صورة المرأة في رواية الخاصرة الرخوة
رواية الخاصرة الرخوة للكاتب جميل السلحوت الصادرة عام 2020 عن دار كل شيء من حيفا.
الرواية تنتمي إلى الأدب الواقعي، فهل عكست الواقع للقضية التي تتبناها؟ وهل قضيتها المرأة الفلسطينية؟ وهل تعد الخاصرة الرخوة والحلقة الأضعف في المجتمع الفلسطيني كما أوحى العنوان وأشير في الرواية؟
بداية لا بد من الإشارة إلى أن الرواية تظهر أنساقا ثقافية متعددة ومتنوعة للمجتمع الفلسطيني، ممّا يكسبها بشكل لا يخفى على قارئ الواقعية البحتة، فمثلما يوجد في فلسطين الفكر المتشدّد والمتزمت تحت ستار الدين، والذي تمثل في عقلية وسلوك "أسامة " خطيب وزوج "جمانة" -بطلة القصة- لاحقا، وهو شخصية محورية ممتدّة في الرواية، يوجد بالمقابل الفكر الذي يؤمن بتعليم الفتاة وضرورة الثقة بها مثل أسرة جمانة، وهناك الأسرة التي لا تضغط على بناتها، ولا تشدد الرقابة عليهن، ولا تعلن الوصاية الكاملة على تحركاتهن ومظهرهن مثل أسرة" صابرين " ابنة عمّ أسامة، وهناك العائلة التي لا تقوى على الدفاع عن ابنتها إن تعرضت لظلم كـ" عائشة "، وهناك العائلة التي تحتوي بناتها وتحترم قراراتهن مثل عائلة جمانة عندما قررت الطلاق.
من خلال المرأة استطاع الكاتب أن يسلط الضوء على شرائح مجتمعية وفكرية موجودة في المجتمع الفلسطيني، بلا شك، لكن المصير الذي لاقى النماذج المختارة لم يكن طيبا، فلا الذي حرص على تعليم ابنته وتربيتها تربية صالحة توفقت في حياتها، ولا من أعطى ابنته كامل الحرية لرسم حياتها شكلا ومضمونا مثل ابنة عمّ أسامة توفقت، ولا من كان يعيش بلا وعي ومعرفة ودراية استطاع حماية ابنته عندما تعرضت للظلم.
فأين الخلل إذن؟ هل هي ضبابية تشاؤمية صادفت مزاج كاتب حادّ أم أن مضمرا مبيتا بين السطور أراد أن يعري خبايا وعللا يمارسها أفراد المجتمع بوعيهم الجمعي، فتؤدي إلى أخطاء تدفع المرأة ثمنها عادة وتجر على أسرتها ما قيل من السلف:" هم البنات للممات"؟
أولا: جمانة تمثل الفتاة الفلسطينية التي تمّ توجيهها توجيها سليما تربية وأخلاقا وانتماء وحبا لوطنها ودينها ووعيا وعلما ووضوح هدف، لكن المشكلة التي واجهتها تواجه كثيرا من الفتيات، اللواتي يحدد لهن المجتمع سن الزواج، ويبدو خروجهن عن تلبيته نشازا وموضع تساؤل، العلة تكمن في عدم النضوج العاطفي ليافعة مثل جمانة لعدم وجود فرصة في نمط حياتها تنبهها إلى وجود الرجل على الجانب الآخر من الحياة، فتحرك فيها رغبة في الارتباط، وقد تكون فعلا غير ذات حاجة للارتباط العاطفي؛ لسبب يتعلق بشخصيتها أو أهدافها العلمية أو طموحها العملي، كما أوضحت سطور الرواية على لسان الشخصية ذاتها، ولكن الخلل يبدأ بزعزعة حياتها والنخر في مستقبلها الذي بنته في خيالها، وسعت له عندما يفرض عليها المجتمع سنّ زواج محدّد يضغط على أهلها للقيام بتزويجها، ولأن رفض الخاطب الذي لديه مقومات الزواج يضع علامة استفهام عليها وعلى قلبها وعلى نيتها السلبية بالارتباط التي انطبعت في أذهان محيطها، وما سيجرّ من تبعات تهميشها في المستقبل كفتاة تصلح للزواج، هذا الضغط المجتمعي الذي يفرض خيارا لم يكن في حسابات الفتاة من جهة، والذي أثر بشكل ما على نفسيتها وقدرتها على التحمل وقبولها بالزواج كضرورة، وليس كحاجة روحية وجسدية وفطرية، أدّى إلى وجود ركن خاو من أركان الزواج وهو الزوجة، هذا الركن الخاوي سيمتلئ ذات يوم وينفجر، وسيكون ضغط الزواج التقليدي سببا مؤكدا لحالة طلاق جديدة في المجتمع. صحيح أن الرواية لم تطرح في قصة جمانة قصة امرأة معنفة جسديا، لكن التعنيف النفسي الذي لاقته عند زوجها ابتداء من سيل التنازلات في الخطبة، وتقبيل القدم ليلة الزواج، انتهاء بحالة الأسر في بلاد الغربة، تعدّ من أخطر أنواع التعنيف التي تفتك بالمرأة في المجتمع الفلسطيني. ناهيك عن الضغط المجتمعي الذي عكسته الأسرة على ابنتها في بداية الرواية والذي أدّى إلى صراع نفسي داخلي، قاد إلى قرار غير موزون، تشابهت فيه مع أيّ فتاة من عمرها لم تتلق التعليم الكافي، وكأن الكاتب يريد أن يقول أن الوعي والنضح النفسي والعاطفي أهم من تعليم الفتاة العلوم المختلفة، ولا يصلح حال المرأة في المجتمع إلا إذا صلح كلاهما، ومن جهة ثانية يريد أن يقول بأن الأسرة التي تولي المجتمع أهمية أكبر من نفسية بناتها تخسر كثيرا، فلو أن الأسرة عزلت هذا الضغط المجتمعي عن الفتاة لما تعرضت أي فتاة لأي آفة من آفاته، وبالتالي هي رسالة عميقة جدّا للأسر التي تظن نفسها بتعليم الفتاة في المدارس والجامعات، وأغدقت بالنعم على بناتها قد قدمت كل شيء، منبّها إياها بضرورة تقديم الحماية النفسية للفتاة من أحكام المجتمع السطحية.
