الروح الإسلامية عند المتنبي

ومن لا يعرف المتنبي؟ إنه شاعر عربي ملأ الدنيا وشغل الناس من أواسط القرن الهجري الرابع حتى وقتنا الحاضر. شغل الناس في عصره، وترك في الدنيا دويّاً يصمّ الآذان، وشعره يتردد حتى الوقت الحاضر على كل لسان.

تلقف شعرَه في عصر النهضة العربية الحديثة دعاة القومية العربية وكتابها، فصار عندهم شاعر العروبة وشاعر القومية العربية، وإن اعتدل أحدهم جعله صاحب "نزعة عربية شديدة"، أوقد في نفوس العرب غيرة قومية (أنيس المقدسي في أمراء الشعر العربي في العصر العباسي)؛ ولذا يكثر في شعره الفخر بأصله العربي وذم الأعاجم، كما يقول كاتب آخر (صدقي إسماعيل) في كلمته "تجربة المتنبي" التي صدَّر بها شعر ديوان المتنبي: "وحدة المصير هذه عند المتنبي هي العروبة.. وهو يؤمن بالعروبة على أنها التعبير الصادق الذي به تصبح القيم المثلى بطلاً "!!

كل هذا الضجيج من أقلام دعاة القومية العربية بسبب أبيات ورد فيها ذكر العرب بالفخر والثناء، لا تزيد في عددها على عدد أصابع اليد الواحدة!! قال بعضها في مدحه لأمير عربي هو سيف الدولة الحمداني، كقوله له:

رفعت بك العرب العماد وصيّرت قممَ الملوك مواقدَ النيران 

أنساب فخرهم إليك، وإنما أنساب أصلهمُ إلى عدنان 

فبه رفع العرب عمادهم، وهم ينتسبون بفخرهم إلى الممدوح، وكذلك قوله له:

إذا العرب العرباء رازت نفوسها فأنت فتاها والمليكُ الحلاحلُ 

وقوله:

تُهاب سيوف الهند وهي حدائد فكيف إذا كانت نزارية عُرْبا؟ 

وقال بعضها بعد أن ناصب كافور العداء، فصار عنده عبداً أسود مخصياً، فقال من قصيدة يمدح فيها علي بن إبراهيم التنوخي، ويهجو كافور.

وإنما الناس بالملوك وما تفلح عربٌ ملوكها عجم 

بكل أرض وطئتها أمم تُرعى بعبد كأنها غنم 

يستخشن الخز حين يلبسه وكان يُبرى بظفره القلم 

فلو كان كافور أعطاه ولاية العراق لأفلح عرب ملوك عجم!

وآخر ما دل على روحه العربية عندهم قوله متحسراً عند وصفه لشعب بوان:

ولكن الفتى العربي فيها غريب الوجه واليد واللسان 

هذه هي معظم الأبيات التي وردت فيها كلمة العرب والعربي في شعر المتنبي، والتي دفعت هؤلاء، إلى جعله شاعر القومية العربية في عقود الهبّة القومية من القرن العشرين! ولم يكن هؤلاء ينتبهون إلى أمرين آخرين:

روح لا قومية:

الأول أنه كان يرد في شعره أحياناً كلام يدل على ضعف الروح العربية عنده، من ذلك قوله عن نفسه مستغرباً أن يملك على الناس من ليس أهلاً للملك.

من لو رآني ماء مات من ظمأ ولو عرضت له في النوم لم ينم 

ميعاد كل رقيق الشفرتين غداً ومن عصى من ملوك العرب والعجم 

فالملوك عرباً وعجماً عنده سواء، فهو يتهددهم جميعاً بسيفه وأسوأ من ذلك أنه عندما كان في مصر يمدح كافور، كان يجعله فوق العرب عاربة ومستعربة، فيقول في مدحه:

وأي قبيل يستحقك قدره؟ معد بن عدنان فداك ويَعربُ 

فهو يفتدي بهذين الجدين من أجداد العرب كافور الإخشيدي العبد الأسود. وكذلك يقول له:

عند الهمام أبي المسك الذي غرقت في جوده مضر الحمراء واليمنُ 

فجود أبي الجود كافور يغرق العرب بقسميها مضر واليمن!!

