاحب قارب وكان ينقل أنصار الأهوار ، من مكان لآخر، بمافيها نقلهم الى الأهوار الحدودية بين العراق وإيران في هور الحويزة ، كان هذا ( البلّام ) أو مايعرف بتلك النواحي بإسم (المعيبر) وكان إسمه (عبد) وكانت قصيدة عريان التي تمجد بطولة هذا البلاّم تحمل عنوان: (المعيبرعبد) وهي قصيدة تحكي عن نفس أجواء وحياة الثوار في تلك المسطحات المائية في العراق ، والمعروفة بإسم الأهوار يقول عريان في بعضٍ منها :
عبد ستر قميصه، اعله اليعبرون
روحه ابدربهم شعل
يكشف الليل
وفرش جفنه السمح
عن لا يعثرون
وتنز يغلب السابح على الريح
ويحومر منتشي
ابطور اليغنون
تمايز نخوته
وصوته وهوى الناس
وشبابه اليحلم ابليلة كلبدون .
وبعيداً عن الموقف السياسي لعريان السيد خلف ، نرى أن نظمه الشعري ، بقصيدة ( گبل ليلة) دخلت مضمار الحداثة الشعرية التي أسسها مظفر النواب، لكن عريان ، من خلال النماذج أعلاه ، ظل يراوح بين الشعر الحديث والكلاسيكي المقفى ، وروحه أهوى وأميل إلى الثاني ، حيث أن هذا الطابع متأصل في روحه وهو عليه متطبع ، وهذه الإشكالية في أغلب منظوماته الشعرية ، يميزها النقاد على أنه مطبوع على ( الكلاسيكي) لكن هذا الكلاسيكي ، يبذ الحداثوي ، بين أوساط الشعراء الشعبيين في العراق، ومتلقين شعره بهذا النمط أكثر بكثير من متابعي نمط الحداثة ،لذلك مال عريان الى القديم- الكلاسيكي ، أكثر منه الى الشعر الحديث ، وحسم ذلك بشكل إبداعي عندما أوجد ( لونه الخاص) في النظم الشعري ، والذي يعتمد القافيتين والوزن الواحد في النظم ،والذي يعرف في العراق باسم ( النصّاري) كما أشرنا في مقدمة هذه المقالة ، هذا النمط الذي أصبح مدرسة سائدة عند أغلب شعراء منتصف السبعينات والثمانينات والتسعينات من القرن المنصرم ، ومازال ثابتاً حتى هذه اللحظة ، ومن نماذجه الجميلة التي كتبها عريان في منتصف عام 1975م هذه القصيدة التي تعرف بإسم( جية العيد) يقول فيها:
يناهي الشوگ ذمٌه وذات من ذات
وفرق مابين حالي وحالك إبعيد
سنه وصدّك يِضَوگ الروح لوعات
ويݘملٌي الجروح جروح ويزيد
أبات إبحضن صبري إلليالي ويباتْ
جرح يصحه وجرح متغصّب إيزيد
وأگول إشوالف السرحان للشاة
إعله سݘّه وگاوداه الإيد بالإيد
إلك ݘانت يحلو الطول جيات
عجب تبخل علينه إبجيٌة العيد
* * *
والمتابع لهذه القصيدة يلاحظ كيف أنها بنيت على حرفي روي، : هما الدال والتاء ، في نهاية كل شطرة من البيت ،مع وزن واحد، هو وزن النصاري الذي يبنى على تفعيلة ( مفاعيلن مفاعيلن مفاعيل ) وتسير على هداه القصيدة في كامل بنيانها ، وعريان على هذا النمط من الشعر لايمكن أن يجاريه شاعر آخر، إذ هو متمكن من صنعته بشكل فريد ،وهذا لايعني أنه ينظم فقط بهذا اللون من النظم ،بل على ألوان أخرى من الشعر الكلاسيكي ، ويجيدها أيضاً ، ومن ذلك قصيدته المشهورة ( جثة إلتم عليها الدود) والتي تعطيه ميزة الإقتدار بشكلٍ ملفت للنظر من حيث القدرة والتفنن في صياغة الأفكار