استعراض لقصَّة ( عصفور من السَّماء ) للأطفال - للأديب سهيل عيساوي
مقدِّمة: تقع هذه القصَّة (عصفور من السَّماء في28 صفحة من الحجم الكبير، تأليف الأديب الأستاذ سهيل عيساوي ، رسومات الفنانة التشكيليَّة منار نعيرات ، إصدار ( أ . دارالهدى ع . زحالقة ) .
مدخل : تتحدَّث القصَّةُ عن طفلٍ شقي في السابعة من العمر يحبُّ اللعبَ إسمهُ ( تامر ) أحبَّهُ الجميعُ رغم شقاوتهِ وكثرة حركته لخفَّةِ دمهِ وحلاوتهِ ونغاشتِهِ.. وعلى حدِّ تعبير الكاتب في وصفِهِ له: (تخرجُ الكلماتُ من فيهِ مثلَ العسل الحرِّعلى مسامع الناس، وإن حوَتْ على بعض الكلماتِ البذيئةِ والنافرةِ أو وقاحة بريئة ) . وهو الإبنُ البكرُ المُدَلّلُ عند أهلهِ . لقد أحبَّهُ الجميعُ والكلُّ يحاولُ أن يكون قريبا منهُ وبانتزاع قبلةٍ منه عنوةً ، وتامرُ يحاولُ التهرُّبَ والتملّصَ بالحجج الواهيةِ. وعندما كانت امُّهُ تطبعَ قبلةً على خدِّهِ يُسمَعُ صداها لدى الجيران وضحكات الطفل تامر تشقُّ سكون الفضاء مثل حلاوة شرقيَّةٍ وموسيقى بلا عزف ( كما يصفها الكاتب ) .
وينتقلُ الكاتبُ بعد المقدِّمةِ السَّرديَّةِ عن الطفل تامر وبشكل مباشر إلى والدهِ المهندس راسم الذي كان مولعًا بلعبة كرة القدم . وكان الوالدُ والطفلُ تامر دائما يشاهدان معا أجمل المباريات المحليَّة والعالميَّة على المرناة ( ذكرالكاتبُ المرناة بدل التلفاز)..وفي نهاية الأسبوع يصحبُ الأبُ طفلهُ تامر إلى الملاعب لمشاهدةِ المباريات عن كثب ( قرب ) .. وبشكل تدريجيٍّ زرع الأبُ في ابنهِ عشقَ رياضةِ كرة القدم .. وأصبحَ يعرفُ اسماءَ اللاعبين الكبار وأشهر الأندية . وكان تامرُ يشعرُ بسعادةٍ لا توصفُ عندما يلعبُ مع أترابهُ ( زملاؤه وأصدقاؤُهُ في نفس الجيل) كرة القدم في ساحةِ منزلهم . وعندما تقتحمُ بالصُّدفةِ إحدى سياراتِ العائلةِ حَيِّزًا ( مكانا وفراغا) من ملعبهِ ينزعج ويغضب كثيرا ( صفحة 5 ) .
إستعدَ وتهيَّأ تامر ووالدُهُ لحضور مباراة مصيريَّةٍ في كرةِ القدم ، بعد أن جهَّزت وأعدَّت لهما الأم بعضَ الفطائر والحلوى والفاكهة فانطلقا مبكّرين لكي يضمنا جلوسهما في المقاعد الاماميَّة على المدرَّج الكبير في الملعب. وهذه المباراة المصيريَّة بالتأكيد سيحضرُها جمهورٌ غفيرٌ من الذين يعشقون رياضة كرة القدم ( الكرة الذهبيَّة ) .. وبالفعل كانت مباراة حماسيَّة ناريَّة تاريخيَّة، إنتهت بفوز الفريق الآخر الخصم ، بيد انَّ هذا الفريق فاز بجدارةٍ واستحقاق .
