وقفات مع رواية "ليالي تركستان"
وقفات مع رواية "ليالي تركستان"
للدكتور نجيب الكيلاني
حيدر قفه
الأديب الروائي الدكتور نجيب الكيلاني أديب واقعي، وأدبه يصنف في الأدب الواقعي، فهو لا يكتب أدباً رومانسياً خالصاً، ولا سوريالياً، ولا أدب الفنتازيا، ولكنه أدب واقعي وطني، أو إن شئت فسمه أدباً سياسياً إسلامياً. ولعل هذه الأقرب في تعريف جلّ ما كتب الدكتور الكيلاني.
ورغم هذه الواقعية، أو السياسية، أو التاريخية التي تصبغ أعماله الأدبية، إلا أنها تمتاز بفنية عالية، ولا تجنح إلى سلبيات كل مذهب من المذاهب السابقة، فلا تعني الواقعية عنده تسجيلاً دقيقاً وتصويراً – آلة تصوير (كاميرا)- للأحداث دون شفافية الأديب، وحميمية الأدب، ولا تعني السياسية الأحكام الجافة، أو المعادلات الدقيقة، والاحتمالات المتوقعة التي تذخر بها السياسة، ولا تعني التاريخية تسجيلاً أميناً لحوادث غبرت في التاريخ دون التعامل القلبي معها.
ومن هذا المنطلق نبحث عن الجوانب المهمة التي أثارتها رواية الدكتور الكيلاني"ليالي تركستان" في وقفات سريعة. ولقد احترت في تسمية هذا المقال، هل أسميه (وقفات مع الرواية) أو (تغيير الطفرة: سماته وآثاره من خلال الرواية)، ولعل ما أكتبه يوحي بالعنوانين معاً، ذلك أن الأحداث التي عايشتها الرواية تدل دلالة واضحة على العنوان الثاني، وإن كان الأول ليس بعيداً عنها.
فرواية"ليالي تركستان" تحدثت عن الاحتلال الشيوعي لدولة إسلامية هي تركستان، الواقعة بين خصمين شيوعيين كبيرين هما: الصين وروسيا، وقد لاقت الأَمَرَّيْنِ في هذه الفترة الممتدة من سنة 1930 إلى 1950م وهي الفترة التي غطتها أحداث الرواية.
ومن المعروف أن التغيير السريع والمسمى بالطفرة، والذي تعتمده الشيوعية أسلوباً في الحياة، ونهجاً في الحكم، يقوم أساساً على قهر الناس، وتكميم أفواههم، وتحطيم قيمهم الدينية، أو عاداتهم الاجتماعية، ومن لا يرضخ لذلك – ولو مكرهاً – أو يستجيب سريعاً، فليس له إلا القتل. وهم في طريق ترسيخ مبادئهم لا مانع لديهم من انتهاك الأعراض، فالاغتصاب تطبيق فوري للشيوع في النساء، وكذلك الاستيلاء على الأموال والممتلكات دون توقف، منهج في تصورهم للعدالة الاجتماعية التي يزعمون.
وكل هذه الأمور تتم بأسلوب ليس فيه ذرة من رحمة ولا شفقة ولا مروءة، ولو استدعى الأمر تجنيد الناس ليعملوا في الخفاء ضد بعضهم بعضاً تحت سلطان التهديد، أو الترغيب والترهيب.
فماذا انتجت هذه السياسة على مدى ثمانين عاماً تقريباً، وهي عمر أول دولة تبنت الشيوعية الماركسية؟!... أنتجت- وبشهادة التاريخ نفسه، لا أفراد قد يُؤَثَّرُ عليهم مع أو ضد – الفقر للناس والدولة، وتقهقر الاقتصاد، أنتجت اللامبالاة لدى المواطن، فلا حوافز داخلية تدفعه للعمل، ولا إيمان يمنعه من التواني والكسل، فانعكس ذلك على الاقتصاد، وأنتجت تفسخاً في العلاقات الأسرية، وسقوطاً في وهدة الجنس الذي تعودوا على مشاعه، فأصبحت روسيا أكبر دولة مصدرة للمومسات في العالم (ذكرت الصحف: أن عمليات ضخمة لتوظيف المومسات في الهند وإسرائيل وتركيا ومعظمهن من روسيا وأوروبا الشرقية) والمحصلة النهائية لكل هذه الممارسات الخاطئة على جميع الأصعدة كانت الهزيمة، والتراجع، والتطاحن، وخير شاهد على ذلك جمهوريات (الاتحاد السوفيتي سابقاً) و (يوغسلافيا) وما بين دولها من حروب عرقية طاحنة، فضلاً عن أزمة الطعام، وتدهور العملة، وانتشار الجريمة، وتشرد الأطفال، والقتل من أجل روبل واحد!!