وصبها بقالب عذب وجميل ، مع إستخدام حافل بمفردات البيئة الشعبية التي تكشف موسوعيته في استخدام تلك المفردات ، وكأنه يبعث الحياة فيها ، فتتراقص تلك المفردات ، على أنغام أوزانه الشعرية ، ساحبة المتلقي الى فضاءات سحرية ، سهل العثور فيها واكتشافها ، ولكن صعب المنال في توظيفها بهذا الشكل الذي يجيده عريان السيد خلف ، بمعنى آخر ، أن إسلوب ( السهل الممتنع ) في النظم عند عريان ،يأخذ شكل الفرادة عنده ،بحيث أنك تشعر بأن عريان يتحدّث نيابة عنك بشكل جميل ، وتلك واحدة أخرى من ميزات شاعريته العالية في الشعر الشعبي العراقي ، الأمر الذي يزيد في جماهيريته ، ويوسع في مداه الشعري ، لذلك تخطى حدود حاجزه الجغرافي العراقي ، وراح يُسمع ويُقرأ في بلدان عربية أخرى كثيرة، ويدعى الى مهرجانات دولية وإقليمية ، وكل هذا بفضل سعيه المتواصل للسهر على قصيدته وتقديمها للجمهوربشكل عالي البناء وعميق الغور،وصورة إيحائية تشد المتلقي إليها بشكل عجيب ، تعالوا نقرأ قصيدته ( جثة إلتم عليها الدود ) التي يقول فيها :
تنيتك عود .. ينشاف العطش بيه
ؤ عله .. المامش ،اهروشي اتجود
الوذ ابشيمة العاگول .. واصعد على
الآه اصعود
ومراوح يعمر اجفاك .. جرح ايصيح
او جرح يهود
ؤ تنيتك وانت ميت شوگ
ظنه اعله اليموت ايعود
اتاني الود .. يدمعة عين .. طاحت
وشيردها اردود
واشعِزة الدمع بالعين، لو شح ساعة المنگود
دخليني اعله بالك .. طيف لو عادت أيامي يعود
ؤ خليني اويه دمك شوگ من شوگي البلايا إحدود
ومحالل بعت وشريت بيهن والعمر معدود
ؤ مو ندمه الغزالة اتطيح صيدة بشبݘة الصايود
لاݘن يالعزيز الحيف ع الصايد يگع مصيود
لو ذيݘ الليالي تعود ، ؤ لو شطنه الجزر خنياب
يومين ويرد صيهود
ݘنت اصرخ : يهلغراف ما تغسل
اگلوب السود
وتشلبه اعله سور الغيض لو باب العتب مسدود
وگبالك وفك الروح من حبل الوفه المعگود
وتكتر ولك دنياك .. خل تنگص دخلي تزود
واتصبّر .. يگلبي انعيش تتواكَد وآگلك هود
دنياتك نحيسة عين والوادم خلية جود
وصوابك يجرح الآخ كل آخ التلݘمه إيزود
يمعتب هظيمه اعليك تحصد باگة المحصود.
و تعتب والعتب مدفون جثه إلتم عليها الدود
هذه القصيدة تفاجئك بالمفردة البسيطة السهلة ، لكنها تحمل معانيها ودلالاتها العميقة ،ويغريك التوظيف البنائي ، والقدرة العالية في هذا النظم الكلاسيكي ،المحكم الأوزان، والمرتكز على القافية العذبة التي تنسجم وجرس هذا الوزن، بحيث أن حالة الكمال النظمي والبناء الشعري، أخذت كل أبعادها الجمالية ، وعريان يضيف إليها بعداً آخراً، يتمثل في طريقة الإلقاء الساحرة التي يملكها عريان ، مما يفرض على المتلقي السماع بكل الحواس ، وليس فقط بحاسة السمع، بمعنى آخر ، أن عريان يغريك ويغويك ويشاغل عقلك ، ويجيش كل حواسك ويشدّك إليه ، كي تكون كلك آذان صاغية ،مما يجعله قادراً على توصيل فكرة قصيدته الى المتلقي بسهولة ويسر، وتلك أيضاً، سمة أخرى من سمات شاعرية عريان المتميزة .
