قراءة في كتاب "الرّغيف الأسود" للكاتب المغربيّ حسن المصلوحي
ربّما ما يحزن في هذه الحياة أنّنا جميعًا راحلون، ولكنّ الرّحيل قد يكون مبهجًا في بعض الأحيان، وخاصَّة إن كان خلاصًا من تعب أرهقنا، أو إن كان رحيلًا بهيًا كما نحبُّ ونشتهي، وأمر الرَّحيل يُورِّق الكثيرين في السَّنوات الأخيرة بسبب فيروس كورونا وكثرة الرَّاحلين للحياة الأبديَّة.. ولا أخفيكم أنَّ أمر الرَّحيل والخلود وترك الأثر يؤرِّقني أنا أيضًا ككاتبة ."
الرَّغيف الأسود" بداية حيَّرني الاسم، فقد يكون الرَّغيف جافًا، أو ملوثًا، أو غاليًا، لكن كيف يكون أسودًا؟ لكن بعد قراءتي للقصص وجدت الإجابة، فقد كان أسودًا من القهر، رغم ذكريات الطُّفولة الجميلة التي يخلقها الفقراء من قسوة الظُّروف. أعتقد أنَّ المذكرات وكتب السِّير، هي من الأدب الجاذب للقارىء، حيث يتملَّك القارىء الفضول في معرفة كيف عاش هذا الأديب؟ وكيف كانت حياته الأولى؟ ولا شكَّ أنَّ مرحلة الطُّفولة لها تأثير عظيم على أيّ كاتب وكتاباته، وربَّما يعتقد الكاتب أنَّه في أوَّل إصدار له يكون قد فرَّغ كلّ ذكريات الطُّفولة الحزينة والسَّعيدة، لينتقل في الإصدار الثاني لعمل آخر بعيد عن الذَّكريات التي سقطت عن كاهله في العمل الأوَّل. ولكن نقتنع فيما بعد أنَّنا لا نستطيع إفراغ جميع الذِّكريات التي تأثَّرنا بها في عملٍ واحد، وربَّما ترافقنا الذِّكريات في كلِّ أعمالنا الأدبيَّة حتَّى آخر إصدار. وفي الرَّغيف الأسود شعرت أنَّ القصص والمذكرات طبيعيَّة جدًّا وحقيقيَّة، وما حصل مع الأستاذ حسن يحصل مع الكثيرين في مرحلة الطُّفولة كالفقر، والخوف من المدرسة، والميول إلى التَّمرد في التَّصرفات، وحبّ الاستطلاع، ولكنَّ الفرق بين طفلٍ وآخر، هو تحويل هذه الأحداث المفرحة والمحزنة إلى إبداع، فهناك فرقٌ شاسع بين من يعتبر المصائب مصائبًا، وبين من يتخذّها دافعًا لحياة أفضل. ولحسن حظِّنا أنَّ الأستاذ حسن اتخذ مما عايشه دافعًا للإبداع وأنتج لنا "الرَّغيف الأسود" استمتعت بقصّة العشق الأوَّل، وفي وصف مدينة تطوان الجميلة وإحساس الكاتب العميق بالطَّبيعة، الهواء والبحر والشَّاطىء والوجه الجميل والذِّكريات، وفي أغلب القصص يثبت الكاتب أنّ الطَّيش، والكذب البريء، والخوف، والعقاب، وكلّ الأشخاص العابرين في حياة أيّ طفل، لهم أثرٌ كبيرٌ في تكوين شخصيته وصقلها ليصبح إمّا عالة على المجتمع، أو عاليًا في المجتمع، كما أنَّ القصص تؤكد على أنَّنا مع مرور الوقت، نفقد الإحساس بالأشياء كما يجب، وهذه الغصَّة التي يشعر بها الكاتب إزاء الماضي والحاضر، أشعر بها في التّعامل مع الجيل الجديد (الأطفال الآن) فهم يرسمون عالمًا خاصًا بهم، لا يريدون ذكرياتِنا ولا يسمعون منَّا، ويتهرَّبون من نصائحنا قدر إمكانهم. أنتقل لقصة لاقطات البطاطس، قصّة قاسية جدًّا.. طبعًا ليست أقسى من الواقع، لكنَّها تشبه إلى حدٍّ كبير حياة العشوائيات في مصر، التي نُقلت لنا تفاصيلها من خلال الأفلام السِّينمائيَّة والمسلسلات المصريَّة المتكرِّرة لهذه الفئة، وبالمناسبة هناك عشوائيات في كلِّ مكان في العالم، وما ذكره الكاتب حسن غيضٌ من فيض، ففي هذه المناطق يكون أغلب النَّاس ناقمًا على واقعه وعلى نفسه قبل الآخر، وآمل أن يشمل العدل هذه المناطق لكي لا تتكاثر هي وروّادها. الجدة حنَّة الودودة، جميل جدًّا وقريب من الوجدان حديث الكاتب عن جدَّته حنَّة. فالجدَّات قريبات من قلوبنا وطفولتنا، بحنانهنَّ وقلبهنَّ الكبير، لكنِّي لم أشعر بالعطف الكافي الذي تكلَّم عنه الكاتب من جدَّاتي، فقد كان محظوظًا أنَّه نال كلّ هذا العطف من جدَّته، فاليوم الجدَّات modern لا يتقنَّ صنعَ الوجبات الدَّسمة بالحنان، ويفضلنَّ عيشَ حياتهن المتبقيَّة بحريَّة بعيدًا عن مسؤولية الأبناء والأحفاد. وأكثر ما آلمني في القصّة نهايتها، وموت الجدَّة في حضن الكاتب، رحم الله الجدَّة حنَّة وكثَّر الله من أمثالها. في أغلب القصص لا ينفك الكاتب كلّ بضعة أسطر بذكر الظَّلم الحاصل بين طبقات المجتمع، وبافتقار هذا العالم للعدل، وهذا أقلّ ما يقال، فالعالم الذي نعيشه معدوم العدل الإنسانيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ وكلّ شيء تقريبًا، ودائمًا هناك طبقة غنيَّة جدًّا، وطبقة فقيرة جدًّا، فلا وجود للعدل ولا للتَّوازن بين أيِّ شيء في هذا الكون. وفي النِّهاية استمتعت بقراءة هذه القصص، فرحت وضحكت، حزنت وبكيت، ولا يسعني إلّا أن أشكر الأستاذ حسن على مشاركتنا طفولته في هذا العمل الأدبيّ "الرَّغيف الأسود".