أثر النحو العربي في الدراسات اللغوية الغربية!!
صلاح حسن رشيد /مصر
مصر
لولا اجتهادات التجديديين العرب وغير العرب على مدار تاريخ لغة الضاد ما تقدم النحو العربي خطوة إلى الأمام، ولا انمازت المدارس النحوية العربية على الصعيد العلمي العالمي في ارتقائها وتطورها واستيعابها لمظاهر القوة والضعف فيما حولها من لغات، ولما اعترف دهاة الدرس اللغوي المقارن في جامعات أوربا والولايات المتحدة بمواءمة النحو العربي للتجديد والتطور والنمو والقابلية للتفاعل مع كافة مستجدات الحياة والتاريخ.
ويعترف الباحث الأكاديمي عبد الله أحمد جاد الكريم المتخصص في علوم العربية في كتابه الجديد (الدرس النحوي في القرن العشرين) الصادر مؤخراً عن مكتبة الآداب بالقاهرة- بمدى تغلغل التحديث والحداثة التي لفت جنباتها كافة مظاهر دراسة النحو العربي منذ ما قبل الإسلام وحتى القرن الماضي وما تزال، فيقول إن: "الحداثة تضرب بجذورها في الحياة العربية والإسلامية، فالإسلام بحد ذاته حداثة، ومحاولات التحديث وتطبيقاته في الحياة السياسية والفكرية قائمة ومستمرة طوال التاريخ.. إن التراث العربي القديم قد ارتبط بالتغيير والتنامي، منذ فجر انبثاقه، بدءً من النص القرآني الذي أحدث إرباكاً في تفكير الجاهلي وسلوكه وقيمه ونمط معيشته..مما يفسر أن الحداثة ليست تغييراً لأجل التغيير، وأنها أيضاً ليست أمراً طارئاً على الفكر العربي الحديث ولا هي نتاجاً حتمياً لما انتهى إليه الفكر الغربي على المستوى الحضاري الشامل..وإن التراث العربي القديم لم يكن وليد بداوة ساذجة وتلقائية، إنما عبر عن قابلية هذه البداوة المتأصلة على المغايرة والمطابقة، مع الواقع الحضاري الجديد المتميز بالتكثيف والتركيز.
سيبويه .. وعيسى بن عمر
ويعتبر كتاب "سيبويه" أول وأهم عمل تجديدي بالنسبة للدرس النحوي في هذا المضمار في حينه، لأنه عمل غير مسبوق في منهجه ودرسه، وإن وردت إشارات عن كتابَي (الجامع، والإكمال) لعيسى بن عمر، ولكن أمثال هذه المؤلفات لم تصل إلينا.
ويرى المؤلف أن شخصية سيبويه كانت تحديثية مبدعة في تأطيرها للنحو العربي على منهجية جديدة، وهو يصفه بقوله: كانت له شخصية قوية ظهرت في ابتداع بعض القواعد، وفي ترتيب الكتاب حاوياً عناصر الفن كلها، وتبويبه .. وحسن التعليل للقواعد، وجودة الترجيح عند الاختلاف، واستخراج الفروع من القياس الذي امتلأ به الكتاب .. ويعد كتاب سيبويه محطة حداثية مهمة في حياة النحو العربي، وعلى حد عبارة بعض النحاة القدماء: أصبح النحو منطق العربية بمجيء سيبويه.
ثورة ابن مضاء الأندلسي النحوية
وتأتي المحطة التطويرية المكملة لسيبويه وهي ثورة الأندلسي ابن مضاء القرطبي (ت592هـ) في كتابه "الرد على النحاة" الذين وصفهم بالتقليديين، عندما رفض أن يستمر الدرس النحوي العربي لمدة ثلاثة قرون يرتكز على مجموعة من القواعد التي نالت درجة التقديس عند كثير منهم .. وكانت ثورة ابن مضاء دعوة تجديدية باكرة لإعادة النظر في منهج النحو العربي، وهو في كتابه المختصر النافع لا يدعو إلى هدم النحو ونسف الماضي، بل يطالب بتجريد النحو من الشوائب وتخليصه من تصنُّع النحاة وحذلقاتهم، ولذلك يقول:" إني رأيت النحويين- رحمة الله عليهم- قد وضعوا صناعة النحو لحفظ الكلام من اللحن، وصيانته من التغيير فبلغوا الغاية التي أمّوا، وانتهوا إلى المطلوب الذي ابتغوا". وقد استوحى آراءه النحوية الجديدة من المذهب الظاهري في الفقه.