..صفّقَ الجمهورُ طويلا للفريقين بعد انتهاء المباراة (صفحة 7 ) ، وبدت ( أمارات الغضب ) على الطفل تامر لانهُ يحبُّ فريقه كثيرا وصعب عليهِ أن يرى خسارته في عقردارهِ . وحاولَ والدُهُ أن يُهدِّىءَ من غضبهِ وثورتهِ شارحًا لهُ أهداف الرياضة الجوهريَّة،وهي التسامح والمحبّة والإحترام بين جميع المتنافسين في المباريات..وعلى الفريق الخاسر أن يتقبَّل النتيجة السلبيَّة برحابة صدر .
وبعد هذا المشهد الذي يصفُهُ الكاتب بين الطفل والأب ينتقل إلى الحوار( ديالوج ) ولأول مرة في القصَّة ، فيقول تامر لأبيهِ :
( خسارةٌ يا أبي انَّ فريقنا لم يفز اليوم . فيجيبهُ الوالدُ : فريقنا أهدرَ فرصة ثمينة والفريق الخصم استحقَّ الفوز بجدارةٍ . فيجيبُهُ تامر:( آمل في المباريات القادمة ان يكون الفوز من نصيبنا (صفحة 9 ).
ولم يستطع الطفل تامر أن يحبس دموعهُ وحزنه الشديد فانطلقت وانحدرت دمعةٌ حارَّة على خدِّهِ الطريِّ بسلاسةٍ وارتطمت بالأرض ( إنَّهُ لتشبيه شاعري جميل ) ، بينما كان والدهُ يسرعُ الخطى يحاول الإلتحاق بتامر الذي اجتاز الشارع السريع ..ومثل لمح البصر جاءت سيارةٌ حمراء وكانت مسرعة جدا فصدمت تامر الصغير وقذفتهُ لبضعةِ أمتار ، فهرع الوالدُ واندفعَ وسط الناس الذين تجمهروا والسيارات وهو مذعور ويصرخ : إبني تامر ..إبني تامر ..إبني تامر. ( أعاد الكاتبُ هذه العبارة ثلاث مرات ليؤكِّدَ على حزن وذعر الوالد الشديدين ). وصرخَ الأبُ في سائق السيارة الذي كان مرتعبا أيضا من الحادث : أنت مجرم ..أنت أعمى ..كيف أنك لم تنتبه ولم تشاهدهُ ؟؟!! . فأجابه السائقُ : إنَّ إبنكَ خرجَ وبشكل مفاجىءٍ وبسرعة إلى الشارع السريع ولم أتمكن من إيقاف السيارة،انا آسفُ سامحني..وخلال لحظات حضرت سيارة الشرطة وسيارة الإسعاف.. وتجمَّع وتجمهرَ الكثير من الناس والمارَّة على هذا الحادث المؤسف .
أخذت سيارةُ الإسعاف الطفل تامر إلى المستشفى، ولم يعرف الأب كيف وجدَ نفسهُ في المستشفى أمامَ فرقة الإنعاش ، كان وجههُ شاحبا وفكرهُ شاردًا وفي قمةِ الحزن واللوع ..الخوفُ يسكنُ قلبهُ ، والدموع تتساقط من مقلتيه ( عينيهِ ) بغزارةٍ ( صفحة 12 )، وشعرَ كانَّ دمهُ قد تجمَّدَ في عروقهِ ..والوقت تحنَّط ..أي بقي الوقتُ ثابتا وواقفا وعقارب الساعة تجمَّدت ولم تتحرّكْ ... ( وإنه لتشبيهٌ بلاغيٌّ جميل...وربما يكون الأستاذ سهيل أول شخص يستعمل هذا التشبيه وهذه الإستعارة البلاغيَّة ) . لم يفهم ويدرك الأبُ الحزينُ والملوَّع لغطَ الأصوات من حولهِ ..وكان من شدّة حزنه كالمُعَلَّقِ بين الآرض والسماء . وكانت الأفكارُ تدورُ بخلدِهِ بسرعة الضوء.. هل يتصلُ بزوحته ( أم تامر ) ؟ ..وماذا سيقولُ لها ؟..هل سيقولُ لها : إنَّ تامر أفلتَ من يدِهِ ودهستهُ سيَّارةٌ وإنهُ في خطر كبير . تماسكَ الأبُ واستجمعَ قواهُ المنهكة والمنهارة وأخرجَ هاتفه النقال ( الموبايل ) من جيبهِ واتصلَ بزوجتهِ وأصابعهُ ترتعدُ وقال لزوجتهِ: ( سيَّارةٌ دهست تامر، وأنا الآن معهُ في المستشفى الكبير وأجهشَ بالبكاء.وارتفعَ نحيبُ الأم عند سماعها الخبر الفاجع : (تامر ..تامر ..إبني حبيبي ..) .