وما يعنينا في رواية "ليالي تركستان" هو أن نضع أيدينا على هذه الجوانب مفصلة واضحة من خلال السرد التاريخي – أو بتعبير أدق الروائي - لأحداث الرواية، والتي نسجلها على هيئة وقفات.
الوقفة الأولى:
مع الجريمة التي تُرتكب ضد الفرد في حريته، وفي عرضه، وفي ماله، حتى في نفسه بالقتل، وهي سياسة اشتهرت عن الشيوعيين كدول وأحزاب وأفراد، وتتسم هذه السياسة بالاعتقالات الجماعية للناس، والتعذيب الوحشي داخل السجون، وعمليات التحقيق المضنية في أروقة المخابرات، وآلاف الهياكل البشرية في قبور جماعية قريبة من السجون، أو في أقبية مباني المخابرات العامة (ص 118 – 120).
ولا تقتصر الوحشية على تعذيب المعتقل لانتزاع اعترافات مكذوبة أمليت عليه، ولا على خروج المعتقل بعاهة مستديمة إذا لم يمت تحت التعذيب، بل قد يمتد الأمر فَيُدفن المعتقل بعد موته، ثم يُعلن على الملأ هربه، ثم يتم القبض على أقاربه وتعذيبهم بحجة مساعدته على الهرب، أو معرفة مكان اختبائه (ص 122).
وهاتان الصورتان حدثتاً في أكثر من قُطر في فترة تحكم الشيوعيين في مقاليد الأمور، ولقد حدثتا في مصر الستينات، ولعل الكاتب نفسه اصطلى بنيران سجونهم وحقدهم، وقد وُصِفت هذه الفترة في أكثر من كتاب، يشيب لوصفها الوِلْدَانُ، وهي من الكاتب عملية إسقاط لما يحس به – أو أحس به – في عالمه الخاص، أو ما يحيط به.
وهناك صورة أخرى للتعذيب والوحشية، وهي قتل العلماء وحرقهم، ورفع شعار"شنق آخر عالم بأمعاء آخر جندي" وقد طُبِّقَتْ هذه السياسة في البلاد العربية التي نُكبت بفترة تسلط من هؤلاء الحمر، فقد حدثت في العراق أيام عبد الكريم قاسم وإبان ثورة الشواف في الموصل (وقد أجاد وصفها الكاتب والأديب الكبير الدكتور عماد الدين خليل في روايته"الإعصار والمئذنة") وحدثت في الصومال أوائل حكم سياد بري، يوم أن حرق العلماء وأئمة المساجد... سياسة واحدة في كل مكان، سِمَتُها الوحشية التي تخجل منها الوحوش في آكامها.
ومن صور اللاإنسانية عند الشيوعيين الاغتصاب الجنسي للنساء بالقوة، وتحويلهن إلى مُمَارِسَاتِ للبغاء تحت التهديد بالقتل أو التعذيب (ص 157 – 158) وهم يعتبرون ذلك شيئاً طبيعياً في ظل عقيدة تؤمن بشيوع النساء، وعدم الإيمان بالله، واحتقار الأديان.
وهذه الصورة وإن كان الكاتب قد أوردها في تسلسل الحوادث الروائية عن تركستان، إلا أن الوقائع تشير إلى حدوثها في أكثر من مكان تسيطر عليه الشيوعية، حتى أن الجبهة الشعبية لتحرير أرتيريا – قبل الاستقلال – كانت تخطف النساء الأرتيريات المسلمات من قراهن إلى معسكرات الثوار، ويتم الاعتداء عليهن، ولا تعاد الواحدة منهن إلى قريتها وأسرتها إلا بعد أن تضع مولودها (ابن السفاح)، فيأخذونه منها بدعوى تربيته وتنشئته على النقاء الثوري!! في محاضن شيوعية، بحيث يشب الغلام ولا يعرف له أسرة إلا الدولة والحزب، وقد كتب عن ذلك أستاذنا الشيخ محمد الغزالي في حينه، يوم أن زكمت الأنوف رائحةُ هذه الفضيحة.
كما أسلفت، فكل هذه الحوادث التي ذكرها الأديب في روايته حقائق تناقلتها الألسن ووكالات الأنباء، وتحدث بها المسافرون حتى أصبحت من الأخبار المتواترة التي لا ينكرها إلا مكابر.
