تفجير الشعر الساخر
"النباحي أحد كبار الشعراء المجهولين. عاش حياة حافلة بالصراع اليومي مع كل المشكلات المزمنة. في عالم يموج بالقتلة والمطحونين. اجتمعت في شخصيته كل المتناقضات السيكلوجية، وانعكست عليها كل الأخطاء السوسيولوجية، ولم ينجح في إنقاذه أي من المناهج البيداجوجية. ظل ديوانه الفريد حبيس مكتبات العالم لأكثر من ثمانمئة سنة، حتى تم العثور على مخطوطاته الثلاث، واستخلاص نصها المحقق لأول مرة. يفتح نشر ديوان النباحي بابا جديدا في الأدب العربي، ويدعو الدارسين لإعادة النظر اليه في ضوء جديد"!
حدثنا مولانا أبومِذْوَدٍ، قال:
"أَبْلِغوا النُّباحيَّ أَنَّه أَشْعَرُ الْبَعْكوكيّينَ"!
قلت: نسبه مولانا في كلمته هذه الجامعة الى أهل مجلة البعكوكة المصرية البادئة صدورها سنة سبع وثلاثين وتسعمئة وألف للميلاد، وكانت ضاحكة مُضْحِكَة كما قال رئيسها الثاني عبد الله أحمد عبد الله، وسُخْرَةً سُخَرَةً كما أقول أنا. ولن تستطيع أيها الباحث العزيز، أن تَردّ كلمة مولانا؛ إنك تجد النباحي لم يشغله توقع الموت عن أن يقول:
"أُحِسُّ وَقْعَ النِّهايَةْ يَطْوي فُصولَ الرِّوايَةْ
وَعَنْ قَريبٍ سَتَهْـوي مِـــنَ الْمَعـاقِلِ رايَةْ
وَرُبَّما قالَ قَوْمٌ: قَدْ عــاشَ مِنْ غَيْـرِ غايَةْ
وَرُبَّما قالَ قَـوْمٌ: قَضـى شَـهيدُ الْغَــوايَةْ
دَعِ الْجَميعَ وَأَسْــرِعْ فَالشّــايُ في الْغَلّايَةْ"!
كما لم يشغل الاجتماع الرسمي الكبير الدكتور مصطفى رجب البعكوكيّ عن أن يقول:
"رُحْتُ في الصُّبْحِ إِلى الشُّغْلِ بِنَفْسٍ مُشْ تَمامْ
فَإِذا الْيَوْمُ اجْتِمــاعٌ بِالْمُديرينَ الْعِظــــامْ
كُلُّهُمْ بِالْعِطْرِ مَغْســــولٌ ولِبْلِبْ في الْكَلامْ
فَإِذا خَلَّصَ شَـــخْصٌ غَيْرُه في التَّو قــامْ
وَأَنا أَنْظُرُ حَوْلي في وُجـــــومٍ وَانْسِجامْ
فَإِذا أَكْبَرُهُمْ سِنـــًّا عَلى الْكُرْســـيِّ نامْ"!
وقد عارض النباحي أبا نواس فقال:
"كُنْ عَنيفًا كَحُسامِ وَامْضِ في رَأْسِ اللِّئامِ
وَتَكَلَّمْ إِنَّما الْعِزَّةُ في سَـــيْفِ الْكَلامِ
تَعِسَ الصّــــامِتُ يَحْيا هَمَلًا بَيْنَ الزِّحامِ
وَاِذا ماتَ فَبَغْلٌ ماتَ مِنْ طــــولِ اللِّجامِ"!
كما عارض محجوب محمد موسى البعكوكيّ امرأ القيس، فقال:
"قِفا نَبْكِ مِنْ ذِكْرى خَروفٍ مُشَكَّل أَكَلْناهُ في يَوْمٍ سَعيدٍ وَفُلَّلي
وَقَدْ مَرَّ عامٌ بَعْدَ عامٍ وَما لَنا طَعامٌ سِــوى هذا الْكَئيبِ الْمُشَنْدَلِ
وَهَلْ غَيْرُه هذا الْمُسَمّى مُدَمَّسًـا يُصَيِّرُ عَقْلَ الْمَرْءِ فَرْدَةَ صَنْدَلِ"!
