قراءة نقديّة في قصّة: ( الخريف ) لــ سيّد قطب

قراءة نقديّة في قصّة:

( الخريف ) لــ  سيّد قطب

عبد الله لالي

بسكرة الجزائر

[email protected]

توطئة:

كتب سيد قطب الخريف وهو في قمة عطائه الأدبي وقبل أن يحول مساره إلى الفكر الإسلامي، كتبها في مرحلة من حياته بدأ يدب فيها شعور الوحدة إلى نفسه دبيب الشيب في رأس الكهل الوجل من دخول خريف العمر، وهي تصور حالة نفسية جد حساسة عاش الكاتب نفسه غمراتها ولولا ما ملأ حياته بعد ذلك من حوادث وأفكار جعلته ينغمس في الدعوة الإسلامية في أواخر كهولته وبداية الشيخوخة لكان له مع الوحدة شأن وأي شأن، ولكن كيف يحدث له مثل ذلك الأمر وقد سد عليه طريق الجهاد والتضحية كل منافذ الشعور بالفراغ والوحشة، وقد غدا ملء سمع الدنيا وبصرها، والقصة تبقى محطة من محطات حياة سيد قطب الفكرية والأدبية لا يمكن لأي باحث أو دارس لتراثه أن يتجاوزها أو يتغافل عنها.

في اللباب:

يكشف لنا سيد قطب في "الخريف" تلك المشاعر والأحاسيس المضطربة التي تفضح المرء عندما يدلف إلى عتبات الكهولة فيلفي نفسه وحيدا فريدا، يفتقر إلى دفء العائلة وحنان الزوجة ولثغة الأطفال، الذين تزهى بهم الدور وتضج بالفرح والسرور، وها هو بطل القصة "عبد المنعم" وقد سلخ سني عمره في التضحية من أجل إخوته والحدب على عائلته التي تركها أبوه حملا في عنقه ورحل إلى الدار الأخرى، وما إن اشتد عود الإخوة حتى مضى كل لشأنه وأوى إلى وكره العائلي وبقي عبد المنعم وحيدا يناجي السكون في بيته الخاوي.

لقد حضي عبد المنعم بمجد أدبي عظيم وحقق طموحاته الجمة في ميدان الكتابة والأدب، وأبلغ أفراد عائلته مأمنهم ولكنه يقف فجأة دهشا حائرا بين الشهرة والنجومية والتأليف الأدبي وبين دفء الأسرة وحنانها وسكن الزوجية ومواساة الزوجة وعطفها، فيرجح الأمر الثاني ويربو على الأول قيمة وجدوى، وذلك حيث يقول:

" إنه الآن في القمة ولكن أمجاد الأرض كلها لا تساوي هذه الزهرة الحلوة ( سمير ابن أخيه الذي يرى فيه حلمه في إنجاب طفل) وهتافات الجماهير جميعا لا تساوي هذه اللثغة المحبوبة".

 كأني ببطل القصة عبد المنعم هو نفسه سيد قطب، لا فارق بينهما البتة إلا في الاسم وما هو بفارق معتبر، سيد أديب/ عبد المنعم أديب، سيد كفل أسرته بعد أبيه / عبد المنعم أيضا فعل ذلك، سيد لم يتزوج / عبد المنعم لم يتزوج أيضا،سيد له أخ واحد ذكر / عبد المنعم له أخ ذكر واحد.

كل هذه الدلالات والتقاطعات بين عبد المنعم وسيد تؤكد لنا في يقين أن عبد المنعم ما هو إلا سيد ذاته.

والقصة مليئة بالأحاسيس الأليمة والمشاعر الحزينة التي تتولد من الوحدة والشعور بالانفراد، حتى أن عبد المنعم يتمنى أثناء عودته إلى بيته أن يجد تلك العجوز التي تهتم بشؤون منزله؛ عساها تطرد عنه بعض وحشة الوحدة، بل هو يتمنى أقل من ذلك " بل أتمنى أن تكون (العجوز) قد تركت إحدى النوافذ مفتوحة فقفزت منها قطة الجيران التي كانت تغدو إليه..." ويزيد من لوعة عبد المنعم وأساه ويضاعف حسرته تلك العبارة الممتعة (المعذبة) التي بقيت ترن في سمعه؛ عندما هم بمغادرة بيت أخيه قافلا إلى بيته "بابا عبده مروح ليه"؟ هي نغمة طفولية تسر بلا شك وتنعش النفس دون ريب، ولكنها تولد أيضا طوفانا من الأحزان واللواعج ولعل هذه القصة تكون صرخة مدوية للشباب العازف عن الزواج، قبل أن يحقق مجدا من الأمجاد والمتربص بدخول مملكة الحنان إلى حين غير معلوم، فيقبل عليه ولا يحجم ويسرع ولا يتأخر.

