قراءة في ديوان: أنت وجه الملاك...

مساحات من البراءة

للشاعر رافع حلبي دالية الكرمل

رافع خيري حلبي

دالية الكرمل بلد النور – حيفا

[email protected]

صالح احمد عرابه – الجليل

في زمن تشوّه فيه كل شيء . . حتى مفاهيم الأدب . . يبقى الصوت النقي المعبر بعمق، ينزل على أسماعنا، يهز فينا صدى المعاني الطيبة، لتولد، ونصحو على صداها القادم بعبق من المعاني المغيبة عن وعينا منذ زمن . . فبعض المعاني تحتاج إلى وعينا لتتجسد حقيقة ناصعة، وإلا اعتلاها الغموض،وغرّبها ازدحام الذاكرة بكل غريب خاطئ دخيل.

الرومانسية من المعاني التي غيّبها ازدحام الذاكرة بمشوه الأفكار . . فباتت تعني للكثيرين معاني الغرام والغزل المشبع بالإباحة . . وهذا هو التشويه بعينه. لأن الرومانسية أصلا تعني عشق الطبيعة . . تعني العاطفة البكر التي تستمد طهرها من توحدها بطهر الطبيعة الأم . . الرومانسية تعني أن يحج القلب والروح إلى الأم الطبيعة؛ في رحلة التأمل والتبتل في محراب الطبيعة العاشقة المعشوقة .

يطل علينا الشاعر رافع حلبي بديوانه الصغير الأنيق " أنت وجه ملاك . . ." ، ليجدد معاني الرومانسية الحقيقية . . حيث تكتسب الحبيبة وتتقمص روح الطبيعة والوطن والطفولة والشمس والقمر . . في الوطن الحبيب المتربع على عشق القلوب. في رحلة طهر المشاعر والعواطف، ليهمس:

" ما أجمل الإنسان الطاهر

   أنت هو الإنسان "  / ص 7

معنى من معاني الرومانسية يتجلى بأحلى صورة : التوحد مع الطبيعة. يقدِّم له الشاعر ببرقية موجزة بقوله:

 "في زمن تطاول فيه البؤس وعزّ الفرح

   أنت الطيب كله "  / ص3

وكأني بشاعرنا لم يطق صبراً . . . فأسرع بالبوح والكشف عن سره ، سر حبه العظيم ، الذي علمه التوحد مع الطبيعة ، راضعاً ثدي طهرها ، ليشعر بأنه مختلف:

"يجعلني رجلا آخر

   تكتنفه اللباقة

   تعانقه الرّقة . .

   المنسابة إلى داخل الروح

   كحب الأوطان "  / ص12

فالرومانسية تجل لأعظم المشاعر الإنسانية ، في تجسيد الارتباط إلى درجة التوحد بالطبيعة الأم عامة . . وبالطبيعة الوطن خاصة . . ولكي يوضح الفكرة ، وبدون أدنى لبس ، يضيف:

"  حبيبتي وجه الملاك

    من حب الأوطان . .

    تزهو كالبلّور

    أطال الله بقاءك يا وطني

    فأنت بلدي دالية الكرمل

    حبي الأبدي "  / ص15

أما وقد كشف الرمز ، وأبان عن حقيقة ما يصبو إليه قلبه ، وتتشوّق روحه . . فأصبح لزاماً عليه أن يكمل الصورة . . صورة الرومانسي الحقيقية . . حيث التوحد مع طهر الطبيعة البكر ، والتغني به وبكل معاني العشق الطهري ، حيث تتحول الكلمات إلى صور . . إلى لغة عالمية ؛ حروفها مشاهد الطبيعة . . ومعانيها أشواق الأرواح المتوحدة وجدا معها وبها.

" في عينيك كلمات كل لغات أهل الأرض

   ويرقص القمر على دموعك الأخيرة . .

   العالقة على رموشكِ

   التي تذكر بعيون الملائكة

   بالربيع الزاهي المخضرّ في كرملي

   والبحار الثائرة

   كثوران  حبي لكِ " / ص21

وليس لأحد أن يناقشه في ما يقصد ، أو يعبر . . أو يريد ، بل على القارئ أن يعيش المعاني ؛ كلوحة توحدت فيها الألوان ؛ في تمازج يحاكي طبيعة النفوس ، تتأمل الطبيعة في لحظة توحد جمالي ، تغيب معها كل الصور . . ولا يبقى في الذاكرة سوى لوحة الطبيعة المرسومة في الوجدان كنموذج للطهر والصفاء والنقاء . . التي لا يملك معها الإنسان إلا التعبير عن عشقه لكل ما يتداخل مع هذه الصورة . . والوطن هو مرآة هذه الصورة . . أنه الطبيعة حين تحتل القلوب بطهرها وصفائها . . والعشق حين يتجسد مرآة لنبل وصدق العاطفة وسموها. وما أروع ما عبر به شاعرنا عن هذا التجلي بقوله:

" كيف أنسى فضلك حبيبتي

   وأنسى الفداء . .

   وأنتِ متوحّدة بداخلي

   متقمصة أنفاسي من دون داء "  / ص24

وإمعانا بالتوضيح . . بل إمعانا في قراءة لغة الطبيعة والعشق المتولد من توحد الروح في بوتقة الطبيعة الأم والوطن يضيف الشاعر:

"ربيع دائم أنت

   تجمعين بين الماضي والحاضر

   فتكتبين الحضارات وتوثقين التاريخ

   تبرهنين لكل أهل الأرض

   صدق القول ، وحسن النوايا "  / ص28

ولتكتمل الصورة . . ولتكتسب قدسية . . وطهراً علوياً لا يضاهيه طهر . . تتحد معالم الصورة مع ملامح الفكرة ، في بوتقة الإيمان الواعي المستنير بنور المحبة والقداسة اليقينية. وبلوغا إلى مرحلة الهدف النبيل السامي . . المستظل في جنان الروحانية العلوية ، يضيف شاعرنا:

" وتزرعين بذور المحبة

   فتنبت وتزهر وتثمر . .

   أطفالا أبرياء . .

   يحبهم المعتلي ذروة الأزل " /ص40

هكذا اكتملت الصورة.  . الطبيعة ، سر الجمال والطهر الإلهي . . تتجلى فيها روح العشق الروحاني الطاهر الصافي النقي . . ويتجسد فيها حب الوطن ؛ بما يمثل من معاني العطاء والخير والتضحية والعشق . . المتسامي عن عوالق المادة والغاية. لتكون جميعها مَنبتاً للطـُّهر . . وما الطهر إلا الطفولة . . زهراً وندى . . وإنساناً بريئاً كبراءةِ الطبيعةِ . .

 "أنت أحلام الطفولة . .

   ومزارع الطريق

   وابتسامة الأطفال ، " / ص65

أحلام الطفولة: مروج من طهر ونقاء . . ومزارع الطريق : عطاء غير مملوك من أحد . . ولا  مشروط  بشرط . . إنه  عطاء  لكل  من يحتاج العطاء زادا  له  على الطريق . . وابتسامة الأطفال : تبقى نور الطريق . . وهدف الرحلة  وغاية السائرين على طريق المحبة . . حيث يرتسم في صفحة الكون وجه الملاك ، بصورة طفل الوطن ، والوطن الطفل.

ونحن إذ نحيي شاعرنا الذي أعاد إلينا  صور الجمال بكل براءتها . . نتمنى له مزيداً من القدرة على البذل والعطاء .