الروح الإسلامية:

والأمر الثاني الذي أهمله دعاة العروبة وكُتّابها، وذلك عن عمد وسبق إصرار، هو الروح الإسلامية في شعر المتنبي.

إنهم تعمدوا ذلك، فلم يكن أحد منهم يشير إليه، لأن الصراع في العقود الوسطى من هذا القرن كانت بين الدعوة القومية ومفهوم العروبة وبين الدعوة الإسلامية والمفهوم الإسلامي، في البلاد التي اصطنع فيها هؤلاء الكُتاب خصومة وعداء بين المفهومين، بل كانت دعوتهم إلى القومية العربية مؤسسة على محاربة الروح الإسلامية!

وإذا استعرضنا ديوان المتنبي وقصائده فسنجد له وقفات كثيرة من الإسلام، ومفاهيمه السامية، والألفاظ الدينية، ولعل أبرز وأوضح شاهد على ذلك أنه عندما كان ينظر إلى المعارك الدائرة بين سيف الدولة الحمداني والروم ومن خلفهم، ينظر إليها على أنها حرب بين التوحيد الإسلامي والشرك، إنه يراها معركة دينية، ولا ينظر إليها على أنها معركة قومية بين عرب وروم، بل هي كما يقول في مدحه لسيف الدولة:

ولست مليكاً هازماً لنظيره ولكنك التوحيدُ للشرك هازمُ 

وقلعة الحدث التي دارت حولها المعركة كانت:

طريدة دهر ساقها فرددتها على الدين بالخطيّ والدهر راغم 

فقد أعاد هذه القلعة إلى دار الإسلام، وأرجعها إلى الدين.

ويختم قصيدته هذه بتهنئة الإسلام والمعالي والأمجاد بسلامة سيف الدولة وانتصاره:

هنيئا لضرب الهام والمجد والعلى 

وراجيك والإسلام أنك سالم 

ولمَ لا يقي الرحمن حدّيك ما وقى 

وتفليقه هام العدى بك دائم 

  • • •

مَن لَو رَآنِيَ ماءً ماتَ مِن ظَمَأٍ 

وَلَو مَثَلتُ لَهُ في النَومِ لَم يَنَمِ 

فأنت يا سيف الدولة جدير بحماية الله لك، ولماذا لا يصونك الله وأنت السيف الذي يقصم به الله رؤوس الأعداء؟

هذا كله في قصيدة واحدة!

وفي مدحه لسيف الدولة بقصيدته العينية "غيري بأكثر هذا الناس ينخدع"، يعدد اكتساحه للبلاد كالموت ليس له ري ولا شبع.

حَتّى أَقامَ عَلى أَرباضِ خَرشَنَةٍ 

تَشقى بِهِ الرومُ وَالصُلبانُ وَالبِيَعُ 

فأعداؤه الذين يشقون به هم الروم ومعابدهم وصلبانهم، وهذه إشارات واضحة إلى أن الصراع المحتدم، من وجهة نظر المتنبي هي حرب دينية بين الإسلام والنصرانية.

فلم يكن المتنبي يجد حرجاً في استعمال هذه الألفاظ بحقيقتها وصراحتها، لأنه كان يرى، ومعه الممدوح والمجتمع كله، أن المعركة بين الإيمان والكفر الذي يتجمع في جيشه كل لسان وكل عرق، وتجمعهم نصرانيتهم:

والمعركة بين دين الإسلام وأديان الكفر، وقد أذل الإسلام سائر الأديان كما خضعت كل السيوف لسيف سيف الدولة:

خضعت لمنصلك المناصل عنوة وأذل دينك سائر الأديان 

والطرق ضيقة المسالك بالقنا والكفر مجتمع على الإيمان 

الإسلام والعروبة صنوان:

ومما ينبغي الإشارة إليه أن المتنبي، وكذلك عصره، لم يكن يجد فرقاً بين الانتماء إلى الإسلام والانتساب إلى العرب، فهما صنوان أو هما مترادفان، بل أحدهما وعاء للآخر، ولذلك تجد المتنبي في هذه القصيدة التي منها البيتان السابقان يقول بعدهما بقليل:

رَفَعَت بِكَ العَرَبُ العِمادَ وَصَيَّرَت قِمَمَ المُلوكِ مَواقِدَ النيرانِ 

وهذا البيت، كما سبق، هو من الأبيات التي يحتج بها على قومية المتنبي ودعوته إلى العروبة. 

وهو يرى أن سيف الدولة يمثل حزب الله، مقابل حزب الشيطان والكفر، ويشمل ذلك النصارى وما عندهم من مصطلحات ومناصب، كالقرابين والصلبان والبطارقة، فيقول مخاطباً سيف الدولة:

هَنيئاً لِأَهلِ الثَغرِ رَأيُكَ فيهِمِ وَأَنَّكَ حِزبَ اللَهِ صِرتَ لَهُم حِزبا 

وما سيف الدولة إلا سيف بيد الخلافة الإسلامية تضرب به أعداءها، فالأمر ما أعدّته الخلافة للعدى وسمته دون العالمين الصارم العضبا:

فَمَن كانَ يُرضي اللُؤمَ وَالكُفرَ مُلكُهُ فَهَذا الَّذي يُرضي المَكارِمَ وَالرَبّا 

وبهذا البيت ختم المتنبي قصيدته. فإذا كان أعداؤه يعملون ليرضى عنهم الشيطان واللؤم والكفر فإن سيف الدولة يعمل ليرضى الله تعالى عنه وتثني عليه المكارم. وكأنه يتمثل بذلك قول الله تعالى ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84].

ومما يلفت النظر أيضاً أن هذه القصيدة التي تتوهج فيها روح الإيمان والإسلام في عدة أبيات منها، ورد فيها بيت سابق استعمل فيه المتنبي كلمة العرب فقال:

تُهابُ سُيُوفُ الهِنْدِ وَهْيَ حَدائِدٌ فكَيْفَ إذا كانَتْ نِزارِيّةً عُرْبَا 

مفاهيم إسلامية:

وهناك مفاهيم إسلامية كثيرة ترد في شعر المتنبي تدل على إيمانه بها فهو يعرضها في مجال الثناء عليها والثناء بها على من يمدحه، فسيف سيف الدولة يعلق نجاده على عاتق سيف الدولة، ولكن الذي يمسك بقائمه ويضرب به إنما هو جبار السماوات والأرض وقاهر الجبارين.

على عاتق الملك الأغر نجاده وفي يد جبار السموات قائمه 

وكأنه يتمثل في بيته هذا قوله الله تعالى: ﴿ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ﴾ [الأنفال: 17].

وإذا رأى العدو الكافر المستكبر سيفَ سيفِ الدولة يهوي عليه، يسارع إلى إعلان إسلامه ليضمن لنفسه النجاة من القتل.

وَمُستَكْبِرٍ لم يَعرِفِ الله ساعَةً رَأى سَيْفَهُ في كَفّهِ فتَشَهّدَا 

وهو، بعزة نفسه وترفّعه عن الناس جميعاً، حين يرى نفسه جديرة بالتعظيم ولا يخضع لأحد، يستثني من ذلك حكم الله، فيقول عن نفسه:

تَغَرَّبَ لا مُستَعظِمًا غَيرَ نَفسِهِ وَلا قابِلاً إِلّا لِخالِقِهِ حُكما 

فهو متمرد على أحكام أهل الأرض، خاضع لأحكام رب السماء الذي خلقه.