الوقفة الثانية:
الشيوع الجنسي، وهو جريمة نكراء ضد الإنسانية، ذلك أن النظرية الشيوعية قامت على اعتبار النساء مشاعاً، ولا داعي لمؤسسة الأسرة في الحياة الجديدة، لأنها نظام رجعي بال، والكل – رجالاً ونساءً – يعملون داخل المزارع الجماعية، أو المعامل والمصانع ولهم حرية الاتصال الجنسي تبعاً للميل القلبي، فإن أراد اثنان الارتباط المدني فلا مانع، ويمنحان حجرة واحدة مستقلة بعد أن كان النوم في غرف كبيرة تضم عشرات الرجال، أو عشرات النساء. فإذا جَدَّتْ لهما رغبة في التغيير والتنويع فلا بأس، ولا داعي لفض العقد أو فسخه، لأنه لا عقد أصلاً، وإنما يكتفي بإبلاغ قيادة المزرعة مثلاً بتخليهما عن حجرتهما الخاصة والعودة للإقامة في الغرف الجماعية!!.
وفي ظل هذه العقيدة كانوا يعتدون على النساء – كما أسلفت في الوقفة الأولى – حتى العلاقات الحزبية كان تقوم على مثل هذا السلوك، ففي"الكتاب الأسود" عن الحزب الشيوعي العراقي، كان أحد المسؤولين يرسل عضواً آخر (أو رفيقاً كما يسمونه) في مهمة خارج بغداد، لكي يتمكن من الاختلاء بأخته، وهي (رفيقة أيضاً في الحزب)، وهذا من الخراب الذي تحدثه العقيدة الفاسدة، وإن كانت حالة فردية هنا، فما حدث في أرتيريا حالة جماعية، فكيف وصل الأمر إلى هذا الحد في مجتمعات جذورها إسلامية؟
وهذا ما تحدثه المعايشة لهؤلاء من استخفاف بالقيم، نتيجة فساد في التصور. فهذه"نجمة الليل" المرأة المسلمة التي تزوجت الضابط الصيني"باودين" مكرهة، عندما تتمكن من الخلوة بخطيبها السابق"مصطفى مراد حضرت" تريد أن تطارحه الغرام!! ولما رفض مبرراً رفضه بأنهما مسلمان، وهي زوجة لرجل آخر، وإن كان عدواً قالت: خيانة الخائن ليست خطيئة (ص 102)، وهذا تبرير مرفوض إسلامياً لقول النبي r:"ولا تخن من خانك" ولكون الزنا حراماً أصلاً مع من كان، لكن تهافتها هذا مرده للجو العام الذي تعيش فيه، وسط الضباط الشيوعيين من روس وصينيين، في أجواء الخمر والرقص والسهرات الحمراء.
الوقفة الثالثة:
المغالطة في قلب الحقائق، وهي سياسة الضعفاء، وخط المتسلطين الفارغين، الذين لا يملكون إلا فتل الشوارب واستعراض العضلات في مقابل وضوح الرؤية ونصاعة المبدأ. وهذا كان دأب الشيوعيين، فالمعروف أن الإسلام دين الحضارة، وأنه دين رفض حجة القائلين بالبقاء على ما كان عليه الآباء والأجداد، إن كان هذا شيئاً من الضلال، فهو بهذا المفهوم ثوري أكثر من ثورية الاشتراكيين، وتقدمي أكثر من تقدمية العلمانيين الماديين، لكنهم بتنطعهم رموا الإسلام بالجمود والتحجر والتخلف والرجعية، وعليه، فمن أراد التقدم فعليه أن يتخلى عن الإسلام، ومن أراد التطور فعليه محاربة الدين، والدوس على القيم... فلكأني بالتحرر خروج عن العقل، فلا تحرر مع صلاة، ولا تقدم مع حشمة، ولا تطور مع قيم نبيلة (لعنة الله على الشياطين الحمر!! إنهم مزقوا قناعي في الشارع... وفعلوا ذلك مع كل امرأة تسير محجبة، واختطفوا عباءتي، وأشعلوا فيها النار... بل أمسكوا بثوبي وأعملوا فيه المقص حتى يصير قصيراً... وتصير أكمامه أيضاً قصيرة... إنهم يريدون لنا التقدم والحضارة ص 152). وهذا عين ما فعله شَبِيَبةُ حزب اشتراكي في بلد عربي مسلم مع المحجبات في السبعينات من هذا القرن!!
