رحلة الكرباسي في الأدنى من أوروبا والأقاصي
في حياة كل منا ذكريات، يتمنى قليلنا نسيانها، وكثيرنا يستذكرها ويعود إليها كلما حنّ إليها، وهذه من طبيعة الإنسان، وقد يكون العكس هو الصحيح، وهذا أمر مسلّم به ولا يشذ عنه أحد إلا ما ندر ولأسباب خارجة عن دائرة الصواب.
فحياة الإنسان دولاب يدور ويدور، وما بين دورة وأخرى، فرحة أو ترحة، نفحة أو لفحة، وهكذا هي دورة الحياة، مثلها مثل دورة الليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس، فلا نور دائم غامس ولا ظلام قائم دامس، وحيث يرغب الإنسان في استذكار الحلو من أيامه يرغب عن استذكار المر منها، لأنّ المر علقم المذاق يعكر زلال المزاج ويحيل ساعاته إلى غصة مرصوصة بباب رتاج كلما أراد الخروج أعادته الذكرى الحالكة إلى دوامتها، وقد تكون الذكرى مؤلمة تكتم أنفاسه وتبعد عنه جلاّسه وتقعده أحلاسه، من هنا قالوا: النسيان نعمة، فلولاه ما صفى عيش المرء وأسلس، وكان من كل خير قد أجدب وأفلس.
وحيث يميل المرء في الشر إلى النسيان يميل في الخير إلى الغشيان، لا يبارح ذكرى المسرة يعيشها ويعايشها ويعتاش عليها في ساعة خلوة، ولعلَّ من موارد الذكريات الحلوة السفر الطوعي الذاتي إلى المدن والبلدان القريبة والبعيدة، فليس كل سفر سفراً، فالمهاجر وهو يعبر الحدود خائفاً يترقب يعد مسافراً، لا يضارعه المسافر وهو يعبر الحدود متشوقاً ومتشوفاً إلى الجهة الثانية من الحدود، فكلاهما مسافر، فالطوعي يعرف مقصده ومرجعه، والقسري يجهل مصيره ومستقبله، ولكل منهما من سفره ذكريات يحكيها لأبنائه، ولكل منهما من سفره محطات يقف عندها من يعتبر.
ومن مفارقات اللغة العربية الجميلة أن مفردة "سفر" تطلق في المعنويات والماديات وتتناغم في المؤدى والمعطيات في كثير من تصاريفها، فالمسافر إذا أسفر انتقل من مكان لآخر وأفاء، والصبح إذا أسفر انتقل من حالة الظلام إلى حالة النور وأضاء، وكلا الإسفارين فيهما حركة وانتقالة، وحيث يكون في النور لليوم ضياء وافتتاح يكون في السفر للنفس هناء وانشراح، فتلتقي الماديات مع المعنويات فتصنعان توليفة جميلة من الحضور البهي في مسيرة الإنسان.
وللسفر مسميات عدة، فربما اطلق عليه رحلة أو نفرة أو هجرة، أو مشية، أو سُرى، ولكل مفردة تفاصيلها، ولكن مفادها العام هو الإنتقال والحركة، وتختلف من حيث العودة وطول السفر والمقصد والهدف، على أن الدعوة تظل قائمة: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) سورة الملك: 15، وإن صاحب السفر هدفٌ وغرضٌ مقدس كانت رحلة عمر لا تُنسى، وهذا ما اراه في في كتاب "الرحلة الأوروبية" في جزئه الأول الصادر حديثا (2022م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت، في 327 صفحة من القطع الوزيري.
خزين معلومات
الرحلة الأوروبية في جزأين حتى الآن يحكي عن رحلة برية للقارة الأوروبية قام بها الفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي لاستكشاف واقع المسلمين في بلدان أوروبا انطلاقًا من العاصمة لندن ورجوعاً إليها زار فيها 34 بلداً أوروبيا في 45 يوماً، ونزر قليل من بلدان القارة لم يزرها لطارئ جعله يعود على عجل من ألمانيا مع رفيق دربه الفقيه الشيخ حسن رضا الغديري عبر الطريق الجوي يوم 20/4/2019م وتركها لرحلة أخرى وجزء ثالث من الرحلة الأوروبية، فيما عاد بقية الوفد في اليوم التالي عبر هولندا بالطريق البحري.
