الظاهرة الأدبية (2) في ضوء نظرية المعرفة القرآنية
ويمكننا تفصيل هذا المراحل الأربع السابقة وبنفس الترتيب، الذي يوضح معالم هذه النظرية ضمن المسار التالي:
أولاً: مرحلة التفكير:
وهي المرحلة التي توظف فيها طاقات الفكر ومواهبه في التعرف على حقائق الوجود، وقد وردت في الآية الكريمة بصيغة الفعل المضارع (يتفكرون) وبكل ما يحمله هذا الفعل من معاني الحركية والاستمرار، ويشمل في دلالته ومعناه جميع العمليات الفكرية التي يجريها الدماغ: كالتفكير الحسي الذي يعني استقبال المعلومات الحسية التي تنقلها الحواس وتفسيرها والانتقال بها إلى مرحلة أولى هي التفكير التحليلي وعملياته (كالتذكر والمقارنة والتعرف والتمييز والاستقراء والاستبعاد والتعميم والاستنباط.. وغيرها) ثم الانتقال بها إلى آخر مراحل التفكير وهي مرحلة الفهم: وهي خلاصة ما توصل إليه الفكر من نتائج تقوم على تكوين (المفهوم أو الحقيقة أو الحكم) وحيث ظهرت في صيغة تفيد نفي العبثية عن الكون والوجود والخلق في الآية الكريمة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وبخضوع جميع هذه المراحل إلى منظومة من القواعد والثوابت والبديهيات نسمِّيها منهج التفكير.
لقد أراحنا الفعل (يتفكرون) من وصف عمليات التفكير المعقد، التي لا نضمن لها الدقة، مهما زعمنا ذلك في علمنا البشري، وبمرونة واضحة ترك هذا الفعل الفضاء مفتوحاً أمام العقل البشري في تفسير ظاهرة التفكير، في الوقت الذي يقع فيه علم التشريح في التعسف ويسرف كثيراً في وصف عمليات الدماغ، مع أنه يبقى وصفاً خارجيّاً، يقوم على متابعة حركة الظواهر المادية من أنشطة الدماغ، كحركة الدم والشحنات الكهربائية، ونشاط الغدد وغيرها، فإن علماء التشريح لا يرون التفكير ولا الأفكار، وإنما يتابعون الحالة الظاهرية ويمارسون مقامرة التخمين، ويهمنا في هذه المرحلة أن نشير إلى القضايا الهامة في موضوع التفكير ضمن النقاط التالية:
1.جهاز التفكير (الدماغ): بما وهبه الله من قوى وأجهزة وطاقات مختلفة، كالذاكرة، وقوة الخيال أو التصور، وقوة الربط والتحليل، والجهاز العصبي الممتد في أنحاء الجسم.
2. منهاج التفكير: يتأثر التفكير بالمنهج، ويتسع أو يضيق وفق شروطه، والمنهج الإسلامي يتصل بتجربة آدم عليه السلام في الجنة، وخروجه من عالم الخلود والسرمدية وهبوطه إلى الأرض، حيث أصبح أسيراً للسنن الكونية التي تحكم الأرض ومؤثرات الحياة فيها.
هذا المنهج الذي يتواصل مع رسالات الأنبياء، انتهى إليه ميراث علم النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو يفتح المجال أمام التفكير، ويحرر طاقة الخيال الإنساني من العوائق والأوهام، ليدرك الحياة من خلال مصدرين رئيسيين للمعرفة هما:
الأول:(علم حقائق الوجود والحياة).
والثاني:(علم حقائق النص الموحى به من الله سبحانه وتعالى).
الأول يختبر الحياة من خلال توظيف طاقات العقل في اكتشاف سننها، ليبني حضارته ويقيم خلافته على هذه الأرض.
والثاني يفسر الحياة ويكشف مقصد وجودنا فيها، من خلال استيعاب طاقات العقل لنصوص الوحي وفهم النظام الذي يرتضيه الله لهذا الإنسان في بناء حضارته وخلافته على هذه الأرض.
