رواية "خريف آخر" لمحمود شقير وزمن الضياع

" خريف آخر" هي الرّواية الأولى الّتي كتبها عام ١٩٧٨ الأديب الكبير محمود شقير بعد إبعاده عن الوطن عام ١٩٧٥، ولم ينشرها في حينه، واحتفظ بها؛ ليعود إليها في العام ٢٠٢٥ منقّحا وحاذفا لثلثها تقريبا كما كتب في تقديمه لها" حذفت ما مقداره سبعة آلاف كلمة كانت تثقل متن الرّواية بسبب المباشرة والقول السّياسيّ المباشر، كما أنّني حذفت العنوان الثّاني واستبدلت به عنوانًا جديدًا هو "خريف آخر"، وأجريت إضافات طفيفة لسدّ الفراغات التي أحدثها الحذف".

ومحمود شقير أديب كبير متميّز صدر له أكثر من ثمانين كتابا في أصناف أدبيّة عديدة منها: القصّة القصيرة والأقصوصة، قصص الأطفال، الرّواية للكبار وللفتيان، النّقد الأدبي، المسرحيّة، أدب الرّحلات، اليوميّات، السّيرة الذّاتيّة والغيريّة، المراِثي والبكائيّات، المسلسلات التّلفزيونيّة، وغيرها.

وقد تعدّت شهرة شقير الأدبيّة السّاحتين المحلّيّة والعربيّة حيث ترجمت له العديد من أعماله لعدّة لغات، وإحدى رواياته للفتيات والفتيان اعتبرت واحدة من أفضل مئة رواية في العالم .

ولا بدّ هنا من التّنويه بأنّ الأديب شقير المولود في ١٥-٣-١٩٤١ قد بدأ مسيرته الأدبيّة بقوّة واقتدار بائنين، فقد  حوّلت إذاعة صوت العرب من القاهرة  عام ١٩٦٦ قصّته"خبز الآخرين" إلى تمثيليّة وبثّتها مرّات عديدة، فانتشرت القصّة بشكل واسع.

وقد فاز الأديب شقير بعدّة جوائز عالميّة وأشهرها فوزه بجائزة محمود درويش الّتي اعتبرها أفضل من جائزة نوبل للآداب.

ويجدر القول هنا أنّ الأدب الفلسطينيّ بشكل خاصّ والعربيّ بشكل عامّ قد حظي بالمحمودين: محمود درويش في الشّعر ومحمود شقير بالسّرد القصصيّ والرّوائيّ.

 وقد عرف القرّاء والنّقّاد الجادّون محمود شقير وخصوصا في العقدين الأخيرين أنّه يخوض التّجريب فيأتينا بجديد في الشّكل والمضمون، وقد تجلّى ذلك في مجموعته القصصيّة "سقوف الرّغبة" وفي روايته الأخيرة منازل الذّكريات"

وعودة إلى روايته الأولى" خريف آخر" الّتي كتبها قبل خمسة عقود،  محمود شقير الّذي يعترف بأنّ ميدانه الأساسيّ في الأدب هو القصّة القصيرة، وهو واحد من مؤسّسي فنّ القصّة القصيرة جدّا في العالم العربيّ، خاض في مجال الرّواية في مرحلة مبكرة من عمره الّذي نتمنّى أن يطول وهو بكامل قواه، فجادت قريحته ب "خريف آخر" لكنّه لم ينشرها لحرصه الشّديد والمبالغ فيه على التّفوّق والنّجاح الباهر فيما يكتبه، وها هو يتعثّر صدفة بمخطوطة هذه الرّواية عندما تبرّع بجزء من مكتبته لمكتبة جامعة بيت لحم، فعاد إليها ونقّحها وحذف ثلثها، وبقي متردّدا وحائرا في  نشرها أو يبقيها في دفاتر النّسيان.

وقد أتيحت لي الفرصة لقراءة هذه المخطوطة الّتي لم تنشر حتّي يومنا هذا.

يبدأ شقير روايته بوصف جبل الكرمل عندما تحرّر من سجن الدّامون الّذي يتربّع على قمّة هذا الجبل، - من المعروف أنّ شقير اعتقل للمرّة الأولى في شهر يوليو ١٩٦٩ لمدّة عشرة أشهر-. كما يصف ما أتيحت له رؤيته في ذلك اليوم من مدينة حيفا، ويعبّر عن عواطفه الجيّاشة تجاه تلك المدينة الّتي لم يزرها من قبل.

وتعود به الذّاكرة إلى حرب حزيران ١٩٦٧ حيث احتلت مدينته القدس جوهرة فلسطين والبلاد العربيّة تحت الاحتلال، كما يتحدّث عن جدّيه لأبيه ولأمّه، ويستذكر شيئا من حياة الجدّين، فجدّه لأبيه شارك في ثورة العام ١٩٣٦، وخاله محمود غادر أرض الوطن؛ ليلتحق بالعمل الفدائيّ، ويستذكر خاليه عليّ ومحمود دون أن يذكر أيّ اسم بشكل صريح.

كما يعود إلى بعض من ذكرياته، ومنها الجلوس في أحد مقاهي القدس"جروبي"، والتقائه فيه مع بعض الأصدقاء ومنهم " أبو بشّار" نعيم الأشهب.

ويكتب شقير في هذه الرّواية عن حالة الضّياع الّتي عاشها من بقوا على أرض الوطن، وكيف انقسموا ما بين متمسّك بالأرض يحرثها ويزرعها ويعتاش من خيراتها، ومنهم من التحق بالعمل الأسود في الجانب الاحتلاليّ. ومنهم من مارس الجنس مع المومسات اليهوديّات معتبرا ذلك عملا نضاليّا! كما تعود به الذّاكرة إلى شارع بور سعيد الّذي غيّر المحتلّون اسمه إلى شارع الزّهراء، وكيف تحوّل ذلك الشّارع إلى بارات ومقاهي تعجّ بالسّكارى والمومسات.

عنصر التّشويق واللغة: يطغى عنصر التّشويق على السّرد الرّوائيّ، وواضح أنّ ذلك نابع من العاطفة الصّادقة الّتي تحلّى بها الكاتب وهو يكتب روايته هذه. ولغة الرّواية جاءت متعدّدة الأصوات حسب شخوص الرّواية، ومعروف أنّ أديب شقير يمتلك ثروة لغويّة بائنة، وهي من السّهل الممتنع الّذي يعجّ بالبلاغة من صور شعريّة وتشبيهات واستعارات وغيرها.

ويمكننا القول بأنّ هذه الرّواية الواقعيّة هي خليط من الذّكريات ومن السّيرة الذآتيّة ومن مسيرة شعب في مرحلة من تاريخ.

وماذا بعد؟

هذه العجالة لا تغني بأيّ شكل من الأشكال عن قراءتها.

وسوم: العدد 1123