موزاييك العمل الإبداعي الأدبي وتداخله مع الهندسة وكل من: الخيال والحال والبيئة والتربية ومؤثرات أخرى...
في البداية لا بد أن نقول إن أي نص أدبي هو عبارة عن رصف الكلمات بصورة هندسية بما يوافق فكر أو خيال الكاتب.
فبرمجة الكلمات بما يوافق عالم المثال هو عملية هندسية خالصة...
ولا قيمة للكلمات المتناثرة إلا كقيمة الحجارة المتناثرة...
والمبدع هو الذي يجمع الكلمات وينظمها في سلك إبداعه، فهو يشبه البناء الذي يجمع اللبنات المتناثرة في البيداء ويجعل منها بناء ذا قيمة أو تحفة معمارية.
***
علينا في البداية أن نفهم أن أي نص أدبي بكافة تجلياته كقصيدة أو مقال أو قصة أو مسرح أو سيرة ذاتية ما هو في جوهره إلا تطبيق لنظرية النظم التي أوضح معالمها الشيخ عبد القاهر الجرجاني...
شرح عبد القاهر الجرجاني نظرية النظم في كتابه دلائل الإعجاز وعرضها عرضا واسعا، ففي مقدمته يعرف النظم بأنه: (تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض، والكلم ثلاث: اسم وفعل وحرف، وللتعليق فيما بينها طرق معلومة، لا يعدو ثلاثة أقسام: تعلق اسم باسم، تعلق اسم بفعل، تعلق حرف بهما).[ص4 من المدخل في دلائل الإعجاز للجرجاني. ت محمود شاكر].
وبذلك كان عبد القاهر قد ربط بين النظم وعلم النحو... فالنظم عنده هو توخي معاني النحو ومراعاة أحكامه فيما بين الكلم من علاقات، حيث يقول مفصلا في ذلك: «واعلم أن ليس النظم إلا أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت، فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تبخل بشيء منها». [ص81 من (دلائل الإعجاز) للجرجاني، تعليق محمود شاكر مكتبة الخانجي بالقاهرة المقدمة].
وهذا التعريف الشامل يوضح مدى العلاقة بين علم النحو وعلم المعاني في تحديد نظرية النظم.
***
وقد وضح السيد أحمد عمار العلاقة بين النظم والنحو فقال: (عندما نحتكم إلى نصوص عبد القاهر حول النظم الذي عده دعاة إحياء النحو رسما لطريق جديد في النحو نجد تفرقة واضحة بين النحو والنظم
فمعاني النحو ثابتة لا تحتاج إلى جهد ومعاناة، أما «النظم» فيكون في حسن التخير والنظر في وجوه كل باب، فينظر في صور الخبر، والأساليب من شرط وتوكيد وتخصيص، فيجيء بذلك حيث ينبغي له، ويحتاج ذلك قسطا كبيرا من التذوق والحس الأدبي والسليقة السليمة، وتلك مهمة فوق مهمة البحث في الصواب والخطأ، وهنا ارتبطت البلاغة بالنحو ارتباطا وثيقا، حيث تبدأ مهمتها من حيث تنتهي مهمة النحو، لأنها ستتناول الصورة الصحيحة التي تدور حول غرض واحد لترى أيهما أرفع في درجات البلاغة ولماذا).
[نظرية الإعجاز القرآني وأثرها في النقد العربي القديم ،أحمد سيد عمار ص167].
***
وتلخيصا لما سبق نقول بمعنى مبسط إن الأديب يرسم النص في مخيلته قبل أن يدونه ويرتب أفكاره وفق قواعد اللغة من حيث التقديم والتأخير والتعريف والتنكير والحذف والذكر والإطلاق والتقييد... تماما كما يرسم المهندس خريطة البناء... فللآداب رسم.. ولكنه يختلف عن رسم البناء، وعليه فالشعر وهو أهم الآداب هو جنس من الرسم، وقد نبه لذلك الجاحظ حيث قال: "فإنما الشعر صناعة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير".
***
فالشاعر يرسم من خلال الكلمة لوحة فنية متخيلة تسمى القصيدة.. تماما كالرسام أو المهندس، وإنما الفنان أو المهندس يرسم لوحته من خلال الريشة...
إن المهندس المعماري يرسم لوحة للبناء الذي يريده وفق المواصفات والمساحات التي يريدها، ويعدل في الرسم ويضيف ويحذف في مساحات البناء والغرف التي يريدها حتى يستقر على أكمل صورة يتخيلها...
والشاعر فنان.. والمهندس المعماري فنان، والأول يرسم من خلال الكلمة والثاني من خلال الريشة، فكل منهما يرسم ليعطي صورة، ولذلك صدق الجاحظ حين وصف الشعر بأنه جنس من التصوير.
***
يلعب الشاعر بنظم الكلمات فيقدم ويؤخر ويحذف ويضيف تماما كما يعمل المهندس الذي يرسم بناء فيعدل فيه حتى يأتي في أتم صورة ممكنة..
إن اللغة ما هي إلا هندسة الكلمات.. والبناء هو هندسة اللبنات.. وعمل القصيدة بناء لغوي أداته الكلمات كما أن عمل المهندس عمل هندسي أدواته المسطرة والقياسات.. وفي كل منهما إبداع وهندسة وفن وخيال.
***
والنص بناء لغوي قابل للمراجعة والتعديل والنقد تماما كالبناء المعماري الهندسي، وليست القصائد إلا مجموعة كلمات مرصوفة بطريقة هندسية منظمة وفق نظرية النظم التي وضع أسسها الشيخ عبد القاهر الجرجاني رحمه الله تعالى.
***
ولما للغة من علاقات هندسية منظمة بين كلماتها فقد تم إدراجها ضمن برمجة الهندسة اللغوية، فقد جاء في مقال في مجلة الرافد: "تنبني الهندسة اللغوية على ثلاث مراحل أساسية، هي التخطيط (Planing)، والتنظيم (Organisation)، والبرمجة (Programmation)، باعتبارها المفهوم المركزي في الهندسة اللغوية لكونها تعنى بصناعة اللغات، وتعمل على دمج القواعد الصورية. والقواعد الرياضية الخوارزمية، لكونهما يشكلان محور صناعة اللغة".
***
ويتصل العمل الإبداعي بالخيال.. فكلما كان الخيال خصبا واسعا استطاع الأديب أن يحلق بفضاءات لا متناهية تغذي أدبه بأبدع الصور الشعرية..
***
وله علاقة تلازمية بالحال التي يصاحبها، فإن كان مدحا مثلا كانت له لغة خاصة غير الهجاء أو الوصف أو النسيب أو غير ذلك...
وللإبداع علاقة بالبيئة الثقافية الاجتماعية والطبيعية أيضا..
وللإبداع علاقة بالتربية والأخلاق والأعراف وكلها تؤثر بالعمل الإبداعي وصاحبه.
***
وهناك مؤثرات أخرى تؤثر في العمل الإبداعي مثل الموضوع والحالة النفسية للأديب والدين والخبرات والرحلات ونحو ذلك...
***
والخلاصة أن ثمة مؤثرات كثيرة في الإبداع الأدبي ولكن أهمها طريقة التعامل مع الكلمات بصورة هندسية إبداعية في صياغة البناء اللغوي وفق نظرية النظم التي أرشدنا إلى قواعدها الشيخ عبد القاهر الجرجاني.
وسوم: العدد 1083