ولم تقتصر المغالطات على ذلك، بل تعدته إلى التاريخ والأشخاص، فالحكام المتسلطون يوحون للناس بأنهم منحة الزمان النادرة، وهم بناة الدولة الحقيقيون، وأن التاريخ الحقيقي لم يبدأ إلا بهم، وكل ما في حياة الشعوب من أشخاص وأبطال قَبْلَهُم فهم نكرات، أو أن التاريخ مزيف لأنهم في الحقيقة كانوا خونة وعملاء، والوطني الوحيد هو الزعيم الحالي، والشرفاء هم زمرته فقط (ص 153 – 154).
وهنا يتساءل المؤلف: لماذا جعلوا التقدم قرين التهتك والخروج على كل القيم النبيلة؟ ولماذا لم يربطوا التقدم بالحرية، والعدل، وبرغد العيش... وكلها مجالات فشلت فيها الشيوعية في أكثر من بلد (ص 169). إنها المغالطات وقلب الحقائق، ومحاولة التأثير على الناس قسراً، متصورين أن سكوت الناس دليل على الاقتناع بزيف ما يقولون، وصدق من قال: مَنْ وافقك على رأيك تحت الضغط، ما زال على رأيه الأول.
الوقفة الرابعة:
الجوانب الروحية وكيف ينكرها الشيوعيون، لأن ماديتهم تقوم على أساس المحسوس، ولذا فهم لا يؤمنون بالله لأنهم لم يروه، ولا بالبعث لأن أحداً لم يرجع بعد الموت فيخبرهم بما رأى... وهكذا.
وقد أورد الكاتب مناقشة بين القائد الصيني الشيوعي"صن لي"وأمير"قومول"المسلم حول البعث بعد الموت، والجنة والنار (ص 26) وكيف استطاع أمير قومول إفحامه، بأن ليس كل شيء يلمس باليد أو يُرى بالعين حتى نؤمن به (وقد كانت كأس من الخمر في يد القائد) فقال له: إن الكأس في يدك، لكن أين النشوة التي تحس بها... هل تراها في الكأس؟ هل تلمسها؟ فأسقط في يده.
وهذه الصورة من إنكار ما لا يُرى أو يُلمس، ذكرتني بالطرفة التي قالها تلميذ سوداني مؤمن بالفطرة لأستاذه الشيوعي في الستينات عندما قال الأستاذ لطلاب الصف: نحن نرى الباب، إذن الباب موجود، ونحن نرى المقاعد، إذن المقاعد موجودة، ولكننا لا نرى الله، إذن فهو غير موجود!! فقام التلميذ المؤمن وقال: يا أستاذ نحن لا نرى عقلك، إذن – حسب كلامك – لا عقل لك؟! فَبُهِتَ الذي كفر.
وقد أحسن وأجاد الأستاذ عبد المنعم خفاجي في كتابه القيم"حوار مع الشيوعيين في أقبية السجون" وهي الحوارات التي كان يجريها مجموعة من سجناء الفكر في مصر الستينات، عندما التقى الإسلاميون مع الشيوعيين في سجون الواحات، فكان لا بد من حوارات لتمضية الوقت الطويل الممل في الصحراء الشاسعة الحارقة، وكانت الحوارات حول العقيدة، والروح، والغيبيات، ثم الجوانب الاقتصادية والسياسية... وكان كثيرٌ من الشيوعيين تتزلزل أقدامهم وتهتز قناعاتهم السابقة، أمام الحجج القوية التي كان الإسلاميون يقدمونها، وهي حجج تقوم على العلم المادي الثابت لا على القرآن أو الحديث، حيث لا يسلم بهما الشيوعيون، والحوار يحتاج إلى أرضية موحدة، أو خلفية ثابتة، أو مرجعية لا يُخْتلفُ عليها من الجانبين المتحاورين، فكان العلم والمنطق هما الأساس في هذه الحوارات، فأصاب الإسلاميون وكان لهم الفَلجُ على الشيوعيين، فعاد كثير منهم عن ضلالاته.