كل هذه الأمور جعلت من شعر عريان السيد خلف أن يجتاز عتبة كل بيت ويدخل الى النفوس بسهولة وترحاب ،الأمر الذي جعل عريان أن يوظف شعره هذا في المضمار السياسي ، بحيث أنك تتلمس هذا الجانب في أغلب قصائده ، ولكن ليس بالشكل المباشر والفج ،بل بالتأويل وتضمين دلالات الكلام ومرموزياته مفردات شعبية تلزم العقل لأن يفسرها على أكثر من وجه ، دون أن يخرج عريان ، في هذا الشكل عن أصول نظم القصيدة ، ماخلا بعض القصائد السياسية من مثل ( عتاب لعبدالكريم قاسم ، والشجر يثبت شجر والخاوية إتطيح) وغيرها .
وعريان ينظم قصيدته السياسية ليس بإسلوب واحدٍ ، بل بأساليب مختلفة ،وأنماط مألوفة في مجتمع البداوة والمدينة ،وهذا يعني أن عريان يعرف طرائق توصيل قصيدته ، السياسية وغير السياسية ، ولكونه شاعر يساري، فإن التأويل عند القارئ يحيله الى تسيد الجانب السياسي على الجانب الإجتماعي ، وعريان ، من جانبه، يزيد هذا الإيهام عند القارئ ، لأسباب شتى ، منها : أولاً، تجاوز عقل الرقيب ومقصه ، لاسيما وهو ينشر قصائده في أغلب الصحف العراقية .
ثانياً، يريد التميز عن بقية الشعراء بهذا الإسلوب ، ثالثا ، تأكيد قدرته على الصناعة الشعرية ، بفرادة وتميز ، رابعاً، إضفاء طابعاً خاصاً ، يشير الى بصمته الشعرية ، في هذا التفرّد .
ففي قصيته المعروفة ( ياگلبي لا تتمنى) فإنه يمازج بين ثقافة الريف والمدينة والبادية ،مع اختيار وزن شعري معروف بإقاعاته في كل هذه المناطق ، رغم أن هذا اللون من الشعر سائد في البادية ، وأقرب الى ( نظم الميمر) من حيث الإيقاع لا الشكل ، بمعنى أن ( لازمة القصيدة) وهي من النمط الكلاسيكي ، تملي على الشاعر أن تكون قوافيه تتناغم وتلك ( اللاّزمة) بحيث أن المتلقي يشعر أن هناك إيقاعاً راقصاً يلف القصيدة، ويعلي من ضجيجها في النفس ، مع وجود مفردات شعبية مستخدمة في ثقافة تلك البيئات، وهذه واحدة أخرى من ميزات شاعرية عريان ، يقول في هذه القصيدة :
لا تتمنى.... ياگلبي لا تتمنى
ماطول جافانا الهوى وبطلنا
لاعين ظلت خاليه ولا ظل ولف يتعنّى
لاتدگ يالدگك قهر مقفول باب الجنه
وهينوب ما مش ضنه !
