لعبة النّسيان والتّذكّر وآليّات التّشكيل والرّؤية في رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" ج2
النّسيان الانعتاق وجدليّة النّهايات:
هذه الرّواية تزعم أنّها منحازة إلى النّسيان وتجاوز الماضي بما فيه من ألم،حتى أنّها تدعو إلى تجاوز الحاضر،والتّطلّع إلى المستقبل،ولكن الحقيقة عكس ذلك تماماً،فهي تلمز النّسيان،وهي تدعو إليه،وتكرّس التّذّكر وهي تهرب منه؛ فحتى " بهاء" لم تستطع أن تهرب إلى النّسيان إلى عندما عاشت الواقع كاملاً،وباحت بأسرارها جميعها، و" الضّحّاك" كذلك حاول أن ينسى ما حدث له في أرض الوطن،وأن يزوّر ماضيه،ولكنّه ظلّ حبيس وجعه وتذكّره " لقد أتقن كذباته التي زوّرها كما يشتهي؛ فأخبر الجميع في عوالم الثّلج والصّقيع أنّه سليل أمراء الشّرق،وأنّ جدّه الأكبر كان يملك آبار نفطيّة قبل أن يخسرها على طاولة القمار،وأنّ والده كان من أعاجيب دهره لأنّه وُلد بأسنان بعد أن حملت أمّه به لعامين كاملين،وأنّه طار نحو نجم في السّماء في ليلة قدر،واختفى هناك إلى الأبد. لقد ظلّ يكذب على الجميع حتى تحوّل إلى الكذب على الورق لينسى أوجاعه جميعها،فنجح في ذلك،وأصبح روائيّاً شهيراً لأنّه يجيد أن ينقل الألم من الصّدر إلى الورق" [3]
لقد بدأت الرّواية برغبة " الضّحّاك" في أن يبعث ذاكرة " بهاء" من العدم،ولذلك أخذ يقرأ لها في مخطوطتها الرّواية لعلّ ذلك ينعش فعلها " إذن عليه أن يقرأها عليها؛ لعلّها تكون محرّضاً لها على التّذكّر،ومحاربة طغيان النّسيان الذي أَدْرَكَهَا في وقت هي أمسّ الحاجة فيه إلى التّذكّر،وهو وقت العشق ولقاء حبيبها الصّغير الكبير " الضّحّاك"،ولكنّه عندما اكتشف كارثيّة ما هو موجود في هذه المخطوطة قرّر أن ينحاز إلى قرار" بهاء"،وهو النّسيان،وأحرق المخطوطة،وكتب لها ذكريات جديدة في رواية أطلق عليها اسم " أَدْرَكَهَا النّسيانُ".
لقد وصل " الضّحّاك" إلى نقطة الإفلاس التي وصلت " بهاء " إليها من قبل عندما استسلمتْ للنّسيان "هذا المرض عندما يلتهم ذاكرتي سوف يقضي على كلّ ما فيها من ألم وتوجّع وتمزّق وتهافت،وأخيراً سوف يدركني مدرك،وينقذني منقذ،إنّه النّسيان من سوف يدركني،وينقذني من ذاكرتي المشحونة بالألم،وأنا من كنتُ أحلم أيّها " الضّحّاك" بأنّ تدركني ،وأن تنقذني من أحزاني وضياعي وأوهامي،ولكنّ المرض قد سبقكَ إليّ،وقرّر أن يستأثر بي استئثاراً كاملاً" [5]
لقد قرّرت " بهاء" وقرّر " الضّحّاك" أن ينسيا كلّ شيء في الماضي إلاّ اسميهما،فقد صمّما على الاحتفاظ بهما لأنّهما أرثهما الوحيد السّعيد من الماضي التّعيس،وكلّ منهما حصل على اسمه من الآخر لا من أسرته ووطنه " الضّحّاك" عرض على " بهاء" أن تختار لها اسماً جديداً إن كانت ترغب في ذلك؛ كي يقطعها من الماضي بشكل كامل،بعد أن حظيتْ بحياة جديدة ومولد جديد،لكنّها صمّمتْ على أن يظلّ اسمها " بهاء"، وأن يظلّ اسمه " الضّحّاك" [7]
الرّؤية والتّأويل ومتاهة الرّموز:
المتاهة السّرديّة التي خلقتها سناء شعلان في روايتها هذه هي متاهة وهميّة إلى حدّ كبير؛ فهي توهم المتلقّي بأنّه في إزاء رحلة مضنية ومدوّخة في سرد يمتدّ لنحو سبعين عاماً من الوجع،وتزيد من فعاليّة هذا الوهم عندما تفتح المكان والزّمان على فضاءات غير محدّدة،فلا نعرف في أيّ وقت حدثت أفعال الرّواية،ولا في أيّ مكان،إنّما تكتفي بأن تقول إنّ ذلك قد حدث في الشّرق حيث يتكلّم النّاس اللّغة العربيّة،ومن ثم تشير إلى انتقال " بهاء" إلى الشّمال البارد الثّلجيّ دون أن تحدّد البلد أو المكان أو المدينة بالضّبط.
