(الفيتوري) صوت إفريقيا العربي!

85 عاماً مع الشِّعر والسفر والتصوف!

صلاح حسن رشيد /مصر

[email protected]

 ظلَّ طوال حياته يحلم بانعتاق (القارة السمراء) من أوحال العبودية وبراثن الاحتلال، فبشَّر بالحرية، والمستقبل الواعد .. وعبّر عن هموم هذا المواطن المقهور الذي –مازال- الغرب يتاجر به في أسواق الرقيق، وفي جزر العبيد!

 هذا، ويرقد -الآن- الشاعر/ محمد الفيتوري؛ تحت وطأة المرض، من طول السَّفر، وغربة الحياة .. وهموم الوطن العربي الكبير! بعد أن تحطمت مراكبه، وتبخرت أحلامه!

 لقد طاف (الفيتوري) في طول البلاد وعرضها، ومرَّ بكل التجارب الحياتية، ومثَّل أكثر من بلد عربي في المحافل الدولية، وجمع بين المتناقضات: عذوبة الكلمة، والبساطة، والفكاهة السريعة، والولع بالتجديد الشعري، والاستغراق في الماضي، والتبشير بالمستقبل السعيد، والهُيام بالتصوف، والغرام بالمدنية الحديثة!

 كما أقام الفيتوري في جميع البلدان، وشغل مختلف الوظائف، وكتب في جميع الصحف، ونظم في كل بحور الشعر، وخاض معترك القضايا السياسية والدينية والفكرية .. فهو أحد رواد الحركة الأدبية السودانية .. درس بالمعهد الأزهري بالإسكندرية، ثم أكمل تعليمه بكلية دار العلوم بالقاهرة، فكان سوداني المولد والبداية، مصري الثقافة، عربي الهوى!

 للفيتوري كثير من الأعمال الشعرية، مثل: أغاني إفريقيا، وعاشق من إفريقيا، واذكريني يا إفريقيا، ومعزوفة لدرويش متجول، والبطل والثورة والمشنقة، وأقوال شاهد إثبات، وابتسمي حتى تمر الخيل، وعصفورة الدم، وغيرها من الإبداعات القيِّمة.

في الذكرى الأولى لانتفاضة الشعب الفلسطيني ضد الصهاينة؛ أطلق "الفيتوري" نيران قصيدته (دقات ناقوس القيامة) التي يقول فيها:

ليس طفلاًً ذلك الخارج من زمن الموتى

ليس طفلاً وحجارة .. ليس شمساً من نحاس ورماد

إنه طقس حضارة .. إنه إيقاع شعب وبلاد

ليس طفلاً وتمائم

إنه الأرض التي لمْ تخن الأرض .. وخانتها الحكومات والمحاكم!

إنه الحق الذي لم يخن الحق .. وخانته الطرابيش والعمائم!

اسكب أيها الزيت الفلسطيني أقمارك واحضن

واحضِن ذاتك الكبرى وقاوِم .. وأضىء نافذة البحر على البحر

وقل للموج: إنَّ الموج قادم!

 صرخة الصوفي الثائر!

 يقول الفيتوري عن نشأته الصوفية البريئة: كان والدي من كبار رجال الصوفية، وقد عاينتها طفلاً وصبياً، وحفظتُ القرآن كله عن ظهر قلب في تلك الفترة، لذلك فإنَّ لجوئي إلى الصوفية ليس لجوءاً ثقافياً أو فلسفياً أو فنياً؛ لمجرد البحث عن أفقٍ جديد، إنَّ صوفية الشاعر أو شاعرية الصوفي، الذي أتكلم عنه موقف إنساني ايجابي واعٍ مدرك، وليس موقف الدرويش المنجذب إلى مجموعة من الأفكار المشوشة، والأحاسيس التجريدية العمياء، إنه الصوفي الثوري، وليس الصوفي المتهالك المهزوم، وقد عبَّرتُ عن الظاهرة الصوفية، كما أراها، من خلال مجموعتي الشعرية "معزوفة لدرويش متجول"!

 وفي هذا الديوان يكشف "الفيتوري" عن تجلياته الصوفية، فيقول في هذه الرائعة المطولة:

دنيا لا يملكها من يملكها .. أغنى أهليها سادتها الفقراء

الخاسر من لم يأخذ منها .. ما تعطيه على استيحاء

والغافل من ظنّ الأشياء .. هي الأشياء!

تاج السلطان الغاشم تفاحه .. تتأرجح أعلى سارية الساحة

تاج الصوفي يضيء .. على سجادة قش

صدقني يا ياقوت العرش

أن الموتى ليسوا هم .. هاتيك الموتى

والراحة ليست .. هاتيك الراحة

***

لن تبصرنا بمآقٍ غير مآقينا

لن تعرفنا .. ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا

أدنى ما فينا قد يعلونا .. فكن الأدنى .. تكن الأعلى فينا !

* * *

 وتعد قصيدة "يوميات حاج إلى بيت الله الحرام" التي يخاطب فيها الرسول- من أروع قصائد الديوان، يقول فيها:

 يا سيدي، نعلم أن كان لنا مجدٌ، وضيَّعناه

بنيتَه أنتَ، وهدمناه

واليوم.. ها نحن -أجل يا سيدي- نرفلُ في سقطتنا العظيمة

كأننا شواهد قديمة

تعيش عمرها لكيْ تؤرخ الهزيمة!

 ويخاطب -الرسول الكريم –أيضاً في قصيدة "من وراء القرون" فيقول:

 يا سيّدي منذ رَدَمْنا البحرَ بالسدود!

وانتصبتْ ما بيننا وبينك الحدود

مِتْنا! وداستْ فوقَنا ماشيةُ اليهود!!

يا سيدي عليك أفضل الصلاة والسلام

من أمةٍ مُضاعة! تقذفها حضارةُ الخراب والظلام!

* * *

كما أبدع –الفيتوري- في رسم صورة فنية للشاعر الكبير (أبي الطيب المتنبي) في شموخه، وعبقريته، وتمثيله للعربي الأبيّ، وسخريته من ولاة عصره، فيقول:

يَمُرُّ غَيْركَ فِيهَا وهو مُحْتضرُ

لا برق يخطف عينيه ولا مطر

وأنت.. لا أسألُ التاريخ عن هرمٍ

في ظلِّه قمم التاريخ تنتظر

عن عاشق في الذُّرى .. لم تكتمل أبداً

إلاَّ على صدره الآياتُ والسور

إنَّ شِعركَ لوْ لمْ يلق ضوءاً .. على أيامهم غبروا

كانوا ملوكاً على أرضٍ ممزقة ..

 يجوع فوق ثراها النبتُ والبشر

كانوا ملوكا مماليكاً

وأعظمهم تحت السماوات، من في ظلك استتروا

ورحتَ تنفخ فيهم منك .. ترفعهم، فيسقط البعض

أو تبنى .. فينكسر

أردتَ تخلق أبطالاً، تعيد بهم ..

عصر النبوة والرؤيا، فما قدروا

وسِرْتَ غضبانَ في التاريخ ..

تصفو، وتجفو .. وتستعلي، وتبتدر

وتستفز، وتستثنى، وتحتقر

هذا زمانك .. لا هذا زمانُهم ..

فأنتَ معنى وُجُودٍ ليس ينحصر

"في كل أرض وطئتها أممٌ، تُُرعَى بعبدٍ كأنها غنمُ"

شفى الله الشاعر الكبير/ محمد الفيتوري- الذي اكتوى بآلام العروبة، وعانى مرارة الانقسام، وتلظّى بنيران الفرقة، فاصطدمت أحلامه بالواقع العربي المرير!