ولا يكاد محقق شعر النباحي يخالف طريقته؛ فهذا هو يختار لمصادره هذه الأسماء: "طَبَقات الفُحول والحلاليف"، و"العُقود والأَقْراط"، و"وَفَيات الأَمْوات"، و"القَطائِف في عَصْر مُلوك الطَّرائف " -وأحسب أنه استوعب هذا المصدر في ليل رمضان!- و"إِبْعاد النَّقْص عَنْ أَهْلِ الرَّقْص"! بل يرجع الى بحث أوربي بعنوان "شَلَقْتيشَنْ"،...!
ويختار للأعلام هذه الأسماء: "ابْن البَكّاءِ الْعَبْسيّ"، و"الْحَصّار"، و"الفالوذَجيّ"، و"زَنْد الدَّوْلَة"، و"الشَّيّال"، و"السَّلائِطيّين"، و"الصَّنْجَهانيّ"، و"مَسْعودًا الأطرش"، و"الصِّرِمّاح الهَجّاء " -من الضرب بالصرمة- و"رُمْح الدَّوْلَة الشَّمْخاني"، ...!
وهو يستعمل النحت والاشتقاق وغيرهما لابتكار أسماء توحي بالمعنى الساخر، وقديما أولع بمثل هذا أبو تمام، وحديثا وضع إليوت أسماء قطط ديوان القطط المعروف له، مراعيا فيها معناها. ولقد يذكرني ابتكاره في تسمية الكبار "زند الدولة"، و"رمح الدولة"، بما علقه ابن حزم في كتابه "نقط العروس (2/101-102)"، على الألقاب الطنانة، قائلا: "انْخَرَقَ الْأَمْرُ، وَاتَّسَعَ، وَرَذُلَ جِدًّا، حَتّى سُمِّيَ بِهذِه الْأَسْماءِ في الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، السَّماسِرَةُ وَاللُّصوصُ وَالْأَنْذالُ وَرُذالاتُ النّاسِ، وَتَطايَبَ النّاسُ بِذلِكَ، حَتّى لَعَهْدي بِالْعامَّةِ تُسَمّي رَجُلًا مِنْ أَهْلِ قُرْطُبَةَ(...)، أَمَلَ الدَّوْلَةِ، لِيُرِيَ اللّهُ عِبادَه هَوانَ ما تَناحَروا عَلَيْه، وَباعوا دينَهُمْ وَأَخْلاقَهُمْ"!
وربما ذكرت قول القيرواني:
"أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْرِ مَوْضِعِها كَالْهِرِّ يَحْكي انْتِفاخًا صَوْلَةَ الْأَسَدِ"!
غير أنني لا أخلي عمل المحقق من شبه عمل البعكوكين حين ذكروا "حَنَفي الْكُرُمبة " المدرس الفاشل، و"أُمَّ سَحْلول" الماشطة، و"الدكتور مَكْسوريان" مدعي الطب، و"صاحبة الصَّوْنِ والجَفاف" العجوز المتصابية، و"الْمُشَعْلَقات الْفُكاهيَّةَ"، و"تَخاروف الْعيد"، و"بُذَكِّرات بُطْرِب بَزْكوب"، و"تَناتيش"، و"الْأُدَباتي"، بل "مِشْكاح الصِّرِمّاح" مدعي الضعف، وهو اسم استعمله النباحي، وترجم له السيد المحقق!
وتستمر سخرية المحقق في تفاسيره الساخرة بسوى المعهود كما في تفسيره "الْهَجْص"، بالكلام الفارغ، و"ضارِب" بغير المنضبط العقل ولا المنطقي التفكير، كما فسر الدكتور مكسوريان البعكوكي "صعود الحواجب وهبوطها في حركة بصبصة مستمرة"، بأنه دليل على حيويتها، وفسر "مَيّة اللِّفْت" بأنها أحسن الأدوية لنظافة المعدة، ولا سيما إذا كانت "مية لفت شمال"!