آه يا ياوكتنه الماصفت نيته وزرگ عينه النه
وطحنا بوسط شلوة هفا وكل ذيب يبرج سنه
ردنه نگف ونهوش نحمي الروح ما امكنا
وانت بجلادة عين صحت اكلنه
وماطول راضي بموتنا آستاطنه
آه يا خسارة نوحنه ويارخص ذيݘ الونه
ردفن علينا آسهامكم وعلى الصبر دامنه
لا احنه للدنيا صفينا ولا هوى الدنيا النه
متبدّل بطبعه الوكت لو احنه اللي تبدلنه
آه ياهواهم باوّل ايامه شكثر دللنه
ومن وصل طينتها الظهر كلها تبرّت منه
لا سالفة بشفة محب ولا عاذل اليعذلنه
أُوحشت دنيانا وصفت ݘنهه ابد موش النه
متبدل بطبعه الوكت لو احنه اللي تبدلنه
فالمفردات : هينوب ، شلوة هفا ، نگف ،دامنا ، نهوش، أغلبها مفردات البادية ، فيما تبقى بقية المفردات تتوزّع على قاموس المدينة والريف ، إضافة الى أن ( الإحساس الشعبي ) وسايكولوجية التعامل الإنساني في تلك البيئات يقبل بوجود مضمامين تلك المفردات ، بوصفها تعبر عن حالاته الشخصية ، والتي تبرز أجواء القصيدة دلالاتها الشعبية والنفسية ، بل تعبّر عن روح البداوة الخشنة ، والتي يشترك معها الريف العراقي بتلك الخصال , التي تحاكي الذات والواقع وتتحدّى الزمن ، وعريان هنا ، وجه نقداً الى السلطة السياسية القائمة والى بعض الأحزاب السياسية التي ينتمي إليها اليسار برمته ، فحينما يقول ( آيا وكتنه الماصفت نيته وزرگ عينه النه ) فإنه يشير الى الحالة السياسية السائدة في العراق في نهاية السبعينات من القرن المنصرم ، وأن الوقت ليس بصالح اليسار ، ولم يلتفت لهم ، أي الزمن ، فيما تشير عبارة ( طحنا بوسط شلوة هفا ،،، وكل ذيب يبرج سنه ) هذه العبارة بدوية بالمطلق ، إذ أن مفردة (شلوة هفا) تشير الى مجموعة الذئاب الكاسرة ، وهو وجماعته قد وقعوا في وسطها ، والعبارة هنا ، تؤوّل الى توصيف حزب البعث في تلك الفترة ، عام 1978م ، حيث إستشرس في تصفية خصومه السياسيين في العراق ،وهو على رأس السلطة ، فيما تشير عبارة ( وانتَ بجلادة عين صحت إكلنه) تقرأ على أنها نقد للحزب الشيوعي العراقي الذي ينتمي إليه عريان ، والذي كان حليفاً لسلطة البعث قبل عام 1978م ، وكان لايستطيع الدفاع عن أغلب كوادره التي زجّ بها البعث في السجون والمعتقلات ، فيما تكون عبارة ( ومادام راضي بموتنا إستاطنه ) هو توجيه الخطاب للحزب الشيوعي الذي ( وافق ) على تلك المأساة من خلال عدم الدفاع عن أعضاءه ، وقد تقرأ العبارة بشكل آخر ، من حيث دلالتها الإجتماعية ، إذ يكون المخاطب ( الحبيب) الذي يوافق على قتل حبيبه عن طريق السماح للذئاب بافتراسه ، فيما تكون عبارة ( متبدّل بطبعه الوكت لو إحنا اللتبدلنه ) تشير الى التغير العام بسياسة البعث الحاكم ، ومهادنة الشيوعيين لهذا التبدّل ، لأن نهاية العبارة تخاطب الذات ( لو إحنا اللتبدلنا ) بمعنى أنفسنا التي تبدلت , ورضينا بهذا الواقع ،مع علامة الإستفهام الكبيرة التي يفترضها الشاعر.
وتأكيد هذه القراءة السياسية للعبارة ، هو توكيد الشاعر بعبارة أخرى على هذا التبدل في الموقف عندما يقول ( ومن وصل طينتها الظهر ..كلها تبرّت منه) ومعنى ( وصل طينتها الظهر) هي عبارة تشير الى عمق الأزمة عند الأنسان الذي يوصف نفسه ب ( الفرس) وهي تغوص في أوحال الشدة ، ويصل الوحل الى ظهرها ، بحيث لم تستطع أن تكون قادرة على السير أو التقدم ، وهي أخطر حالة للتوصيف عن المسألة ، سياسية كانت أو إجتماعية ، ومفردة ( كلها تبرّت منه) تحسم القراءة السياسية ، كون التعميم في العبارة يشمل الكل ، وينتقد الكل ، بحيث أن الأبيات الأخيرة في القصيدة تشير الى الجفاء المطلق بين الشاعر وحزبه وأصحابه ورفاقه حيث منطوق عبارة ( لاسالفة بشفة محب ولا عاذل اليعذلنه ) تشير بوضح الى جفاء الناس عنه ، أحباب كانوا أو عواذل ، ويختم القصيدة بالبيت الذي يقول ( متبدّل بطبعته الوكت لو إحنا اللتبدلنه ) هو أراد البوح بإيحاء مقصود للحزب الذي ينتمي إليه ، وكأنما أراد القول ( متبدّل بنهجه الحزب لو إحنا اللتبدلنه ) وآبتعد عن ذلك كي لايقع في المباشرة السياسية .