فالرحلة الأوروبية هي في واقعها نسخة أخرى من نسخ الرحلات التي قام بها الرحالة العرب والمسلمون وغير المسلمين لاستكشاف البلدان والقارات مثل سفر الرحالة ابن جبير أبو الحسن محمد الكناني الأندلسي المتوفى سنة 1217م، والرحالة الإيطالي ماركو بولو (Marco Polo) المتوفى سنة 1324م، والرحالة ابن بطوطة أبو عبد الله محمد اللواتي الطنجي المتوفى سنة 1377م، والرحالة زين العابدين الشيرواني المتوفى سنة 1837م، وغيرهم، ولكن ما يميزها أنها رحلة جاءت في سياق استكشاف واقع المسلمين في هذه البلدان وما فيها من جوامع ومساجد ومراكز وحسينيات تقام فيها الشعائر الحسينية، ولذا صحّ عند الفقيه الغديري أن يسميها (الرحلة الحسينية الطيبة) وهو يقدم لهذا الكتاب.
والرحلة بشكل عام يسجل فيها المسافر او المرتحل انطباعاته عن البلد الذي يزوره ويقيد ملاحظاته، ولكل مسافر في الرحلات الطويلة وجهة نظره، فبعض يستقصي طباع الناس ومأكلهم وملبسهم، وبعض ثقافتهم، وبعض شوارعهم وأزقتهم وأبنيتهم، وبعض يتحرى الجانب الجغرافي من المدن والبلدان والمسافات بينها، وبعض يتقصى سيرة قادتهم ورؤساءهم ووزراءهم، والبعض الآخر يجمع بين كل هذه المقاصد وغيرها، فتأتي رحلته جامعة شاملة، وقليل ما هم.
وإذا كان المسافرون بالكثرة الكثيرة، فإن الرحالة بالقلة القليلة، ومن كتب وقيد فهم بالندرة النادرة، ولهذا يعتبر كل كتاب رحلة هو خزين معلومات لا يُستغنى عنه كونه كاشفاً عن واقع حال لهذا البلد أو ذاك في مقطع من الزمن، وبتعبير الشيخ الكرباسي: (تعني مفردة الرحلة في اللغة الانتقال ولا تعني الهجرة وإن شملها مجازاً باعتبار المؤدى، ولكن استخدمت في العرف العام على كل انتقال كان مقصوداً لتحقيق غرض من الأغراض العقلائية من دون إعراض عن المبدأ الذي انتقل منه والبقاء في غيره، والتي عُرفت بالهجرة، وربما صحَّ القول عنها بالسير في الأرض، او السفر إلى جهة من الجهات، والأغراض المتوخاة من هذه السفرة متعددة قد لا تُحدد).
رحلة وتجارب
ولعل أهم ميزة في كل سفرة قصيرة المدة والمسافة أو طويلها وبعيدها، أنها تجربة غنية في أبعاد مختلفة، يتحسسها المسافر ويتلمسها الراحل والمهاجر، وبتعبير المهندس محمد علي آل رضا الأعرجي الذي صاحب الرحالة الكرباسي في رحلته الأوروبية وعلق على الكتاب: (كانت هذه الرحلة بالنسبة لي تجربة جديدة .. سفر لم أعهده من قبل) رغم زياراته الكثير الى دول أوروبية وعربية من قبل، وجمال التجربة الجديدة هو مقصدها ومرادها إذ كان: (الهدف السامي للرحلة جمع المعلومات ميدانيّاً عن المسلمين بعامة والشيعة الإمامية بخاصة في القارة الأوروبية، وكنت سعيداً أن أكون جزءاً من هذا الهدف وجزءاً من هذه الرحلة التي بلا شك ستكون وثيقة مهمة جداً للباحثين من بعد)، وهذه الحقيقة التي يراها الأعرجي يؤيدها الأستاذ أظهر عباس راجا الذي قدَّم للكتاب والمقيم في باريس: (نحن على ثقة من أنَّ هذا الكتاب سيكون ذا أهمية توثيقية للأجيال القادمة التي ترغب في الحصول على معلومات عن المسلمين الشيعة في جميع أنحاء العالم والذي يمكن أن يكون مرجعاً لهم).