ولذلك يشعر المتلقّي السّطحيّ بأنّنا إزاء رواية خارجة عن المكان والزّمان،ومعنيّة بحكاية عاشق وعاشقة التقيا بالصّدفة بعد عقود ستة من الفراق والعذاب،ليجد العاشق " الضّحّاك" أنّ حبيبته " بهاء" قد عانت الويل في رحلة حياتها،وأنّها استسلمتْ لمرض السّرطان كي تضع حدّاً لمعاناتها ووجعها،في حين كان حظّه أفضل عندما هرب إلى البعيد،وعاش في وطن بديل حنون عليه.
وهذا تأويل سطحيّ جدّاً للرّواية،وهو ينزع عنها رموزها الكبرى،وإسقاطاتها الذّكيّة اللّماحة،فمنذ اختيار زمن السّبعين عاماً لمعاناة البطلة " بهاء" نستطيع أن نسقط ذلك على المعاناة الكبرى في تاريخ النّضال العربيّ في العصر الحديث،وهو نضال الشّعب الفلسطينيّ إزاء الاستعمار الصّهيونيّ الغاشم،والإلحاح على الرّقم سبعين هو إلحاح على هذه المفردة؛فـ "بهاء" هي تجسيد للضّياع العربيّ والاستلاب أمام منظومة عملاقة من منظومات الاستلاب حيث يغدو المواطن لعبة في أيدي أنظمة القمع التي قد تحوّل فناناً انتهازيّاً مثل "يراع طرب" إلى لوطيّ يستغلّ شذوذه للوصول إلى المال والشّهرة في مجتمع متساقط منهار " لكن ثريّاً مشرقيّاً لوطيّاً سبق المقطوعات النّسائيّة الأخرى إليه،واتّخذه له،وأعلى كعبه في امبراطوريّة ثروته،وأستحدث له مشاريع إعلاميّة وفنيّة لأجل أن يبقيه إلى جانبه؛ فما كان يستطيع أن يفارقه،أو يستغني عن فنونه في الشّذوذ الجنسيّ،بعد أن هجر الأغاني الوطنيّة والدّينيّة والإنسانيّة التي كان يتكسّب منها،ويزعم أنّه سفيرها لما تحمله له من شهرة وجماهيريّة ودخل عريض،وتخلّى عنها جميعاً لصالح شذوذه الذي فتح له كنز علي بابا والألف شاذّ".[9]،لكن "ثابت السّرديّ رفض الانصياع لأقدار الذّل والاحتلال،واختار قدراً جديداً صنعه بنفسه " هذه هي حكاية "ثابت السّرديّ"،وحكاية شعبه التي تتلخّص في أن لا تكون لهم حكاية سوى حكاية كابوسيّة واحدة ،اسمها العذاب والرّحيل والانتظار.ولكنّه دفع عمره ثمناً ليغيّر نهاية هذه القصّة،لتصبح النّهاية هي التّحرير،ولا شيء غير التّحرير".[11]،وبذلك استحقّ اسمه " ثابت السّرديّ"،كما استحقّ نهايته المشرّفة،وهي الشّهادة على خلاف النّهايات المخزية التي آلتْ إليها معظم الشّخصيّات في الرّواية التي سقطت في الظّل والعار ومزبلة التّاريخ،ولذلك عندما وصلت رسالة " ثابت السّرديّ " إلى " بهاء" قدّرتها،واحتفت بها،وشربت ماءها إعلاءً لقيمتها " إكراماً لقصيدته ذات الكبرياء الشّامخ طهوتها في الماء المغلي حتى تمزّقت،ثم شربتها كي تتمتّع أعماقي بكلّ كلمة كتبها لي،ولا تسرق النّوائب هذه الكلمات من يدي بعد أن سقيتها لجسدي كي يمتصّها حتى الثّمالة"[13]،ولذلك كانت " بهاء" تحتقره،وتسمّي كلّ شيء جبان باسمه " في حين ظللتُ أطلق اسم " هملان" على أيّ شيء خنثى أو جبان [15]