الوقفة الخامسة:
أسباب هزيمة المسلمين، ولعل المؤلف جمع ملاحظاته عن تقهقر المسلمين في كل مكان في عصرنا الحاضر، فأسقطها في روايته تلك، وأجرى التشخيص لأسباب الهزيمة على لسان أحد خطباء مساجد (كاشغر) وهو إحساس خفي من الكاتب بأهمية دور العلماء والخطباء في توعية الناس، والملاحظ في الأسباب التي أوردها الكاتب أنها تكاد تكون واحدة في كل بلد مسلم ضَيَّعَهُ أبناؤه، فمن هذه الأسباب. (الاستسلام للنوم العميق، غلبة الدعة والاسترخاء على الناس، كثرة العبث فيهم، الانسلال من الدين عروة عروة، طغيان الأغنياء، استسلام الفقراء، ضياع الحكمة لسيطرة الغوغاء على مقاليد الأمور، رضوخ العلماء للحكام، انتشار الفساد والفقر والجهل، تفشي المعاصي، قوة الأعداء وكثرتهم في مقابل بقاء المسلمين على التغني بأمجاد الماضي الذي صنعه الأجداد، الصراعات الداخلية بين المسلمين، كثرة الظلم، تمزق المسلمين إلى فرق متناحرة في مقابل أعداء متماسكين ص 103 – 104).
الوقفة السادسة:
أثر الهزيمة في تبديل سلوك الناس (ص 49) ذلك أن الهزيمة تهز الثابت من حياة الناس، فيفيقون على دهشة مدمرة تفقدهم توازنهم، ومن ثَمَّ يصبح الناس فرقاً واتجاهات، كلٌ على حسب مقدرته على استيعاب الموقف الجديد، وقلة من الناس من لا يتزعزع إيمانهم بالله، وبالوطن، وبحتمية النصر الذي لا يكون إلا مع الصبر.
بَيْد أنّ الكثرة الكاثرة يصيبها اليأس، فبعضهم يكفر بالله، والكفر مرده إلى أنهم يتصورون أن الله ناصرهم على كل حال لأنهم مسلمون بالهوية فقط، متناسين الأخذ بالأسباب، وصدق الإيمان بالله.
وبعضهم يكون كفره ناتجاً عن تضليله بالكفر الوافد الجديد، القائم على الإلحاد وتقديس المادة، وبعضهم يرضخ للتخويف والتهديد بالتعذيب، فيعمل مع الأعداء، ويخون بلاده وناسه، ومنهم من كانت خيانته بسبب الطمع في نفع عاجل يُلَوِّحُ به الأعداء.
ومنهم من يكون اليأس سبباً في دفعهم إلى الهروب من الدنيا، والانسحاب من الحياة، وهم المعتزلون تحت أي شعار يعلنونه.
ومنهم من كانت الهزيمة سبباً في انحرافه، فالمرأة تفسق وتتهتك وتسير في طريق الفاحشة، وبعض الرجال يعملون معهن تيسيراً للطريق، أو تسهيلاً للفجور... كل هذه السلبيات تولدها الحروب، لا سيما التي تنتهي بهزيمة.
الوقفة السابعة:
نبوءة المؤلف، ذلك أن الرواية ظهرت في طبعتها الأولى سنة 1971م، وهي بالتأكيد قد كتبت قبل ذلك، ولا ندري بكم تحديداً. وهذه الفترة كانت الشيوعية في أوج قوتها وتعاظمها، ولم يكن أحد يرى إلا ظاهرها الموحي بالقوة والصلابة والتعاظم، إلا نفر قليل ممن استقرت العقيدة الصافية في قلوبهم، فهم يعرفون سنن الله في كونه من خلال مدارسة القرآن الكريم الذي تَعَرَّضَ لأقوام كثيرين، فكان المؤمنون الواعون يدركون أن الشيوعية لن تدوم، لأنها مخالفة للفطرة، ومخالفة لسنن الله في كونه، ولا بد أن تتحطم في يوم من الأيام، ومن الداخل!!
ولما كان الدكتور نجيب الكيلاني واحداً من أصحاب هذا الفكر المؤمن – ولا أزكيه على الله – كانت توقعاته التي ختم بها روايته: (أنني أتخيل وأنا أصرخ في جموع الحجيج مبشراً بيوم الخلاص للمسلمين خلف الستار الحديدي في الصين وروسيا، وكأني بملايين المسلمين يشقون الأكفان، وينطلقون تحت راية التوحيد، ليحرروا من جديد ملايين العبيد ص 175).
وها هي ذي النبوءة تتحقق، ويتمزق الاتحاد السوفييتي، ويستقل المسلمون في بلادهم، كُلٌّ في دولته التي كانت قبل أن يجثم على صدرها ظلام الكفر، والأمر يحتاج إلى بعض الوقت حتى يعود لهذه الشعوب صفاء العقيدة الذي غَبَّشَهُ الحكم الشيوعي بإلحاده المبرمج المفروض بالقوة.