ولا يؤثّر على وصف المتنبي بأنه ذو روح إسلامية في شعره، مخالفاتٌ سلوكية وقع فيها المتنبي أو اتهامه بأنه ادّعى النبوة، فهذا الاتهام الأخير لم يزد عن أنه اتهام، وأما لقبه المتنبي فهو من النَّبْوَة (عدم استواء المكان) وليس من ادعاء النبوة. وأما سلوكه فأعمال الشعراء غير أقوالهم، وأقوالهم غير أفعالهم.

من معجمه اللغوي:

يضاف إلى كل ما سبق كثرة الألفاظ الدينية، والمصطلحات الإسلامية في شعره، فالمتنبي شاعر ذو ثقافة إسلامية وذو معجم تكثر فيه الألفاظ الدينية الإسلامية، من ذلك ألفاظ المسيح واليهود وصالح وثمود في مجال حديثه عن نفسه، واضطراره إلى أن يعيش في أوساط أناس يخالفونه الرأي أو يناصبونه العداء.

مَا مُقامي بأرْضِ نَخْلَةَ إلاّ كمُقامِ المَسيحِ بَينَ اليَهُودِ 

أنَا في أُمّةٍ تَدارَكَهَا اللّهُ غَريبٌ كصَالِحٍ في ثَمودِ 

وهذا كله غيض من فيضِ ما يمكن أن يجده الباحث والمنقب في ديوان المتنبي من هذه الألفاظ والمصطلحات والمفاهيم الإسلامية.

وليس هذا غريباً على شاعر عاش في ظل دولة إسلامية مترامية الأطراف نهل من معين ثقافتها العربية الإسلامية التي تؤمن بمقولة عمر رضي الله عنه نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، ومن ابتغى العزة في غير ذلك أذله الله.

فالعروبة وعاء روحه الإسلام، وهما في صف واحد، وبينهما مودة ولقاء لا تنافر وعداء.

المخالفات العقدية في شعر المتنبي:

والمتنبي هو : أحمد بن الحسين بن الحسن بن عبد الصمد أبو الطيب الجعفي الكِندي، أبرز شعراء عصره، 

وهو كما قال ابن كثير: "وللمتنبي ديوان مشهور في الشعر، فيه أشعار رائقة ومعان ليست بمسبوقة، بل مبتكرة سابقة، وهو في الشعراء المحدثين كامرئ القيس في الشعراء المتقدمين" "البداية والنهاية" (15/ 276).

وقال الذهبي: " شاعر الزمان، أبو الطيب أحمد بن حسين بن حسن الجعفي الكوفي الأديب، الشهير بالمتنبي.

ولد سنة ثلاث وثلاث مائة، وأقام بالبادية، يقتبس اللغة والأخبار، وكان من أذكياء عصره.

بلغ الذروة في النظم، وأربى على المتقدمين، وسار ديوانه في الآفاق" "سير أعلام النبلاء" (16/ 199).

وقد قيل: إنه ادعى النبوة، وقال كلاما ركيكا زعم أنه قرآن أنزل عليه، وقد سجن لذلك، واستتيب فأعلن توبته.

قال ابن الجوزي: " وكان المتنبي لما خرج إلى كلب، فأقام بينهم ادعى أنه علوي حسني، ثم ادعى بعد ذلك النبوة، ثم عاد يدعي أنه علوي إلى أن شهد عليه بالشام بالكذب في الدعوتين، وحبس دهرًا طويلًا، وأشرف على القتل، ثم استتيب وأشهد عليه بالتوبة وأطلق.

قال المحسن: وحدثني أبو علي بن أبي حامد، قال: سمعت خلقا كثيرًا بحلب يحكون وأبو الطيب المتنبي بها إذ ذاك أنه تنبأ في بادية السماوة ونواحيها إلى أن خرج بها لؤلؤ أمير حمص، فقاتله وأسره وشرد من كان اجتمع إليه من كلب وكلاب وغيرهما من قبائل العرب، وحبسه دهرًا طويلا فاعتل وكاد يتلف، فسئل في أمره، فاستتابه وكتب عليه ببطلان ما ادعاه ورجوعه إلى الإسلام، قال: وكان قد تلا على البوادي كلامًا ذكر أنه قرآنا أنزل عليه، فمن ذلك: والنجم السيار، والفلك الدوار، والليل والنهار، إن الكافر لفي أخطار، امض على سنتك واقف أثر من كان قبلك من المرسلين، فإن الله قامع بك زيغ من أَلْحَدَ في دينه وضل عن سبيله" انتهى من "المنتظم" (14/ 164).