فالرحلة إذا كانت لهدف سامٍ فيه فائدة عامة تمثل رحلة عمل خير، فكيف إذا كانت الرحلة الأوروبية قد التقى فيها الشيخ الكرباسي بشخصيات علمائية وعلمية وثقافية وأدبية من جنسيات مختلفة، ولهذا وجد الشيخ هاشم رضا الغديري في الرحلة، وهو الذي رافق المحقق الكرباسي في سفره، فائدة عظمى وذاكرة طيبة لا تنسى، وكما أكد في التقديم للكتاب إذ: (كانت هذه الرحلة بالنسبة لي بحق مدرسة ثقافية وعلمية واجتماعية جميلة وقد تعلمت من العَلَمين الكثير الكثير لأن السفر يكشف الإنسان على حقيقته)، وقصد الغديري بالعَلَمين الشيخ الكرباسي ورفيق الرحلة والده الشيخ حسن رضا الغديري.
وكان الشعر حاضراً في "الرحلة الأوروبية" فأهدى الأديب الأريب السيد أبو حسنين مرتضى السندي المقيم في حي السيدة زينب (ع) بريف دمشق قصيدة من (36) بيتاً من بحر البسيط وثق للرحلة الكرباسي وضمن في قصيدته البلدان التي زارها، وحيث بدأ بمطلعها:
يا سائلي أين حلَّ العلمُ والقلمُ ... عندي جوابٌ إذا طلابُه حضرا
ختمها بقوله:
والمرتضى السندي يهديكم محبَّتهُ ... قد صاغ مدحتَكم مذ طابت الدُّرَرُ
مسمَّيات المقصد
لما كانت المقاصد تختلتف من رحلة إلى أخرى ومن سفرة إلى أخرى، وحسب المسافر والرحالة، فإن للرحلة مسميات متعددة مأخوذة من سنخ الهدف والمقصد، وقصرها الكرباسي وهو يمهد لكتاب الرحلة الأوروبية بخمسة مسميات: الرحلة السياحية، الرحلة الإقتصادية، الرحلة العلمية، الرحلة الثقافية، والرحلة العلاقاتية.
ولاشك أن الغالبية العظمى من المسافرين في أنحاء المعمورة تدخل تحت مسمى الرحلة السياحية، ولكن ليس كل مسافر تنطبق عليه المسميات الأخرى، على أن الرحلات بـأنواع تدعو إليها الفطرة الإنسانية ويشجع عليها الإسلام، وحتى الهجرة القسرية التي تلازم المناضلين والمجاهدين والأحرار، رغم المعاناة والبؤس والحرمان والضيق التي تواجه المهاجر فإنَّ الفطرة تدعو إليها بخاصة إذا كانت هجرة انتقال من دار الظلم إلى دار الحرية والعمل من أجل التغيير نحو الأفضل، بل إن الإسلام يذم أولئك الذين يرتضون الظلم ويعملون تحت جناح الظالم تحت مدعى الإستضعاف، حيث يحدثنا القرآن الكريم عن أحد مواقف ما بعد الحياة: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) سورة النساء: 97.
وكما يحث الإسلام على الهجرة من دار الظلم، يحث على الهجرة لطلب العلم والعودة لبناء البلد، ولهذا جاء التأكيد الرباني: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) سورة التوبة: 122، كما جاء التأكيد الرسولي: (أطلبوا العلم ولو بالصين، فإن طلب العلم فريضة على كل مسلم)، ناهيك عن التشجيع للسفر من أجل العمل والتجارة والإستثمار، ولعل طريق زبيدة بين الحجاز والعراق والشام، وطريق الحرير بين الصين ودول آسيا وجانب من أوروبا شاهد على الرحلة التجارية، فضلا عن طريق الحجاز والشام وطريق الشام واليمن وهما طريقان تجاريان قديمان وثَّقهما القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة قريش: 1- 2: (لإِيلافِ قُرَيْشٍ. إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ).