حتى أفعال الإنسانيّة والخير في صورها جميعها كانت " بهاء" تجعلها حكراً على من كان لهم باع في درب النّضال والحرّية،فابن عم " الضّحّاك" الذي أنقذه من جحيمه وضياعه،وأخرجه من المعتقل،وتبنّاه،وأخذه إلى عالمه حيث المهجر كان أيضاً صاحب تاريخ نضاليّ " لأنّ والده كان صديق شبابه ورفيقه في النّضال وهما يقاتلان في جبهة تحرير في إحدى القرى المداهمة من العصابات المتنمّرة على المسالمين العزّل،يومها كانا يملكان الكثير من العزّة والإباء والدّفاع"[17]
و " بهاء" لم تعشق في درب حياتها إلاّ الفدائيين والمناضلين " فذلك الفدائيّ الذي أُستشهد قبل أن يزرع قبلة على جبين حبيبته هو بطلي،وذلك العالم الجليل الذي اغتاله الأعادي كي لا يمطر علمه على أبناء جلدته هو فارسي،وأولئك الغارقون في بحار الدّنيا هرباً من الفتك والتّنكيل هم أحلامي" [19].
ونرى طفلاً صغيراً بريئاً مثل " الضّحّاك" يُعتقل في طفولته،وتُلصق به جريمة سياسيّة،ويتعرّض لأبشع أنواع التّعذيب لأنّ والده كان مناضلاً في زمن غابر" لقد أصبح فجأة معتقلاً سياسيّاً خطيراً ؛ لأنّ سجلاّت الزّبانية تقول إنّ والده كان - في زمن غابر لم يدركه- فدائيّاً مدافعاً عن بعض أرض الأمّة،ولذلك عليه أن يدفع ثمن تهمة الفدائيّة العار التي وسم والده نفسه بها،وأورثه جرائرها السّوداء"[21]
وأمام هذا التّعذيب المتوحّش اضطر " الضّحّاك" إلى خلع إنسانيته والاعتراف زوراً على مناضلين أحرار أبرياء كي ينجو من العذاب حتى ولو عنى ذلك أن يأخذوا مكانه في التّعذيب والتّنكيل والموت " بعد اعترافه بأيّام ورد الكثير من المعتقلين على سرداب التّعذيب،وخال أنّ الكثير منهم هم ممّن اعترف عليهم زوراً وبهتاناً،ولكنّه لم يبالِ بصراخهم واستغاثاتهم،وما رقّ لعذاباتهم،وما قرصه ضميره وهو يسلمهم للجحيم بشهادته الزّور واعترافاته الملفّقة ؛ فكلّ ما كان يعنيه هو أن يخرج من هذا المكان بنورٍ في إحدى عينيه على الأقل".[23]
وفي هذا الميتم/ الحياة/ الأوطان يضطر الإنسان المسحوق إلى أن يعيش أقسى تجربة حياتيّة ممكنة " الحياة ساحة حرب حدّ التّناحر،هي أكثر وحشيّة من حلقة صراع رومانيّة بين أسد هصور غضوب وعبد عارٍ حتى من رغبة المقاومة لأجل المحافظة على حياته.وفي هذه السّاحة الجهنّميّة أُجبرت على أن أقاتل فيها وحوش البشر ؛ لأنّني لم أملك حتى حقّ الاستسلام،ولذلك واجهتُ عذابي القدريّ،وهو التّمرّغ في وحل الرّجال الوحوش"[25] ،وطفل يُقتل فيه تجويعاً ؛لأنّه كان " يرفض أن ينصاع لأيّ أمر فيه إذلال له،ويصمّم على موقفه على الرّغم من تعذيب المشرفات له،وتنكيلهنّ به حتى مات جوعاً وهو محبوس في قبو الميتم،وما استطاع أحدٌ منّا أن ينقذه،أو أن يحتجّ على مصيره خوفاً من أن مصيره"[27].