وللعلامة المحقق الشيخ محمود محمد شاكر رحمه الله، بحث وتحقيق حول "نبوة المتنبي"، ودراسة نقدية للمصادر التي أوردته. فينظر في كتابه المهم الكبير: "المتنبي" .

ثانيا: المخالفات العقدية عند المتنبي :

الكلام على المخالفات العقدية في شعر المتنبي أو غيره يحتاج إلى دراسة لديوانه، وقد قام أحد الباحثين بذلك، وهو الأستاذ إبراهيم بن علي بن محمد الشريم، وكتب: " المخالفات العقدية في ديوان أبي الطيب المتنبي : جمعاً ودراسة" وهي رسالة ماجستير مقدمة لجامعة أم درمان.

ومما وقفنا عليه مما انتقد على المتنبي:

1-قوله:

يرتشفن من فمي رشفاتٍ ... هن فيه أحلى من التوحيدِ

قال الواحدي: " ويروى أحلى من التأييد، يقال رشفت الريق ، وترشفته : إذا مصصته ؛ يقول: كن يمصصن ريقي لحبهن إياي ، كانت تلك الرشفات أحلى في فمي من كلمة التوحيد ، وهي لا إله إلا الله ، وهذا افراطٌ وتجاوز حدٍّ" انتهى من "شرح ديوان المتنبي للواحدي"، النيسابوري المتوفى 468هـ، ص16 (ترقيم الشاملة).

وقال ابن القيم: " فتأمل حال أكثر عشاق الصور تجدها مطابقة لذلك، ثم ضع حالهم في كفة، وتوحيدهم وإيمانهم في كفة، ثم زن وزنا يرضى الله به ورسوله ويطابق العدل، وربما صرح العاشق منهم بأن وصل معشوقه أحب إليه من توحيد ربه، كما قال العاشق الخبيث:

يترشفن من فمي رشفات ... هن أحلى فيه من التوحيد" 

انتهى من "الجواب الكافي"، ص211

2-قوله:

إن كان مثلك كان أو هو كائنٌ ... فبرئت حينئذٍ من الإسلامِ

قال الواحدي س295: "هذا من المدح البارد الذي ، يدل على رقة دين ، وسخافة عقل ، وهو من شعر الصِّبا" انتهى.

3-قوله:

لعظُمتَ حتى لو تكون أمانة ... ما كان مؤتمنا بها جبرين

قال الواحدي: "جبرين : لغة في جبريل ، بكسر الجيم وحذف الهمزة وتبدل اللام نونا ، وكذاك يقال إسماعيل وإسمعين وإسرائيل وإسرائين.

يقول: لو كنت أمانة لكنت عظيما، لا يؤتمن بها جبريل الأمين على وحي الله وكتبه إلى أنبيائه، وهذا إفراط وتجاوز حد، يدل على قلة دين وسخافة عقل" انتهى.

وقال أبو البقاء العكبري (ت616هـ) بعد نقل كلام الواحدي: 

" بل يدل على زندقة وَكفر" انتهى من "شرح ديوان المتنبي" (4/ 208).

4-قوله:

يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره

لايجبر الناس عظما أنت كاسره.. ولا يهيضون عظما أنت جابره

قال ابن كثير: "وقد بلغني عن شيخنا العلامة أبي العباس أحمد بن تيمية - رحمه الله – أنه كان ينكر على المتنبي هذه المبالغة، ويقول: إنما يصلح هذا لجناب الله عز وجل.

وأخبرني العلامة شمس الدين بن القيم - رحمه الله - أنه سمع الشيخ يقول: ربما قلت هذين البيتين في السجود" انتهى من "البداية والنهاية" (15/ 275).