تجديد(شوقي ضيف) النحوي
وينتقد جاد الكريم عدم اهتمام معاصري ابن مضاء وخالفيه بما قال وأبدع،حيث استمر الغلاة في النحو في الصناعة النحوية بعد ابن مضاء؛ إلى أن قام الدكتور العلامة شوقي ضيف رحمه الله بتحقيق هذا الكتاب عام 1947م، وأصدر من بعده كتابه تجديد النحو وغيرها من بحوثه الداعمة لهذا الاتجاه الجديد.
ومن سمات النحو العربي قدرته على الإفادة من اللغات الأخرى، والأخذ بما يرفده بالحيوية والتطور والنمو، في تفاعل حضاري بين الشرق والغرب منذ القديم. ويرى العلامة الدكتور إبراهيم بيومي مد كور أنه: من الثابت أن كُتُب أرسطو المنطقية كانت معروفة لدى السريان، وقد تُرجمت إلى لغتهم قبل الإسلام. والمهم أنها تُرجمت إلى اللغة العربية منذ النصف الأول من القرن الثاني الهجري .. فهي إذن ثروة جديدة نُقلت إلى العالم العربي.ومن أقدم الأمثلة على تأثير السريانية على العربية، الأبجدية النبطية، والخط النبطي مشتق من الخط الآرامي، ويظهر ذلك في الخط الكوفي. وفي نشأة الحركات الإعرابية في فجر الإسلام، والتي يُنسَب وضعها إلى أبي الأسود الدؤلي، وهي في الحقيقة مأخوذة عن السريان؛ لأن طريقة الشكل بالنقط إحدى طرق الشكل السرياني، وهي الطريقة التي اتبعها النساطرة.
العبرية والنحو العربي
وقد أثّرت العربية بدورها في غيرها من اللغات نحوياً-كما يقول جاد الكريم- حيث تعترف دائرة المعارف اليهودية في مادة ((GRAMAR قائلة: "إن الحافز لدراسة الفلوجي العبري قد قوِيَ بعامل خارجي،وبالتحديد بالمثال الذي قدمته اللغة العربية. وقد استمرت اللغة العربية تؤثر على علم اللغة العبري، وكان النموذج العربي هو الذي احتذاه العبرانيون ثم طُوروه".
تشومسكي والنحو العربي
وقد أثّر النحو العربي في أكبر عقلية لغوية ونحوية غربية في ربع القرن الأخير، وفي أبرز مدرسة لغوية حداثية هناك، أما العقلية فهي للعالم الأمريكي اليهودي نعوم تشومسكي (ابن معلّم اللغة العبرية) حيث أقر بالحق العربي وبمكانة العربية، وقد تزعم الدراسات اللغوية المعاصرة، وكوّن نظرية جديدة قلبت الفكر اللغوي رأساً على عقب، وقد نوّه تشومسكي في معرض رده على سؤال وُجّه إليه عام1989م بأن تأثيرات النحو العربي كبيرة على نظريته في دراسة اللغة، وأنه قرأ كتاب سيبويه كمرجع له، حسب كلام المؤلف.
وقال المستشرق الفرنسي ماليه:" لم تبق لغة أوربية واحدة لم يصلها شيء من اللسان العربي المبين، حتى اللغة اللاتينية الأم الكبرى، فقد صارت وعاءً لنقل المفردات العربية على بنائها".
وذكر المستشرق لويس ماسينيون مدى تأثير النحو العربي في اللغات الأوربية، خاصة في المجالات العلمية، فقال: "والعربية من أنقى اللغات؛ فقد تفردت بتميزها في طرق التعبير العلمي والفني والصوفي، فالتعبير العلمي الذي كان مستعملاً في القرون الوسطى لم يتناوله القدم؛ ولكنه وقف أمام تقدم القوى المادية فلم يتطور. أما الألفاظ المعبرة عن المعاني الجدلية والنفسانية والصوفية؛ فإنها لم تحتفظ بقيمتها فحسب، بل تستطيع أن تؤثر في الفكر الغربي وتُنشّطه؛ بفضل مرونة النحو العربي وإدهاشه الإبداعي المتواصل، أخذاً وعطاءً، على طريق التحديث في بنيتها القادرة على التعاطي مع اللسانيات الغربية والشرقية.