هذا هذا، غير أن للنباحي في خلال شعره ذلك، شعرا عاليا، كقوله مادحا:
"تُؤَرِّقُه في كُلِّ لَيْلٍ كَواكِبُهْ وَيُصْغي لَه التّاريخُ وَالْمَجْدُ صاحِبُهْ
يُفَكِّرُ في الْجُلّي فَيُطْلِعُ شَمْسَــها وَيُقْدِمُ كَالضِّرْغامِ لا شَيْءَ حاجِبُهْ"!
وكقوله راثيا:
"فَاتْرُكــــوه لِقَبْرِه إِنَّمـــا الْقَبْرُ مُتَّكــا
وَأَفيقوا لِحالِكُمْ حَيْثُ يُسْتَحْسَنُ الْبُكا"!
كما أن للمحقق مثل ذلك تعاليق فخمة يعلقها وقد علاه جد البحث، ذاكرا شعراء العرب والعجم، واصلا ما صنعوه بما صنعه النباحي، أو منبها على مواطن صالحة لبحوث الدراسات العليا؛ فكلا الشاعر والمحقق -وهما شخص واحد- خالف طريقة البعكوكين هنا، وإنما ذاكم فيما أحسب، لتسويغ ما كان في أكثر عملهما من لينٍ مقصود سخريةً؛ فهذا على أية حال عمل ليس من البعكوكين وليسوا منه، عَنَيْتُ تَحْقيقَ التراث.
فمِمَّ يسخر أستاذنا إذن؟
أمن علم التحقيق الذي لا قيمة له عنده وقد نقده نقدا أسود لا بياض فيه؛ إذ فيه يختار طالب سفيه جاهل، شعرا ركيكا ضعيفا، ليضبطه ويشرح بعض ما فيه شر ضبط وشرح، ويقدم له بمقدمات متهاوية يلوك فيها كلاما مكرورا!
أم تراه يسخر من عصرنا على جهة التمويه راغبا في أديب ينبح مساويه وفساده ومفسديه، كما فعل النباحي ببعض القادة المزيفين، والعلماء المتشدقين والأدباء المتفيهقين!
لاجَرَمَ، مِنَ الخَيْرِ لنا وله، أَنْ يكون من هذا كله سَخِر!
والسخرية باب من الأدب صعب، لا يستطيعه أديب حتى يَعْلُو فنه، ويعظم ظرفه. وأحسب أن بين جنبي أستاذنا قلبا سُخَرَةً شديد البأس!
وأعظم أشكال السخرية في هذا العمل، هذه المفارقة الحادثة حين يهجم قارئ على ديوان النباحي الشاعر القديم المحقَّق من الدكتور حامد طاهر، فلا يجد شيئا مما فيه فَكَّرَ وقَدَّرَ، لا في مقدمة المحقق، ولا في المصادر والأعلام والأماكن، ولا في شعر الشاعر، ولا في شرحه!
هذا هذا؛ فهل يأذن لي أستاذي بأن أعينه على إتمام السخرية؟
أبدأ إذن بنثر، وأختم بشعر:
- أول، تلقيبه بالنباحي أقرب إلى السب والشتم!
- ثان، كيف للنباحي أن يضحك ابن البكاء ولو بألف قصيدة!
- ثالث، هلا بَيَّنْتَ لنا وقد جعلت ترجمة النباحي في "طبقات الفحول والحلاليف"، أَمِنَ الفحول هو أم من الحلاليف!
- رابع، كيف يكون "إبعاد النقص عن أهل الرقص"، مرجعا للطرب! أرى أن تجعله "دَرْء الشَّغَبِ عَنْ أَهْلِ الطَّرَبِ"!
- خامس، عمود الشعر لا يعني التزام البيت، بل يعني التزام بناء فني معنوي خاص.
- سادس، ذكرتم أنه لا يكاد يبرح عمود الشعر إلا في بعض الأوقات العصيبة التى تفرضها عليه حاجاته الطبيعية، وما هذا إلا لتسويغ تغير القافية في قصيدة "المجذوب".
- سابع، لم تشر إلا إلى انتفاع الأوربيين بأموال طالبي المخطوطات والكتب المسروقة، وأحسب أن أعظم انتفاعهم كان حجبنا عن تراثنا وشموخنا وتأخير نهضتنا بسرقة وسائلها التي استفادوا منها تقدمهم وبقي لنا تأخرنا.