وقال ابن القيم في "شفاء العليل"، ص240: " من صفات الكمال وأفعال الحمد والثناء: أنه يجود ويعطي ويمنح ، فمنها أن يعيذ وينصر ويغيث، فكما يحب أن يلوذ به اللائذون ، يحب أن يعوذ به العائذون. وكمال الملوك أن يلوذ بهم أولياؤهم ، ويعوذوا بهم ، كما قال أحمد بن حسين الكندي في ممدوحه:

يا من ألوذ به فيما أؤمله .. . ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظما أنت كاسره. ولا يهيضون عظما أنت جابره

ولو قال ذلك في ربه وفاطره لكان أسعد به من مخلوق مثله".

5-قوله:

لَو كَانَ علمك بالإله مقسمًا..فِي النَّاس مَا بعث الْإِلَه رَسُولا

أَو كَانَ لفظك فيهم، مَا أنزل التّــَوْرَاة وَالْفرْقَان، والإنجيلا

وَقَوله:

لَو كَانَ ذُو القرنين أعمل رَأْيه..لمّا أَتَى الظُّلُمَات، صرن شموسا

أَو كَانَ صَادف رَأس عازر سَيْفه... فِي يَوْم معركة، لأعيا عِيسَى

عازر اسْم الرجل الَّذِي أَحْيَاهُ الْمَسِيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بِإِذن الله عز وَجل

أَو كَانَ لج الْبَحْر مثل يَمِينه ... مَا انْشَقَّ حَتَّى جَازَ فِيهِ مُوسَى

قال الثعالبي بعد نقله هذه الأبيات: "وَكَأن الْمعَانِي أعيته حَتَّى التجأ إِلَى استصغار أُمُور الْأَنْبِيَاء" انتهى من "يتيمة الدهر" (1/ 211).

6-قوله:

أَي مَحل أرتقي ... أَي عَظِيم أتقي

وكل مَا قد خلق الله، وَمَا لم يخلق

محتقر فِي همتي كشعرة فِي مفرقي

قال الثعالبي: " وقبيح بِمن أَوله نُطْفَة مذرة، وَآخره جيفة قذرة، وَهُوَ فِيمَا بَينهمَا حَامِل بَوْل وعذرة: أَن يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام الَّذِي لَا تسعه معذرة" انتهى من "يتيمة الدر" (1/ 211).

وقال أبو العباس المهلبي (ت644هـ): " قال: هذا غلو نستعيذ بالله منه!

وقال غيره: هذا كلام ما خرج من راس صحيح!

وقلت: إن من الشعراء من يقع منه في حال شبيبته، أو في حال غضبه، أو سكره (أشعار) يرغب العاقل المستبصر عن إثباتها له، وروايتها عنه، فيسقطها عند إفاقته وتأمله، ولا يكاد يذكرها بعد ذلك. وهذا المتنبي كان يُقرأ عليه ديوان شعره ، إلى حين هلاكه ؛ ولا يسقط شيئا منه، مما يقدح في دينه وعقله، ويثلم في فضله ومروءته، ولا يغيره. هذا مع أنه لا يشتمل على لفظ بديع ولا معنى غريب" انتهى من "المآخذ على شُرّاح ديوان أبي الطَّيب المُتَنَبِّي" (1/ 173).

فهذه نماذج من المخالفات العقدية الواردة في شعر المتنبي، ومن أراد المزيد، والنظر في المناقشات حول ذلك:

فليرجع إلى الرسالة والمصادر المذكورة، وللأستاذ عبد الله كنون بحث حول ذلك نشره في مجلة الرسالة، ومثله للأستاذ سعيد الأفغاني.

وصدق الله تعالى إذ يقول: وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ الشعراء/224-227

المصادر:

١_ المستقبل الإسلامي العدد 114 – شوال 1421هـ يناير 2001م.

٢_ موقع شبكة الألوكة .

٣_ مواقع إلكترونية أخرى.

وسوم: العدد 1096