شعرَ الأبُ كأنَّ دموع الأم تغلغلت عبر الأسلاك وانتشرت مع أنين ( حسب تعبير الكاتب "صفحة 14).
تحدثت مع زوجها طويلا بعد وصولها المستشفى وجلست إلى جانبه وتضرَّعت إلى الله بصوت خافت ومخنوق أن يشفي ابنها... ولم تستوعب هذا الحدث وأحيانا تظن أنه كابوس مرعب (صفحة 16 ) .
وبعد عدّة ساعات من الإنتظار في المستشفى خرجَ الطبيب المسؤول وقال لهما ( للأب والام ) : لقد أجرينا عدة عمليات معقدة لإبنكم تامر تكللت بالنجاح الجزئي ، لكنه ما زال في مرحلة الخطر لانَّ إصابته بالرأس . وكان لكلمات الطبيب وقع كالصاعقة على الأم فأغمى عليها ( صفحة 19 ) .
وفي اليوم التالي ومع إشراقةِ الشمس معلنةً ولادة يوم جديد انتشر خبرُ دهس الطفل تامر في القريةِ كانتشار النار في الهشيم . وحيكت ونسجت إشاعات بلا أرجل، فضاقت أسرةُ تامر (الأهل) ذرعا من هذا .. إنَّ ابنهم تامر يصارعُ الموتَ وأفواهُ الناس تجترُّ الأكاذيب وَتُؤلفُ القصص وتسترسلُ في التحليل والتفسير والتنظير .
لم يصدِّق المديرُ والمربُّون والتلاميذ في المدرسةِ التي يتعلم فيها تامر الخبر وأنه قد دهستهُ سيارةٌ ويرقد في المستشفى بين الحياة والموت . فتامر طالبٌ مجتهدٌ في الصفِّ الاول كله نشاط وحيويّة .
دخلت المعلمةُ التي تُعلمُ تامر إلى الصف، وهي في حيرةٍ كيف ستخبرُ زملاءَهُ بما حدث لتامر وكانت شاردة الذهن حائرةً في أمرها.
فقال أحدُ التلاميذ وهو صديق تامر واسمهُ سامر دُهسَ تامر يا مُعلّمتي ! فأجابتهُ المعلمةُ:اجل سوف نتحدَّثُ عن الحادثةِ (صفحة21).
وبعد مرور أسبوع من الحادث وتامر ما زال في غرفةِ العنايةِ المُكثَّفة لا يُحرِّكُ ساكنًا ، موصولا بالأجهزةِ الطبيَّةِ وأهلهُ وأقاربهُ متحلّقون حوله في حزن وقلق واكتئاب يستوقفون ويسألون الأطباء للإطمئنان على حالتِهِ ، وكان أهلُ القريةِ من جميع الحارات يزورون المستشفى بالمئات وهاتف والد تامر لا ينقطع عن الرنين..ولم يقدَّر للطفل تامر أن يعيش فقد فارق الحياة صباح يوم الجمعةِ من شهر نيسان رغم ما بذله الأطباء لأجل شفائهِ. وقد خيَّمَ الحزنُ الشديد على القرية الوادعة، وعلى حاراتها وعلى المدرسة التي يتعلم فيها سامر، وكأن الكون كله وليس هذه القرية فقط لبسَ ثوبَ الحداد الاسود – ( صفحة 23 ).
