نظرية التفويض وتفسير الإبداع
الذي ينظر الى مصطلحي (الأمانة والخلافة) يجد فيهما معاني (العبادة ),بما تحتويانه من دلالات (الحمل والتكليف والحرية والمسؤولية) قال تعالى:( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا) الأحزاب72أ,وقوله تعالى:(فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)الكهف29 , ومن هنا يأتي (التسخير) لتسهيل مهمة الإنسان في الأرض , ومنحه( التفويض ), الذي يطلق يده وجهده في إعمار الأرض , ويسر له عوامل النجاح في هذه المهمة ,وكان العامل الأول لهذا النجاح , أن الله زود الإنسان بالعقل والطاقات والمواهب اللازمة ,والعامل الثاني هو أن الله سخر لهذا الإنسان ما في السموات والأرض ليستثمره في بناء حضارته وحياته, وأما العامل الثالث وهو الأهم , هو أن الله بعث له رسالات الأنبياء , لتبصره بصحة المسار, والطريق المستقيم الذي يرضي الله سبحانه وتعالى عنه , حيث يستمد الهداية من علوم الوحي, وتتابع الأنبياء حتى الرسالة الخاتمة , ليقوم بالعبادة على أكمل حال , وأما إذا اتبع هواه ,وخالف أمر الله سبحانه وتعالى , فعليه ان يتحمل المسؤولية ,وتبعات المخالفة والابتعاد عن أمر الله يوم الحساب.
وأما( الخلق الفني والإبداع فإنه مرتبط (بالتفويض) : ونعني به إنعام الله على الانسان بالمواهب والطاقات الفاعلة , وتفويضه , لتوظيف هذا الإبداع ,في خدمة خلافته , بعد أن سخر له ما في السماوات والارض, ويوم زوده بالعقل القادر على تشكيل الأشياء , وسمى فعله خلقاً , بدليل قوله تعالى عن المسيح عليه السلام ( إني أخلق من الطين كهيئة الطير ..... ) وقوله تعالى ( وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير ....) فسمى تشكيل الطين خلقاً , وهو خلقٌ تفويضي وعطاء للعقل البشري , حيث جعله قادراً على ( التشكيل للطين ولغيره من الأشياء ) وظهر ذلك جليا حين تقدمت البشرية في عصرنا , حيث تمكنت من تشكيل المعادن واللدائن وسائر المواد ,التي شكلتها وطوعتها ,في الهيئة التي تنفع وتلبي حاجات الانسان في حياته ومعاشه وحضارته ..
وموهبة التشكيل من (المواد ) والتحكم بها , تشبه موهبة تشكيل الصور الفنية الادبية من (اللغة )في (الخلق البلاغي من خلال الصور الفنية البلاغية ) الذي يشكله الإنسان من اللغة وكلماتها , لأن الله سبحانه وتعالى زوده بنعمة البيان ,كما زوده بنعمة التشكيل, بقوله تعالى ( علمه البيان ) وجعله أيضا قادراً على التشكيل البياني اللغوي ,الذي يعبر به عن نفسه وحاجاته وتطلعاته, وجعله قادرا على خلق وتشكيل وتصميم الأجهزة التي تخدمه في بناء حضارته , قال تعالى ( علم الإنسان ما لم يعلم ) حيث يتعلم مما أودعه الله في مخلوقاته من السنن , فالإنسان يخلق من المواد أشكالا, ومن البلاغة واللغة صوراً جميلةً , ومن الأجهزةِ ما يخدمه في حياته الأرضية ,فقد تعلم (صناعة الطائرة المروحية من البعوضة )وتعلم (الرادار من الخفاش) وتعلم (صناعة الحاسوب من نظام العقل البشري) وتعلم (الارسال الاذاعي من اكتشافه لطبقات الجو) وتعلم (التصوير بعد اكتشافه لأجزاء العين) و(تعلم مكبرات الصوت بعد اكتشافه لأجزاء الأذن ) و الأمثلة على ذلك كثيرة , ولكنه خلق محدود بتفويض من الله , حين سخر له ما في السماوات والأرض ,فعليه أن يدرك هذه النعمة, ويعلم أنه مكرم من الله بهذا التسخير .