وعريان ، أعذب في الشعر عندما يبدأ في الغزل ، فهو مفرط في توصيف حالته وعذاباته أمام الحبيب ، وكأنه يتماثل –عملياً- ومقولة القشيري المتصوّف ، التي تقول :
( بني الحبّ على القهرِ فلو ... عدل المحبوب يوماً لسمج
ليس يستحسنُ في حكم الهوى ... عاشقُ يطلبُ تأليف الحجج )
ففي قصيدة صغيرة له إسمها ( حسن ياحسن) يجسد فيها تعاشق الحواس كلها مع وجه الحبيب وكيانه ،ولكنه ، مع ذلك، تبرز فيها ( ذاتيته) كإنسان يعي معنى الحب ومعنى الحبيب ، أي جدلية التعاشق والحياة في منظورٍ متكافئ عند الطرفين ،ولكن ( أحاسيسه السياسية) تظهر بمجرد إمعان النظر في القراءة التحتية للنص الشعري ، يقول في هذه القصيدة :
حسن ياحسن
يمولع العين الما ترضى تمل
تملها انتَ ويملها الكل
تملها ارموشها وينݘسر بيها الظل
طبع روحي .. ولك روحي أريحيه اتشيل راس الخل
روحي امعلمه وتحمل
جدَم يصعد جدَم ينزل
ݘثيره الحملوها اذنوب گالوا يوم ماتݘمل
عمرها ولا تگول أحاه واليشݘي الهضيمة ايذِل
ودلل بالهوى اتدلل
يهل الحلوين: مامش طيف يطوي ارموشنا وينزل ؟
يهل وكحين : مامِش زين ويّ آهل العدِل يعدِل ؟
وتگلي بوجه ريح اثبت ؟؟
لا يل الحسن مابياش سمݘه وفولكم تهشل
يلاگني ويَ مجرى الماي عشرة تصيب وُحده اتزِل
هذه القصيدة واحدة من أجمل (فلتات) عريان السيد خلف ، التي حاول التخلص بها من سيطرة ( الإسقاط السياسي) إلاّ أن الهاجس هذا ، ظل يوحي بوجوده من خلال بعض الأبيات 7 و 8 ،ولكن طابع القصيدة العام بقى متماسكاً للمضمون الإجتماعي , وأعتقد ، أن فترة السبعينات من القرن المنصرم ،كانت عاملاً مهماً في وجود هذه الظاهرة السياسية ، سلباً وإيجاباً، وعريان ليس إستثناءً منها ، لاسيما فترة مابعد عام 1978م ، حيث أعلن حزب البعث في العراق معاداته لكل الإبداع العراقي ، شعراً ونثراً، إذا لم يكن يخدم توجهاته المؤدلجة في سياقات مضامينها السياسية ، لذلك نرى في أدب تلك الفترة طغيان الهاجس السياسي عند الشعراء أكثر من غيرهم ،ومع ذلك إستطاع عريان أن يعالج مسألة ( العشق) في وجوده الشخصي والإبداعي في أكثر من قصيدة ،وأكثر من ديوان ، فرغم حالة المراقبة السياسية عليه ، بشكل صارم من قبل السلطة السياسية في العراق ، إلاّ أنه إستطاع أن ينجز الكثير من دواوينه الشعرية ، ومنها :
1- الگمر والديرة – صدر عام 1967م
2- صياد الهموم
3- گبل ليلة
4- أوراق ومواسم
5- شفاعات الوجد ، بالإشتراك مع مظفر النواب وكاظم إسماعيل الگاطع، صدر عام 1995م
6- تل الورد ، الصادرم في عام 1998م
وأعتقد أن له بعض الدواوين الشعرية التي لم تصدر بعد ( مخطوطات) وعلى العموم ،يمكن أن نقرأ قصيدته ( تل الورد) التي جاء الديوان الأخير بإسمها ، كقصيدة موضوعها الحب ، أكثر من سواه من الموضوعات الأخرى :
تل الورد
عاتبني ابعتابك خل ترد روحي
ؤهسني . . ابدلالك . . ياشتل شمام
حتى ازهگ . وشوفك وينها اجروحي
بيّ اشبع غرورك . .