وتقاطر المسؤولون والاخصائيُون على المدرسة التي كان يتعلم فيها الطفل المرحوم تامر ليهدِّئوا من روع وحزن التلاميذ والمدرِّسين .. تحدَّثوا كثيرا عن الطفل تامر، التلميذ النشيط والمجتهد والمحبوب ، وعن حوادث الطرق ، وعن أسباب الموت .
فقال مديرُ المدرسةِ لجميع الطلاب ليخفف من وقع وهول المصاب الأليم على الجميع :
(( إنَّ الموتَ حقٌّ ..كلُّ الناس سوف يجترعون يوما كأس الموت المُر ! وهو جزء من حياتنا ، وعلينا تقبُّل هذه الحقيقة .
وقالت المربيّةُ التي كانت تعلم تامر : ( إن تامر مثل ابني ، وإني حزينةٌ على فراقهِ ،عزائي الوحيد إنَّهُ عصفورعلى باب الجنَّة .
وقالت مستشارةُ المدرسة : ( لأنّنا نحبّ تامرًا علينا ان نذكرَهُ بالخير دوما ، والحياةُ سوف تستمرُّ ، رويدًا رويدًا علينا العودة إلى انفسِنا .
وقالت رئيسةُ مجلس الطلاب:( إنَّ الله يجبُّ تامرًا ، لذا اختارَهُ ليسكن إلى جواِهِ مُبكِّرًا .
هذا واتَّخذ مجلسُ الطلاب، بعد هذا الحادث المأساويِّ ، قرارًا بإقامةِ دوري كرة قدم مصغَّر يحملُ اسمَ المرحوم " تامر " لتخليدِ ذكراه العطرةِ. وأمَّا أسرته الثكلى فقد تبرَّعت بمجموعةٍ من قصص الأطفال لمكتبةِ المدرسة، صدقة جارية على روحه (روح تامر الطاهرة ) .
وأما مقعده ( الكرسي الذي يجلس عليه في الصف فبقي شاغرا حتى نهاية العام الدراسي .
وقد كتب صديقُ تامر الحميم ( سامر )على كرسيِّهِ : (( كان تامر يجلس هنا ") . وتنتهي القصَّةُ هنا هذه النهاية التراجيديَّة الحزينة التي تدخلُ الحزن والألمَ لكلِّ قارىءٍ ومستمع لقصَّةِ ، وخاصَّة للأطفال الصغار التي كُتبت القصَّةُ لأجلهم ..ولكلِّ أمٍّ فقدت ابنا لها.
تحليلُ القصَّة: كتبت هذه القصَّةُ بلغةٍ أدبيَّة جميلة مُنمَّقة وسهلة الفهم على المتلقي ، مثل جميع القصص التي كتبها الاستاذ سهيل عيساوي للاطفال، وأسلوبها وشكلها وبناؤُها الخارجي مزيجٌ من السَّرد والحوار ،بيد أن عنصرالحوار يغلبُ ويهيمن على الطابع السردي في العديد من الأحداث والمشاهد الدراميَّة في القصَّة.وقد اختارَ الكاتبُ عنوان القصَّة ( عصفور من السماء ) ، وهو عنوان ملائم ومطابق جدا لموضوع وفحوى القصَّة... والعصفور هو دائما رمز للخير والبركة وللبراءة والوداعة والمحبَّة والسلام . ويقصدُ ويعني الكاتبُ بالعصفور الطفل البريىء والوديع والملاك الصغير ( تامر ) الذي كان مثل الملائكة براءةً ووداعة، وكان شعلة من الذكاء وكتلة من النشاط والمرح ، وقد مات دهسا دونما ذنب ، وأحدثَ موتُهُ صدى كبيرا وفاجعة لا توصف على أهله وذويه وأصدقائه وكل من يعرفه . وهذه القصَّةُ تختلفُ عن جميع القصص التي كتبها سهيل عيساوي للاطفال لأن نهايتها محزنة تنتهي بفاجعة ومأساة ( موت بطل القصَّة ) مع أن بدايتها والأجزاء الأولى منها سعيدة ومفرحة تدخلُ البهجة والفرح والسرور للاطفال.. والجدير بالذكر انه لا يوجدُ في القصَّةِ الطابعُ والعنصرُ الفانتازي - الخيالي الهام جدا في ركيزة البناء الهرمي لقصص الأطفال .. الجانب والمنحى الذي يطلبهُ الطفلُ ويتناغمُ معه والمتوفر في معظم قصص سهيل عيساوي الأخرى للأطفال . فالقصَّةُ واقعيَّة من صمميم الواقع وحدث الكثيرمثلها أوما يشابهها في أحداثها في وسطنا العربي وفي كل مجتمع ..أي طريقة الموت للكثيرين من الاطفال الصغار في وسطنا العربي الذين دُهِسُوا بالسيارات أو في حوادث الطرق. وهنالك عائلات إبيدت وأنقرضت ( الأب والأم والأولاد الذين كانوا في السيارة ) في حوادث الطرق . وهنالك أطفال كانوا الوحيدين لأهلهم والإثيرين والمدللين قضوا نحبهم في حوادث كهذه..دهسا بالسيارة .
