حول رواية الخاصرة الرّخوة
تخوض التجربة الروائية الفلسطينية تطورا حقيقيا في الشكل والمضمون، وبرغم العقبات التي تواجهها إلا أنها وبالفعل تجتهد؛ لتترك بصمتها على أبواب الحياة الثقافية والانفتاح الحضاري.
رواية “الخاصرة الرّخوة” للأديب الفلسطيني “جميل السلحوت” والتي صدرت عن مكتبة كل شيء في حيفا، استلهمت الأساليب السردية المعاصرة؛ لتصف لنا الواقع المكبوت بلغة روائية امتزجت بعبق المكان “مدينة القدس”، فشكلت بذلك لوحة أدبية، بمعايير جديدة، لم يسبق لكثيرين التطرق إليها في الممارسة الأدبية الفلسطينية.
تناقش الرواية بعض القضايا الاجتماعيّة الشائكة والتي وقعت أحداثها في مائتين وستين صفحة، حيث ركّز الكاتب على قضايا الظلم الذي تتعرّض له النساء في مجتمعاتنا الذكورية الأبوية وخاصة في المجتمع الفلسطيني، فوظف تجاربة وخبراته مشعلا بذلك حقلها بالواقع، لينقل لنا الأحداث مجردة دون تجميل، وكأن عينه كانت تركز على ذلك الواقع المتردي، بينما كان قلمه منشغلا بصياغته ليسرده لنا بكل مفرداته.
اعتمدت الرواية أسلوب الوعظ المباشر وغير المباشر كوسيلة ناجحة في التأثير على القرّاء أثناء السرد، وذلك بطرق عدة، منها اقتباس الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من هنا قامت الرواية على تبادل الرسائل فيما بين الشخصيات خلال فترات الحكاية. أمّا الزمن فلم يُذكَر بدقة، الا أنه كان واضحا جليا وكافيا، لتعميق الإحساس بالحدث والشخصيات لدى القارئ، فزمن الخطاب كان يتوسع ويتطور بحسب حاجة العلاقة بين المكان والحدث، وبهذا تعمق الدمج بين عالم الواقع والخيال، مما أضاف شعورا بالانسجام لدى القارئ.
مثلت شخصيات الرواية تلك الشخصيات النمطية، حيث صبّ فيها الكاتب أفكاره؛ لتجسد تلك الدلالات التي تلقاها القارئ، فتنوعت الشخوص في الرواية بتنوع أدوارها، وفي المبنى الروائي تم التركيز على بعض منها، فمُنحت دورا لافتا دون أن تُفصل عن بقية الشخصيات الثانوية، ممّا بثّ بين الصفحات روح من الحركة والحيوية.
تحكي الرواية أحلام وآمال أبطالها بألوان رمادية، فالآمال صارت آلاما، و”جمانة ” تلك الفتاة الهشة التي لم تتمكن من الوصول إلى مدارك قوتها الكامنة في فكرها الذي تحمل إلا بعد خسارتها الفادحة، فرغم تمكنها من قراءة المستقبل إلا أنها لم تحاول التحرر أو المقاومة، ولم تدافع عن نفسها برفض الواقع أو تغييره، وبسبب التربية القمعية التّقليديّة ظهر ضعفها واضحا، ورغم أنها متعلمة إلا انها خضعت مستسلمة لرغبة وسلطة الأهل، كيف لا وهي التي لعنت اليوم الذي ولدت فيه كأنثى في بلاد لا تحترم إنسانيّتها؟ كما رأت جمالها لعنة عليها، وكيف لا ترى ذلك والحرّيّة في شرقِنا بعيدة المَنال؟ أمّا شخصية “أسامة” فقد كانت شديد التطرف والإنغلاق الفكري، هذا الإنسان المعادي للثقافة، والذي يمثل شريحة لا يستهان بها في المجتمع، كانت تصرفاته وردود أفعاله متطرفة مسيئة، وذلك من خلال تبنيه لتلك الأفكار التكفيريّة غير القابلة للنقاش ورفضه لأيّ فكر آخر.