ثانيا: "صابرين " ابنة عم أسامة ومن البيئة نفسها، لكن بنمط تعامل وتربية وثقافة مختلفة، لاقت مصيرا سيئا موجودا في الذهنية الفلسطينية، وهو أن من دخل أرضا دون عناء هان عليه تسليمها، وأن الفتاة السهلة لا يحافظ عليها الرجل كثيرا معه. وهي رسالة أخرى لبعض شرائح المجتمع تذكرهم بضرورة المحافظة على ثوابت المجتمع الفلسطيني وحماية بناتهم من الذئاب البشرية اللاهية اللامسؤولة، قبل أن تغرق الفتاة وأهلها في مستنقع لا نجاة منه.
ثالثا: "عائشة ": قدم رسالة من خلالها أكثر ألما، مثلت شريحة مجتمعية ما زالت تعاني من الجهل في الناحية البيولوجية للمرأة، وهو خطر يفتك بالمجتمع، وفيه قد يصل مصير المرأة إلى الموت بلا هوادة؛ ليبلغ تعنيف المرأة أشدّه، وتصبح فيه المرأة الخاصرة الرخوة للمجتمع، فالجهل هو عدو المرأة الأول، وهنا تكمن الأهمية التنويرية الهادفة لهذه الرواية، وتكون من الناحية الموضوعية قد أدت رسالة عظيمة للمجتمع في ضرورة إعادة برمجة نظرته للمرأة وتعامله معها.
رابعا:" المرأة سوداء القلب رديئة اللسان": " أم أسامة"، هي نموذج يعكس بعض النساء في المجتمع الفلسطيني لا يمكن إغفاله، وتلك الصورة التي قلما يتم التركيز عليها رغم شيوعها، والتي تذكي سواد قلبها نار الغيرة والكراهية لكلّ جميل، والغرور بالجمال أو بالقدرة على الإنجاب، تركيبة نفسية معقدة للأسف سلبية وواقعية يتعامل معها المجتمع رغم فظاظة تصرفاتها وفجاجة أسلوبها وألفاظها تعاملا متسامحا لمجرد التعود أو المكانة الاجتماعية، كأن تكون أمّا أو غير ذلك. وفي طرح النماذج النسائية السلبية ورقة رابحة تحسب للرواية، وتؤكد واقعيتها وجنوحها إلى مقصد معالجة آفات المجتمع.
المكان: استطاعت الرواية أن تسلط الضوء على روحانيات المكان المتمثلة بمدينة القدس وارتباط الشخصيات العاطفي بها، ومفارقة المكان التي تعري الاغتراب في دول الخليج، الذي يتم تصويره جنة للمجتمع الفلسطيني، والذي يكون في بعض الحالات كارثيا، وتمثل ذلك عندما انتقلت جمانة مع زوجها إلى السعودية للعيش معه، في حيّ مريب وفقير وغير آمن نفسيا واجتماعيا، ممّا جعلها تعيش في عزلة كأنها في سجن.
التسلط الذكوري: تمثل في شخصية" أسامة " زوج " جمانة" التي حاولت على طول الرواية فرض آرائها ورغباتها على جمانة مستمدة القوة من الوصاية الذكورية من الزوج على زوجته التي صارت بنظره من مهامه بمجرد توقيع عقد الزواج.
غسيل الدماغ: تمثل في شخصية "أسامة " الذي حاول تغيير عقل واتجاه جمانة عقائديا وفكريا وفرض هيمنته عليها، ولم يتقبل ميولها واتجاهها، وحاصر مجال حريتها منذ عرفها.
لغة الرواية: الرواية كما أسلفنا تنتمي إلى الأدب الواقعي الذي يعتمد أسلوبا سلسا ولغة إيحائية تناسب ثقافة الشخصيات واتجاهاتهم وبيئاتهم.
مما سبق نلاحظ أن معالجة قضية المرأة في الرواية من العمق الذي أدّى إلى تسليط الضوء على مشاكل مجتمعية تفتك بالمجتمع الفلسطيني حتى النخاع، وكان العلاج لها من الجذور، فالمرأة ضحية الأسرة التي تتأثر بأخطاء المجتمع وتمارسها، لتكون بذلك رواية الخاصرة الرخوة حلقة أخرى في حلقات الأدب الواقعي، الذي أخذ على عاتقه التغيير والنهضة عبر التنوير، بورك للروائي الكاتب الكبير جميل السلحوت هذا العمل الرائع.
وسوم: العدد 863