هذا المنهج أفرز نظاماً من القواعد والثوابت والبديهات والمناهج، تشكل منهج الواقعية الإسلامية، واقعية الجمع بين عالمي (الغيب والشهادة) في مركب واحد، وهذا المنهج له أسلوبه الخاص به في جمع المعلومات واختبار الفرضيات، وقد تمثل في علم مستقل بمنهجه، اسمه علم (أصول الفقه) المستمد من القرآن الكريم والسنة الشريفة وعلوم الأمة وخبراتها المتراكمة في هذا المجال.
وهذا المنهج له الأثر العظيم في تربية عقل المؤمن منذ آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا على احترام حقائق الواقع الأرضي، ومحاولة تعلمها كما هي، وكذلك فيما يخص الظاهرة الأدبية فإن المنهج له تأثيره على تكوين الرؤية الأدبية، وامتداد الخيال عند الأديب المسلم عند إطلاله على الحياة وإدراكها من خلال منظاره.
3. ومن قواعد التفكير التي علمنا إياها هذا المنهج:
1.أن يبدأ التفكير من المحسوس (السماوات والأرض وأن يطل على حقائق الأشياء فيهما، كما هي في واقعها المستقل، وأن لا نسمح لرغبات الأنفس وأوهامها بالتدخل في فهم الحقائق.
2.أن نستدل بحقائق (عالم الشهادة) المحسوس (السماوات والأرض) على حقائق وعظمة (عالم الغيب) وذلك بانتقالنا من الحسي خطوة خطوة في اتجاه استشراف الأسئلة الكبرى عن عالم الغيب، وحيث نقرأ الكتاب المنظور (السماوات والأرض) وخلقهما ودلالته بهدي من الكتاب المسطور (القرآن الكريم) وبهذا يجمع دماغ المسلم بين علوم العقل الحسي التحليلي (التفكير) وبين علوم الوحي ومنهجه في إرشاد الفكر وضبط مساره.
3.أن يكون هدف التفكير هو البحث عن الحق وتعلمه والخضوع إليه، وليس مجرد الإشباع لحاجات الجسد أو النفس، وبذلك نشبع رغبات فطرتنا من خلال الخضوع للحق، الذي نبحث عنه ونتحراه، لأن الهدف من قواعد التفكير، هو حماية الحق حتى لا يلتبس بالباطل، بسبب انحراف التفكير عن المسار الموضوعي، الذي يؤدي إلى انقلاب الحقائق وضلال الإنسان، وكم منطق فيه الحقيقة تقلب!
وقد قدَّم لنا القرآن الكريم آياته في حماية المنهج وأنار الطريق بها، وهي كثيرة، ولكننا نقتطف منها ما يوضح المقصد، قال تعالى:
1.{ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].
2.{وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} [النجم: 28].
3.{ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].
4.{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].
5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].
6.{يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].
7.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].
8.{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].
9.{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44].
10.{واتبع هواه فتردى} [طه: 16].
ونتعلم من ذلك أن المجتهد المصيب له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر واحد، وأن الخطأ الذي يقع من المجتهد مغفور له، بل وله عليه أجر واحد، ما دام أنه لم يتعمد الخطأ من قلبه، فإذا تعمد القلب الخطأ، فهو ليس مجتهداً، وإنما هو آثم وخرج من حالة الاجتهاد إلى اتباع الهوى والضلال.
4.وتمتاز محاكمة الدماغ للمعلومات بالحياد، وعدم التعاطف معها سلباً أو إيجاباً، حتى تفرض الحقائق نفسها، وتتضح معالمها، فهو لا يفرح لوجود حقيقة ولا يبكي لغياب غيرها، لأن التعاطف مع الحقائق ليس من طبعه بل هو من طباع القلب.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية )
وسوم: العدد 849