يا أعز ݘتال
يتمايل غنج لو بيه ثگل نوحي
تعاتبني اعله حالك . .
صار بيك الصار
ݘا شتدّل اجروحك هاي وشتوحي
گبل حبك . . جبل مالاح طرفي السيل
هسه اول زخاخ
ايغطن سفوحي !
ومنك ماروت يدعج بعد روحي
ولا رادت . . ولاسمعت . . ولاحبت
لاتحمل ((نجاة)) ابليل لوغنت
اعلمها الورع واطبگ عليها الباب
تذكر ضحكتك . . واجهرت ماعنّت
لا لامتك ليش . . وشوفك اصبح طيف
اشلون ابعدت عنها . .
اشلون ماجنت !
وعيونك ابغير عيونها اتهنّت
وݘفوفك ابغير اجروحها اتحنّت
يا تل الورد ، تل آخر السباح
حتىّ اطفه . . من اشوف ارويحتي انتلّت
گلت انݘفه الماي .
وذبل عود الياس
والوادم نست وغيرنا آتسلت
وأول ما شفت طولك نسيت الصوت
وروحي بلا سبب بݘفوفك افتلت
ياگمرة حياتي البعد ما هلت
يا انت . . وكفاني اتوهدنت ويّاك
تحسبني . . وحسبتي وياك ما فلت
كلمن عرّف وشره . . وشال منها الشال
وتعده العمر والوادم اندلت
هسه الراح راح . . وبين ايديك الروح
بس ذمه ابرگبتك يوم لو سلت .
والملاحظ على هذه القصيدة أنها ( خالصة لوجه الحب) فهي تعبيرات عن وجد صادق يملأ السريرة بعنفوان يؤكد وجوده ، وعريان به يتألق بوضوح شاعر نرجسي ، يحكم صناعة الكلمة بآقتدار عالٍ .
* * *
ومن عالم القصيدة الى عالم ( الموّال) الشعري ، والذي يحتاج الى شاعرية عالية ، متمكنة من النظم على الجناس لصياعة المشاعر الذاتية ، بقالب مختلف ومتميز في عالم الشعر العراقي، ذلك اللون الذي يقصده الكبار من الشعراء للنظم فيه ، وإثبات القدرة والموهبة الشعرية ، لأن أكبر شعراء العراق ولجوا فيه ، وأفصحوا عن إبداعهم الحقيقي في صنعة الشعر ، وعلى رأسهم يقف الشاعر الكبير الحاج زاير الدويݘ ، ذلك الذي وضع بصمته المتميزة على هذا اللون من النظم في الشعر الشعبي، ومن هنا ندرك أن أغلب شعراء الحداثة الشعرية أحجموا عن الدخول الى عبابه ، وظلوا عند الضفاف ، وترددوا في بابه ، لكن عريان ، الواثق من شاعريته ولج بحر الموال العراقي بإقتدار مشهود له ، في هذا النمط الشعري، برزخ الفنون الشعرية السبعة الملحونة ، كما يسميه الشاعر صفي الدين الحلي ، شاعر الفترة المظلمة في العراق ، وهذا النظم من الموال يعتمد على سبعة أبيات منظومة على البحر البسيط ، وكل ثلاث أبيات تنظم على جناس واحد ، فيما يكون البيت السابع يعود بجناساته على الثلاث الأولى وأبدع عريان في هذا النمط أيضاً ،فآسمع ماذا يقول في هذا الموال الزهيري :
يادمعة العين سالت عالخدود وجرت 1
ومثلي على الناس ماصارت مصيبة وجرت 2
والنار يا صاح شبَّت بالدليل وجرت 3
اطّول يد النذل وانه اگصرت يدّي 4
ويظل جرح الگلب يا هالربع يدّي 5
ليه ماتراعون حگ للمصطفى يدّي 6
معلوم مذنب ولاݘن ما طغيت وجرت 7
معاني الكلمات : 1- جرت : إنسابت على الخدود .