ولهذه القصَّة أهداف وأبعادٌ عديدة جوهريَّة وهامَّة يجب ان تكون في كلِّ قصَّة تُكتبُ للأطفال، وهي أهم من الجانب الفانتازي ، مثل :
1 ) الجانب والعنصر الفني والجمالي : وهو موجود في كل فصول وأحداث القصَّة. والاستاذ سهيل عيساوي من الكتاب القلائل - محليا -الذي يحافظ على الجماليَّةِ والمستوى الفني الراقي والتألق في قصصه التي يكتبُها الأطفال . ومعظم القصص تكتبت للأطفال – محليًّا - تفتقر إلى هذا العنصر الهام .
2) الجانب الاجتماعي والأسري والإنساني : إنه من أهم وأبرز الجوانب في هذا القصة..فالقصَّةُ إجتماعيَّة إنسانيَّة من الدرجة الأولى ، تظهرُ الجوَّ الأسري السليم والوديع والمثالي ومحبة الأهل وإهتمامهم بأولادهم.وتعكسُ أجواءَ المحبةِ والوداعة والمودة والتفاهم بين الأقارب والأصدقاء والناس ..وبين الاولاد.. ويظهرُ هذا الجانبُ بوضوح عندما يرقدُ الطفلُ تامر في المستشفى بين الحياة والموت بعد أن دهستهُ سيارةٌ ..وكيف يهرعُ ويتقاطرُ معظمُ سكان القرية لزيارته وللإطمئنان عليه .. والحزن واللوعة وأجواء الإكتئاب أيضا التي أحدثها موتُ تامر لكل من يعرفه ..لسكان القرية ولزملائه الطلاب وللمعلمين وجميع الكوادر في المدرسة التي يتعلم فيها تامر . هذه القصَّةُ تعكسُ القيمَ والمُثُلَ والمبادىءَ ومكارمَ الاخلاق والنخوة والشَّهامة التي يتحلى بها المجتمعُ العربي الأصل،وخاصة قبل عشرات السنين (لأنه في يومنا هذا-عصر العولمة والمادة والبيزنس والتيكنيلوجيا والإحتكاك والإختلاط بالاجانب بدأت تخفُّ وتتقلصُ هذه القيمُ والعاداتُ الأصيلة بشكل تدريجي) والتي يفتقرُ إليها ، بل ينعدم منها كليًّا المجتمعُ الغربي..ففي المجتمات الغربية وفي المدن والعواصم الأوروبيَّة مثلا إذا أصيبَ إنسانٌ بحادث ما أو سقط ميتا في نصف الشارع لا يلتفت أحدٌ إليه ويبقى مُلقًى على قارعة الطريق أو في وسط الشارع وأمام جميع المارَّة حتى تأتي الشرطةُ وتأخذهُ..على عكس مجتمعنا العربي الأبيِّ والأصيل الذي يهبُّ ويهرعُ رجالهُ ونساؤهُ شيبهُ وشبانهُ وأطفالهُ لنجدة ومساعة أيِّ شخص ينالهُ مكروه..حتى لو كان غريبا عنهم ولا يعرفونهُ.