في البناء الفني:

الناحية الفنية جاءت محبوكة بعناية ومصاغة بأسلوب سيد قطب المعروف الذي يستولي على الألباب ويسحر العقول بألفاظ منتقاة كالزهور العبقة، وتراكيب منسقة تنسيقا بديعا يكاد المرء إذا خالطت ضميره أن يعرف صاحبه ويشير إليه بالبنان دون سواه، كيف لا وهذا الأسلوب ذاته كان صدى لمدرسة العقاد في الأربعينات، ثم أشع بشاعرية وسمو مدرسة الرافعي النابضة بالحياة والحيوية، كيف لا وأسلوب سيد هو من دل الناس على نجيب محفوظ وأظهره للوجود من بين ركام جم في ساحة تعج بالأقلام مابين غث وسمين.

وأكثر ما يعجبنا في سيد ويشدنا إلى كتابته هو تفوقه في رسم تلك الظلال وبث ذلك الضياء الكشاف لأجواء صوره الفنية في أبهى حللها وأرقاها، وخذ قوله:

"كانت الأوراق الجافة تتساقط من حوله فتجرجرها الرياح وكأنما هي تضعف منذرة بالرحيل... إنه الخريف" وما تلك الأوراق – لعمري- إلا أيام سيد أو عبد المنعم المنصرمة في سرعة البرق وما نذيرها إلا نذير نهاية العمر بدأ يلوح لصاحبه في الأفق.. وما الخريف بخريف الأرض ونبتها المصفر، وإنما هو كهولة البطل (سيد) وانخرام أيام شبابه، وتبقى هذه الصورة الرائعة متألقة في حنايا القصة كاللوحة الخالدة التي ما تعتم تتجدد يوما بعد يوم،  ليجد فيها كل ذي شجن شجنه.

وهذه صورة ثانية تزيد الموقف عمقا، وتعطيه بعدا مأساويا وهي الصورة ذاتها التي كانت في عنفوان الشباب، وهي مصدر النشوة ومأوى السلوة والفرح، تأملوا معي".. ثم يذهب أو يبقى في صومعته ويناجي الكتب التي تعمرها أرواح المؤلفين التي كان يحسها مرفرفة في جو الحجرة تستقبله وتحييه، لقد خيل إليه أن هذه الأرواح المرفرفة اللطيفة قد استحالت أشباحا كئيبة مخيفة"، وقد اعتمد سيد لغة سرد دقيقة ورهيفة ومعبرة عن القصة تعبيرا فذا وموفقا للغاية وتكثر فيها ألفاظ الحنين والشوق والرقة واللهفة.. " يستأنس، وحشة، تأوي، اللثغة، الصوت الهامس، مرفرفة" هذه الألفاظ يستعملها للتعبير عن المشاعر والأحاسيس النفسية الأسرية (العاطفية) بالسلب حينا لأنها مفقودة وبالإيجاب حينا آخر لأنها متمناة، ومرجوة لأنها جاءت عابرة غير متصلة ولا دائمة كعلاقته بابن أخيه التي يفتقدها في بيته ونستطيع كذلك أن نستشف الدلالة الكبرى للزمن المنبث في أنحاء القصة من البدء حتى الختام ليشكل البوتقة الخانقة التي تتحرك ضمنها أحداث القصة، واستطاع سيد في شيء من الهندسة التكتيكية أن يضع تركيبة جذابة يتوزع فيها الزمن ومشتقاته وما يومىء إليه بشكل يشد القارىء بل ويستوعبه داخل هذه البوتقة ولا يخفت شيء من صداه إلا عند عتبات كلماتها الأخيرة، وربما بقي لأحداث القصة رونقها الإبداعي.

هذه بعض ألفاظ وتراكيب الزمن:( الحين بعد الحين- يومية- بعض الليالي- حينما – الخريف- هذه الليلة- أما اليوم- الخامسة والأربعين...).

واستطاع سيد في البداية أن يضعنا في زمن هو حاضر البطل، لنشعر بالحيوية والاندماج معه ثم يعود بنا أدراجه إلى ماض سحيق في عمر البطل (الكاتب) ويتدرج بنا رويدا رويدا إلى أن يعود إلى الحاضر ذاته، الذي وقف بنا عنده لا نريم حتى يعود من رحلته في الزمن الغابر وكأنما أراد بذلك أن يقول لنا أن الماضي كائن حي مليء بالحيوية والحركة، يعيش معنا في اللحظة ذاتها التي ننسج فيها خيوط ماض جديد..