2- جرت : حدثت .
3- وجرت : إستعرت من شدّة حماوتها .
4- اگصرت : قصرت . يدّي : يديه ، ومفردها يد ي .
5- يدّي : يتقيح .
6- حگ : حق . للمصطفى : كناية عن الرسول محمد . يدّي : جدّي ، كون عريان يمت بصلة النسب الى الرسول .
7- ولاݘن : ولكن . ماطغيت : لم أكو طاغياً . وجرت : من الجور على الناس والتكبر عليهم .
* * *
ومن الموّال ، ينتقل عريان الى الكتابة في نمط آخر ، عذب هو الآخر ، إسمه ( الأبوذية العراقية) وهو نمط شعري قديم في العراق وأصيل المولد فيه، يعتمد على أربعة أبيات مجنسة ثلاثة منها والرابع يختم ب ( ي ، ه )ويعتمد الوافر، في بحره العروضي، وهذا اللون من النظم شائع الذيوع في العراق ، ومن الألوان المفضلة في الغناء العراقي ، وقد كتب عريان فيه باقتدار وتميز أيضاً، إسمع ماذا يقول في هذه الأبوذية :
احبابي واعز من صحتي..صحتهم 1
جفوني ولا ضمايرهم ..صحتهم 2
بديه اعمت وبلساني ..صحتهم 3
اسمعوا شافوا ولا فزعوا عليه 4
معاني الكلمات :
1- صحتهم : المقصود حالتهم الصحية .
2- جفوني : من الجفاء والمفرقة . صحتهم : أي صحتهم ، بمعنى أيقضتهم
3- أعمت : أأشر بيداي . صحتهم : ناديت عليهم .
4- شافوا : رأوا . ولا فزعوا : لم يهبوا لنجدتي . عليه : إليّ .
* * *
وهناك لون آخر من الشعر الشعبي العراقي ، كثير الإنتشار ، وسهل النظم ، لكنه يحتاج الى كثافة في الصورة ، وقوة في الفكرة ،ومقدرة في التجانس بين الموضوع والذات ،كي يكون التعبير شديد القوة وسريع الفاعلية على المتلقي ، يقبله الغناء بشكل عجيب، ويتعاطى به الجمهور بشكل ملفت ، وتفضله النسوة في التخاطب والغزل ، وهو ينظم في بيتين يعتمدان القافية ووزن ( المجتث ) الميني على تفعيلة ( مستفعلن فعلان مستفعلاتن ) ، نظم فيه عريان وأجاد في ذلك ، ومنه قوله في هذا الدارمي الجميل :
سر وآبتلي من آحݘيه ومن آسكت إيشيع
حصتي وعلي تنسام والشامت إيبيع
* * *
إن ماتقدم من عرض وتشريح للإبداع الشعري لعريان السيد خلف ، يظهر بأن الشاعر أثبت فعلاً، قدرة متميزة ، وحضوراً لافتاً ، ومواقف سياسية تنتمي الى بسطاء الناس وفصائد تعبر عن مأساتهم ، وتعكس همومهم ، بإبداع قلّ نظيره في نظم الشعر الشعبي العراقي ، مما حدى بجمهور واسع جداً من الناس ، داخل العراق وخارجه، لأن يحفظوا قصائد عريان ،ويتعاملوا معها بحسٍ نقدي ، وتعاطٍ جمالي ،مما يشير الى المكانة التي تحضى بها قصائد عريان في الوسط الثقافي العربي بعامة ، والعراقي بخاصة ، مع تميز وآقتدار في الإبداع في صنعة الشعر الشعبي ، وفي أكثر من لون وبحر شعري، لذلك إستحقّ فعلاً لقب شاعر العراق بامتياز ، نظراً لاكتمال هذه الشاعرية لديه ، والتي عرضنا ، في هذا المقال ، بعض نماذجها ، على أمل إعادة دراسته بشكلٍ مفصلٍ ، حال عودتنا الى العراق . نأمل أن نكون قد قدمنا فكرة موجزة عن هذه الشاعرية الخلاقة عند شاعرنا عريان السيد خلف.
وسوم: العدد 808