ومع ذلك ,فهو لا يخلق حياةً ولا ذباباً ولا نشورا, وجميع ما يصنعه يأخذه من ( المواد الأولية ) من مخلوقات الله ,فهو يعيش عالة على مخلوقات الله تعالى بما سخر له , قال تعالى : (وسخر لكم ما في السماوات والأرض ).
وفي قوله تعالى ( فتبارك الله أحسن الخالقين ) قد عبرت الآية الكريمة عن تعدد الخالقين ورفض المقارنة بين خلق الله للأشياء و خلق العباد لها , حيث أعلنت الآية في بدايتها رفض المقارنة من خلال صيغة التعظيم ( تبارك ) رغم وجود صيغة التفضيل ( أحسن ) مضافة إلى كلمة الخالقين , فخلق الله سبحانه وتعالى خاضع لكماله وعظمته وقدرته , وخلق الإنسان للأشياء خاضع لضعفه ونموه ومرضه وهرمه وموته, وهو خلق وإبداع قابل للسلب والبقاء بأمر الله, لأنه عطاء من الله إن شاء أدام هذه النعمة على عبده , وإن شاء سلبها منه ؛ وهذا العطاء محدود بطاقات العقل البشري المحدود , وعمره في الأرض , وفي قوله تعالى ( ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ) أي لا يوجد فيه اختلاف في مستويات الإتقان والإبداع والجودة ,وانتفاء النقص , لأن الله لا يصدر عنه إلا الكمال , فخلق الله كامل منذ أن صدر أمر الله بخلقه ,فلو نظرت الى السماوات وكررت النظر مرارا وتكرارا , ما وجدت إلا الكمال والإتقان الذي لانقص فيه لأنه لا يصدر عنه إلا الكمال.
أما (التفاوت )الذي يعني النقص والضعف وعدم الاتقان في الخلق , فهو حال المخلوق الذي يعتري عمله وعلمه وما يصنعه الضعف ,لأن هذا الحال هو الصفة الدائمة للإبداع البشري , الذي يخضع لميلاد الإنسان ونموه , ومرضه وقوته وتقلب أحواله , بين الشباب والشيخوخة والحياة والموت , وفي قوله تعالى ( بديع السماوات والأرض ) تشير الصفة المشبهة ( بديع ) إلى أن الإبداع والخلق الرباني هو صفة ثابتة في الخالق , أما إبداع البشر فيمكن وصفه بصيغة اسم الفاعل ( مبدع ) ما يشير إلى تقلب الإبداع في البشر, وأنه إبداع ناقص, يحتاج إلى التطوير المستمر, و المر اجعه الدائمة والإضافة الفاعلة , ويخضع لأحوال البشر في الصغر والكبر , والسلامة والمرض وتقلب الاحوال ,كما أنهم يحتاجون فيه إلى التوفيق من الله سبحانه وتعالى.
وفي هذا مدخل للناقد الأدبي لفهم الموهبة وتفسيرها , والتعرف على اصولها, ومعرفة من انعم بها, والتواضع لله بشكره على هذه النعمة , نعمة اللغة ونعمة القدرة على البيان ونعمة
الإبداع ونعمة حماية وحفظ العلم والخبرات البشرية , ونقلها من جيل الى جيل , عن طريق
اللغة وتدوينها للعلم والحضارة , لأنها (وعاء العلم )الذي يحفظه من النسيان.
وفيه مجال لبحث الالتزام بنعمة البيان ,والقدرة على تشكيل الاشياء وتوظيفها في
حدود التفويض, وذلك بالطاعة لله الذي انعم بها ,أما إذا وظفها في خدمة ضلاله, كتشكيل
الأوثان و الأصنام ,او صناعة الجمال الادبي لتوظيفه في خدمة الباطل ,او الصناعات التي قد تؤدي الى هلاك البشر, فقد بطر النعمة وحولها نقمة وكفرا وجحودا ,وبذلك يفقد حق التفويض بسلوكه هذا, لأنه خان الأمانة , وأصبح من المفسدين في الأرض ,نعوذ بالله من المفسدين , دنيا وآخرة عملا ومصيرا.
وسوم: العدد 895