أمّا عن الأبعاد النفسية في الرواية فقد تجلت في الأحوال النفسية والفكرية للشخصيات، وما تحمله من مشاعر وطريقة تفكير، وحاجات وغرائز وسلوكيات إيجابية أو سلبية. اللافت للإنتباه وجود الهواية كأحد المؤشرات الإيجابية في سلوك وتصرفات الشخصية الرئيسية “جمانة”، فقد كانت مُحبة للقراءة مهتمة بالأدب والمطالعة، أيضا من الوقائع التي لا يمكن التغافل عنها، وجود عنصر التديّن كمؤثر اجتماعي على معظم الشخصيات، هنا تجلت الرسالة واضحة ساطعة، فحين استسلم المجتمع وسلم إدارة شؤونه الحياتية لرجال الدين وعباءات التطرف، تلك التي لم تحتوِ المرأة، فكان لها النصيب الأكبر من القمع والتهميش وانتقاص الحقوق، أيضا كان للموروثات والعادات العشائرية والتقاليد السلفية، دور كبير في استعباد المرأة جسديا ونفسيا وفكريا، وربطها “بالشرف” وبالتالي التمييز بينها وبين الذكر في كل من الواجبات والحقوق.
على هامش الرواية، أعتقد أن المشكلة الأكبر والتي تعيق التغيير في بلادنا تتلخص في التربية والتعليم وتأثيرها على الفرد. وعن التربية في بلادي فحدث ولا حرج، إذ من السهل جدا وراثة القيم دون التدقيقٍ أو التمحيص فيها، ذلك لأن البحث والتدقيق يتطلب عمقا في الشخصية ووعيا كبيرا، من هنا تسعى المجتمعات الرجعية بنفوذها إلى وأد كل مفكر فذ قبل أن يتجرأ على التفكير والتدقيق والنقد ثم التغيير، أمّا التعليم فهو لا يعمل على بناء شخصية قيادية ناقدة عميقة مفكرة ومؤثرة، فعملية التعليم لدينا حتى اليوم لا تزال عملية تلقينية، ومناهجنا التعليمية لا تتناسب مع النمو والتطور الحاصل في تفكير النشء، ولا ننسى غياب دور المؤسسات والجامعات عن البحث العلمي وتشجيع القيادات الشابة. هكذا تُسد الطرق وتضيق على المثقفين الذين يحلمون بتغيير المجتمعات وفكرها السائد، فهل تمكن التعليم في بلادنا من تقديم ما يتوافق واحتياجات الواقع في ظل هذا التراجع الثقافي وقلة المعرفة التي نفتقر إليها؟ وهل يعرف الناس أن منظومة التعليم لدينا تُعوِّد الطالب على الخضوع والتلقين وتقبُل الخرافة، ولا تشجع على النقد البناء والتفكير الحر، ممّا يخلق منه إنسانا مستسلما خاضعا.
أخيرا.. لا أريد الغوص أكثر بين ثنايا الرواية، سأقتبس منها بعض السطور التي تطرح ما لم نتطرق إليه بعد.
هناك نسبة طلاق مرتفعة .. طلاق المرأة في هذا المجتمع يبقى لعنة تطاردها، ولا أحد يرحم المطلّقة بغض النّظر عن أسباب طلاقها، وسواء كانت ظالمة أم مظلومة، فالمرأة خاصرة المجتمع الرّخوة.
- المرأة كلّها عورة ، حتّى صوتها عورة.
- إن قراءة الروايات خطيئة؟ هناك من أفتى بتحريم ومنع كتابة القصص والرّوايات، لأن القّصة الخياليّة تحكي شيئا مبتكرا غير واقعيّ ، فهو من الكذب، والكذب حرام.
- استمعت جمانة لبعض هذا الحديث، فاشمأزّت وشعرت بالتّقيّؤ وصدرها يغلي غضبا، تساءلت حول ظلم النّساء لبنات جنسهّن، فإذا كان هذا موقف النّساء من عائشة فماذا يقول الرّجال؟
جمانه : لا شيء يرضي أمّك ، وتفسّر الأمور كما يحلو لها.
أسامة: لا أريد أن أسمع منكِ كلاما كهذا مرّة أخرى، أمّي امرأة فاضلة، ولا تريد لي إلا كّل خير.
جمانه: من يريد لك الخير يريده لزوجتك أيضا.
لعلّه يصحو من حالة تغييبه لعقله أمام أمّه. هي لا تريده أن يكون عاقا بوالديه، لكنّها لا تريده أن يبقى مخدوعا بتصرّفات أمّه التي ستنعكس حتما على حياتهما المستقبليّة.
- واصل أسامة اضطهاده لجمانة ظنّا منه أّن ّتصرّفاته حّق منحه الله له، تحمّلته جمانة مغلوبة على أمرها.
وسوم: العدد 868