- ثامن، الاستوائية نسبة إلى المصدر "اسْتِواء"، لا إلى الفعل "اسْتَوى"!
- تاسع، رأس الدبوس غير مذبب إنما المذبب ذنبه!
- عاشر، كانت لكم تفاسير غير معهودة قصد بها السخرية، وقد أشرت إلى بعضها، غير أنني وجدت لكم ما لا سخرية فيه، كتفسير "ضَرْب لازِب" بالصدفة، وإنما معناه الحتم واللزوم.
- حادِيَ عَشَرَ، خالفتم طريقة اللغة بقولكم: "قَرْمَزَ"، وهو "قَرْزَمَ"، والاسم "قُرْزوم"، وهى "قَرْزَمَة"، إلا أن يكون قلبا مكانيا لا أعرفه- وبقولكم: "دُمُّل"، وهو "دُمَّل" و"دُمَل"، و"صِنْج" وهو" صَنْج"، و"البَهْر"، وهو "البُهْر"- وبقولكم: "ما لِقَلْبي وَذلِكَ الْكَدَرُ"، وهو "(...) الْكَدَرِ"، و"ما لَك والحُكْمُ"، وهو "الحُكْمِ"، و"ظَلَلْتُ"، وهو "ظَلِلْتُ"، و"شَمالًا"، وهي "شِمالًا"، و"الْعُتْب" مرتين، وهو "العَتْب"، و"الغِواية"، وهي "الْغَواية"، إلى آخر ما أشبهه. وقد تركت ذكر ما هو أثر عَجَلة المُراجعة؛ فلم يكن الشكل آليا، بل يدويا.
- ثانِيَ عَشَرَ، على رغم ذلكم التحدي العروضي بالنظم من المُنْسَرِح -وما أَحْسَبُ المُتَحَدَّى غير الدكتور عبد اللطيف عبد الحليم!- وقعتم في كسر الوزن بتَشْعيث عَروض الخفيف في غير تصريع ص 73، والخروج على الوزن بالزيادة عليه ص 74.
- ثالثَ عَشَرَ، لِمَ لَمْ تُعَلِّقْ على قول النباحي: "يَطْوي فُصولَ الرِّوايَةْ"، وهو دال على أن العرب أسبق إلى فن الرواية في شكلها الحديث!
- رابِعَ عَشَرَ، أَيْنَ رسائل النباحي التى وعدت؟
إذا عَزَمْتَ فَاجْمَعْ إليها ما أَقولُ لَكَ:
"وَأَنا أَسْتَطيعُ أَنْ أَسْخَرَ لَكَ مِمّا تَشاءُ، غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلى بُنَيَّاتِ الطَّريقِ، وَلا إِلى كَلامِ الْعامَّةِ وَالشُّطّارِ وَالْعَيّارينَ:
يَغْلِبُ الْجِدَّ وَالْمُزاحَ مُزاحي مِثْلَما يَغْلِبُ النُّباحَ النُّباحي
هُو كانَ الْمِصْباحَ في دُلْجَةِ الْوَهْمِ وَعَوْنًا عَلى طِباعِ الْقِباحِ
شاعِرًا لَمْ يَكُنْ عَلى أَنَّ فيه آيَةَ الْكَوْنِ وَالنُّفوسِ الصِّـحاحِ
ثائِرًا ســاخِرًا عَلى أَنَّ فيه عُجْمَةَ السِّـنْدِ وَاخْتِلاقَ نُباحِ
وَأَنا تِرْبُه الطَّموحُ الْجَموحُ الرّاكِبُ الْبَحْرِ في سَرابِ الْبِطاحِ
غَيْرَ أَنّي رَبيبُ شـِـيحٍ وَفَقْعٍ بَدَويٌّ مِنَ الطِّرازِ الصُّـراحِ
وَالسَّلامُ"!
[مِنْ رِسالَةِ أَبي مِذْوَدٍ إِلى رَصيفِه النُّباحيِّ]!
وسوم: العدد 843