3 ) الجانب التثقيفي والتعليمي : تُعَلّمُ هذه القصَّةُ الكثيرَ من الأمور والاشياء للأولاد على الصعيد الإنساني والإجتماعي ، فمثلا : توضحُ القصة لكلِّ طفل انَّ الأهلَ يُحبُّون أطفالهم وأولادهم كثيرا.. حتى لو قسواعليهم أحيانا وعاملوهم بشدة...فهذا يكون لمصلحتهم ولردعهم عن إرتكاب الأخطاء مستقبلا.. وهنالك أطفال يفكرون أحيانا بالإنتحار وأن يضروا أنفسهم وأجسادهم وأن يلقوا بأنفسهم أمام أيَّةِ سيارةٍ مسرعة كرد فعل على تصرف الأهل تجاههم..أو إذا شاهدوا مسلسلا أو فيلما تلفيزيونيًّا فيه ينتحرُ أحدُ المُمَثلين - سواء دهسا بالسيارة أو شنقا - فيحاولون ان يقلدوا تلك الشخصيَّة المنتحرة تلقائيًّا . فكلُّ طفل يقرأ أو يستمع لهذه القصَّةِ يفكر مليون مرة إذا غضب من أهله ألا يقدم على الإنتحار أو يضر جسده ، لأنهُ يعرفُ إذا جرى له أيُّ مكروهٍ أو توفي سيترك هذا الأمرُ كارثة ومأساة لأهلهِ كلَّ الحياة ولأصدقائة وزملائه في المدرسة..وستكونُ حياتُهم حزنا ولوعة وعذابا .. ويظهرُ هذا الأمرُ جليًّا بعد موتِ بطل القصة الطفل تامر حيث كان جوُّ الحزن والالم واللوعة يجتاحُ القرية كلها... أهله ( أبوه وأمه ) وأصدقاءهُ وأقرباءه والمعلمين في المدرسة.. وان مقعده ( الكرسي الذي يجلسُ عليه في المدرسة ) بقي فارغا ..وكتب عليه زميلة ( سامر ) الذي كان يجلسُ بجانبة : ( هنا كان يجلس الطفل تامر ) .. إن هذه الجملة تثيرُ الحزن واللوعة في قلب ووجدان كلِّ إنسان ..فكيف بالأحرى الطفل الصغير عندما يقرأ أو يسمع هذا الكلام .. فيحسُّ بالمأساةِ والكارثة التي ستقعُ على زملائه وأهله لو حدث له أيُّ مكروه .
4) عنصر الإيمان- والحكم والمواعظ : يظهر عنصرُ الإيمان في عدة أماكن من القصة ، وخاصة عندما يخطبُ مديرُ المدرسة أمام الطلاب وهيئة التدريس والأهالي والضيوف في المدرسة بعد وفاة الطفل تامر ..ويحاولُ تعزية الجميع وتخفيف الحزن والألم واللوعة عنهم ..فيقول : إنَّ كل شيىء قضاء وقدر، ولكل إنسان عمر مقدر . وهذه مشيئة الله ولا نستطيع أن نعترض على مشيئة القدر .
وفي كلمة رئيسة مجلس الطلاب : ( إن الله يحبُّ تامرا، لذا اختاره ليسكن إلى جواره مبكِّرا " - صفحة 25 " ) .
5 ) عنصرالتشويق : هذه القصَّة أسلوبها مشوق ويجذبُ القارىء أو المستمع للإستمرار في قراءتها أو الإستماع إليها حتى النهاية ..وحتى في فصولها وأحداثها الدراميَّة المحزنة والتي تنتهي بفجيعة ومأساة .