ملتقى الأديان
كانت نقطة انطلاقة الرحلة من المركز الحسيني للدراسات بلندن الذي تصدر عنه دائرة المعارف الحسينية التي بلغ المطبوع منها حتى اليوم 121 مجلداً واتخذت وجهتها من الجزيرة البريطانية نحو القارة الأوروبية، وقد اختص الجزء الأول من الكتاب ببلدان: فرنسا، البرتغال، إسبانيا، أندورا، موناكو، إيطاليا، سان مارينو، الفاتيكان، مالطا، اليونان، ألبانيا، كوسوفو، مقدونيا، الجبل الأسود (مونتينغرو)، والبوسنة، ومن بوسنة إلى البلدان الأوروبية الأخرى كما سيأتي في الجزء الثاني من الرحلة الأوروبية.
اعتمد المؤلف لكل دولة يزورها بيان نبذة عن البلد مع صورة لعلمه وشعاره وخارطته، ومنظر عام لعاصمته وأهم معالمه، ولقاءاته وزياراته لمركز ثقافي أو إسلامي بعينه أو عموم المراكز في ذلك البلد، وينهي تصوراته وما شاهده بقصيدة عن ذلك البلد من وحي الزيارة الميدانية، مع توثيق الرحلة بمجموعة من الصور لمعالم البلد أو الشخصيات التي التقاها، وخارطة لمسير الرحلة والمدن التي مرَّ بها.
وحيث تمثل دولة الفاتيكان المقامة وسط العاصمة الإيطالية روما مركز المذهب الكاثوليكي للديانة المسيحية في العالم، فإن زيارتها كانت جزءاً من الرحلة الأوروبية، واستدرك المؤلف في بيان انطباعاته في بابا الفاتيكان الحالي فرانسيس الأرجنتيني المولد الذي وجد فيه انفتاحه على سائر الطوائف والديانات والمذاهب الأخرى، وبخاصة مع المسلمين، ووجد الرحالة الكرباسي أن لقيام الثورة الإسلامية في إيران سنة 1979م تأثيراً كبيراً في توجه الفاتيكان نحو عموم المسلمين وخصوص الشيعة، لا سيما وأن للبلدين تبادلا دبلوماسيا، مشيراً إلى الملتقى الثالث لقادة الأديان لمحاربة العبودية والرق الذي عقد في روما يوم الثلاثاء 2/12/2014م حيث شكَّلَ هذا المؤتمر منعطفاً على مستوى علاقة الفاتيكان بالعمامة المسلمة بعامة والشيعية بخاصة حيث حضر الملتقى من كربلاء المقدسة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي، ومن النجف الأشرف الشيخ نزيه رزاق جعفر ممثل المرجع الديني الشيخ بشير النجفي، ومن القاهرة الدكتور عباس سليمان ممثلاً عن الأزهر الشريف والإمام الشيخ محمد أحمد الطيب، وصاحب هذا المؤتمر لقاء آخر عقد في حاضرة الفاتيكان حضره أيضا أمين عام دار العلم للإمام الخوئي في النجف الأشرف السيد جواد بن محمد تقي الخوئي.
وكانت هذه اللقاءات وما تبعها من مؤتمرات أخرى جمعت بين الديانة المسيحية والإسلامية، قد مهدت السبيل للقاء البابا فرنسيس مع الإمام الأعظم للأزهر الشريف الشيخ محمد أحمد الطيب في حاضرة الفاتيكان يوم 25/5/2016م، وذللت الطريق لزيارة البابا التاريخية للعراق ولقاء المرجع الديني الأعلى في النجف الأشرف السيد علي الحسيني السيستاني يوم 6/3/2021م.
لاشك أنَّ "الرحلة الأوروبية" تمثل حلقة من سلسلة أدب الرحلات، وقد والف فيها الكرباسي بين المعلومة والصورة والمشاهدة والإنطباع العام والخاص وتقديم التوصيات إلى جانب النص النثري والنظم الشعري، ويليه الجزء الثاني والسفر من البوسنة إلى: كرواتيا، سلوفينيا، النمسا، سلوفاكيا، المجر، صربيا، بلغاريا، رومانيا، مولدوفا، بولندا، ليتوانيا، لاتفيا، إستونيا، فنلندا، السويد، النروج، الدانمارك، وأخيراً وليس آخر دولة ألمانيا.
وسوم: العدد 1006