وهذا الميتم صورة مصغّرة عن الحياة المحترقة في الشّرق حيث الخراب في كلّ مكان " الشّرق الذي تقوّض، دون أن ترى الأوطان أو الشّعوب أيّ بصيص أمل أو حريّة أو عدالة،لا شيء سوى الموت والجعجعات والنّقيق الموصول دون فائدة أو تحسين،وذلك العدوّ الكونيّ الذي يلفّ العالم بعلمه الشّرير،ويذبح النّاس باسم الحريّة والدّيمقراطيّة والإخاء يزفّ الموت إلى كلّ مكان يذهب إليه"[29].
الوطن في الرّواية يتمرّغ في العذاب والألم " وقرع ذهني سؤال قلق نخزه بوجع مسلّة عمّا تراه يحدث الآن في مدائن الشّرق التي فارقتها وهي تستعر بالنّار والفتن والابتلاءات والمصائب،ويجوبها اللّصوص والقتلة آمنين فرحين،ويموت فيها الأبرياء والأبطال والصّالحين،في حين تسمن الكلاب والأبقار والخنازير والفئران الآدميّة حتى تختنق بسمنتها" [31]
وفي هذه الأوطان المتهاوية الملعونة بالمفسدين نجد السّقوط في التّفاصيل جميعها،ونستطيع أن نسقط شخوص الرّواية على رموز حقيقيّة في الحياة،لتكون الفاجعة بقدر كشف القناع،وفكّ شيفرة الرّمز،وإسقاط الشّخصيّات الرّوائيّة على مجرمي الأوطان الذين أفسدوا كلّ شيء،وخرّبوا الحاضر والمستقبل في حين تعليق " بهاء" على ذلك كلّه أنّها لا تبالي بما يحدث لهذا الوطن من الخراب لأنّها لا تنتمي إليه،وتعيش فيه بغربة كاملة " ولكنّني لم أكن أبالي بذلك كلّه؛ فتلك المدن قد رحلت عنّي منذ زمن،ولا قلب لي فيها ولا أمل،وما لها محبّة في قلبي حتى أبكيها؛ فأنا نبات شيطانيّ لا علاقة له بأيّ شيء هناك؛ لستُ أكثر من لقيطة ربيبة ميتم سرعان ما أدركت أنّ أوطان الشّرق جميعها مياتم كبرى،لا كرامة فيها ولا حنان ولا أمل".
[2] - نفسه: ص301
[4] - نفسه: ص47
[6] - نفسه: ص312
[8] - نفسه: ص131-132
[10] - نفسه: ص128
[12] - نفسه: ص 128
[14] - نفسه:149
[16] - نفسه:ص 296
[18] - نفسه: ص200
[20] - نفسه: ص 296
[22] - نفسه: ص297
[24] - نفسه: ص201
[26] - نفسه: ص141
[28] - نفسه: ص 173
[30] - نفسه: ص 268
[32] - نفسه: ص260
وسوم: العدد 825