6 )عنصر المفاجأة : موجود هذا العنصر في عدة مشاهد في القصة .. مثلا عندما يكون الطفلُ تامر مع أبيه يشاهدان لعبة كرة القدم .. وبعد إنتهاء اللعبة يسرعُ الطفلُ تامر الى الشارع وتدهسه سيارةٌ مسرعة (حادث محزن لم يكن يتوقعه القارىء) .. وبعد أن يرقدَ تامر أكثر من أسبوع في المستشفى في حالة خطيرة .. فكلُّ قارىء كان يتوقع أنه سوف يُكتبُ للطفلِ تامر الشفاء وسيرجع إلى بيتهِ ويعود إلى حياته الطبيعية وإلى المدرسه وإلى لعبه ومرحه مع زملائه.. ولكن لم يُقدَّرْ لهذا الطفل أن يعيش فيموت فجأة – كما جاء في القصة- ويتركُ موتهُ حزنا وغصة كبيرة في قلوب أهلهِ وكلِّ من يعرفهُ .
7 ) التشجيعُ على حبِّ ممارسة الرياضة : من المواضيع الهامة التي تناولتها القصةُ رياضة كرة القدم التي يحبُّها ويعشقها معظمُ الناس في المجتمع،وخاصة الأطفال الصغار.فالقصةُ تُشجِّعُ الاطفالَ على ممارسة هذه الرياضة الهامة التي ربما تحتلُّ اليوم الممكانة الأولى من بين جميع أنواع وألوان الرياضة..والرياضة لها فوائد عديدة:جسدية وذهنية أخلاقية وسلكويَّة . فهي عدا انها تقوي الجسمَ وتنشطهُ وتبعد عنه الأمراض والمشاكل تعملنا المحبة والتسامح والإنضباط والتواضع .. ويظهرُ قيمةُ وأهميةُ الرياضةِ من الناحيةِ الجوهرية والسلوكية والخُلقية عندما يفوز الفريقُ الخصم وبجدارة على الفريق الذي يُحبُّهُ الطفلُ تامر فيحزن ويغضب تامر كثيرا .. فيطلبُ منه والدهُ أن يتريثَ ويرضى بالنتيجة،لأنَّ الرياضة هي اخلاق ومبادىء وقيم ومحبة وتسامح..وعلى الفريق الخاسر أن يقبلَ النتيجة ويبارك للفريق الذي كسب المبارة .. والرياضة سجال..كر وفر.. فيوم يربح هذا الفريق ..ومرة أخرى على العكس يربح الفريق الآخر ..
يستعملُ ويوظفُ الكاتبُ الأستاذ سهيل عيساوي ، في هذه القصَّة ، بعض الجمل الشاعرية والإستعارات البلاغية الجميلة والعديد من الكلمات العربية التي تبدو صعبة على الفهم.. ولكن قد يفهمُهَا حتى الإنسان البسيط أو الطفل الصغير ، وذلك حسب طريقة استعمالها وموقعها في الجمل ، ومن خلال مجرى الأحداث . واللغةُ العربيَّة هي لغة يُسر وليست لغة عُسر..وكل كلمة فيها مهما كانت صعبة وقديمة هي تفسِّرُ نفسَها بنفسها من خلال موقعها في الجملة... وهذا ما يميِّزٌ اللغة العربية عن باقي اللغات - ( اللغة المقدسة - لغة القرآن الكريم –اللغة العربية الفصحى ) . ومعنى اللغة الفصحى والكلام الفصيح : أي اللغة المفهومة الواضحة والكلام الفصيح الواضح .
ومن الكلمات والجمل البلاغية التي استعملها ووظفها الكاتبُ في القصَّةِ ، مثل :
(( ضحكاته تشق سكون الفضاء مثل حلاوة شرقيَّة شهيَّة وموسيقى بلا عزف – صقحة " 3" ) .
(( بدت على تامر أمارات الغضب - صفحة" 9 )) .
(( لم يستطع أن يحبسَ دمعةً حارَّةً انحدرَت على خدِّهِ الطريِّ بسلاسةٍ وارتطمت بالأرض – صفحة " 10 ") .
((شعرَ أنَّ دمه تجمّد في عروقهِ ، والوقتَ تحنَّطَ .. – صفحة 13)).
(( والافكارُ تدور في خلده بسرعةِ الضوء )) .
(شعرَ الأبُ أنَّ دموع الأمِّ تغلغلتْ عبرَ الأسلاكِ وانتشرَتْ مع الأثير – صفحة"14 )) .
( بعد ساعات طويلة من التقلب على جمر الإنتظار - صفحة 19) .
(( وَنُسجت إشاعاتٌ بلا أرجل - صفحة 20 ) .
(( ولبسَ الكونُ ثوبَ الحداد الأسود – " صفحة 23 " ))
...وهذه الكلمات أيضا :
(عارمة : عظيمة ، قوية وعنيفة – صفحة 5 ) . (المرناة ..أي التلفزيون – صفحة 5 )
أترابه : أصدقائه وزملاؤه في نفس الجيل والعمر - صفحة 5 )
( حَيِّزًا : مَكانا - صفحة 5 ) .
(( كثب : قرب ))
(( رويدًا رويدًا : قليلا قليلا .. مهلًا – صفحة 5 )
( أسهبَ : أطالَ وتوسَّعِ - صفحة 9 )
( خلدهِ : بالهِ وذهنهِ - صفحة 13 ) .
( مقلتيه : عينيه - صفحة 12 ).
( الأثير : الهواء - المفضل والمُحَبَّذ - صفحة 16 ) .
الخاتمة : هذه القصَّةُ ناجحةٌ وعلى مستوى فنيٍّ وأدبيٍّ عالٍ وراق وتصلحُ لجميع مراحل الطفولة وللكبار أيضا...وفيها جميعُ الأسس والعناصر الهامة التي يجبُ أن تتوفرَ في قصصِ الأطفال ..وتفتقرُ فقط للجانب الفانتازي .. وفيها الديناميكيَّةُ والحيوية والحياة النابضة حيث يدخلُ الكاتبُ عدة شخصيات في القصَّة ولا يكتفي بشخصيَّتين أو ثلاثة فقط ( الطفل والأب والأم ) كالكثير من القصص التي تكتبُ الأطفال . .. لقد أدخل شخصيات محوريَّة ومركزيَّة هامة وليست هامشية مع أن توظيفها كان مقتضبًا ضمن الحوار ( ديالوج ) غير المطول ، مثل : الطفل ( سامر) زميل وصديق الطفل تامر في المدرسة.. وأيضا معلمة المدرسة ومدير المدرسة ومستشارة المدرسة ورئيسة مجلس الطلاب ..إلخ . ولكن القصَّة تنتهي بفاجعةٍ ومأساةٍ ( موت البطل ) ، وهذا ما يميِّزُها عن جميع القصص التي كُتِبَتْ للأطفال حتى الآن ، وليس من المُحَبَّذِ في أيِّ قصةٍ تُكتبُ للأطفال أن يشوبَها جوُّ الحزن واللوعةِ .. فيجب علينا أن نُسعِدَ الطفلَ ونفرحَهُ وندخلَ إلى نفسهِ وروحهِ البهجة والسرورَ والأمل والتفاؤل والسعادة وليس الحزن واليأس والإكتئاب والمرارة واللوعة..ولكن مع كلِّ هذا فلهذهِ القصة التي نحن في صددها أهميَّةعالية وقيمة كبيرة لأبعادِها وفحواها وفوائدها: أدبيا وفنيا وتعليميًّا وإنسانيًّا ، وتعتبرُ قصة ناجحة جدًّا وطليعيَّة من الدرجة الاولى تفيدُ الأطفالَ في الكثير من الأمور والمجالات الهامَّة . وهي أيضا مسليَّة للطفل في الأجزاء الأولى منها وقبل أن ينتقل الكاتبُ إلى الفصول والأحداث الأخيرة في القصَّة وإلى الجوِّ التراجيدي الذي ينتهي بموت بطل القصَّة ( الطفل تامر ) .
( الأديب الأستاذ سهيل عيساوي )
( الأستاذ سهيل عيساوي مع الشاعر حاتم جوعيه )