الشعر العمودي !
مع مصطلح
د.عدنان علي رضا النحوي
هناك خطأ شاع على الألسنة وفي الصحافة ، ولدى عدد من الأدباء ، حين يستخدمون كلمة " الشعر العمودي " ، بمعنى الشعر الموزون المقفى . وهذا استعمـال خاطئ ، لأن هذا المصطلح الفني لم نضعه نحن ، وإنما وضعه أدباؤنا المسلمون . ولم يكن للوزن والقافية علاقة بمصطلح " الشعر العمودي " أو " عمود الشعر " ، لأن الوزن والقافية لم يكونا موضع بحث أو خلاف في موضوع الشعر.
فلقد كان للشعر مفهوم واضح محدّد، يختلف به عن النثر ، فبالإضافة إلى الأوزان والقوافي التي كانت تمثِّل طبعاً عند العرب ، فكذلك كان لكلمة الشعر معنى خاص في القلوب ، وفيما بعد في المعاجم والدراسات . ذلك المعنى هو أنَّ الشعر يعني العلم . ولكنَّ هذا المفهوم لم يكن ليمنع الخيال والعاطفة عن الشعر ولا عن النثر . وفي اللغة العربية يمكن للأديب صاحب الموهبة أن يُفرغ في النثر روائع الخيال المجنَّح والعاطفة الغنية ، أو يفرغها في الشعر .
واستقرَّ الأمر عند العرب عندما نزل القرآن الكريم على معنى واحد وتصوّر واحد للشعر ليتميّز به من النثر، ذلك بأن الشعر هو الكلام الموزون المقفَّى على الصورة التي نضج عليها آنذاك ، ثمَّ يحمل بعد ذلك ما يشاء من المعاني والأساليب . وهذا ما عرف به ابن خلدون الشعر في مقدّمته ، فيقول : " هو كلام مفصَّل قطعاً متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة، وتسمى كل قطعة بيتاً …"(1) ويقول : " واعلم أنَّ فنّ الشعر من بين الكلام كان شريفاً عند العرب ، ولذلك جعلوه ديوان علومهم وأخبارهم …"(2) هذا هو الوضع النهائي للشعر في اللغة العربية ، بغض النظر عن مرحلة سابقة يُظنّ بها ظنّاً ، هذا هو الشعر الذي وصلنا في مرحلة نضجه واستقراره ، في المرحلة التي اختارها الله سبحانه وتعالى اللغة العربية لتكون لغة الوحي والقرآن الكريم ، ولغة النبوة الخاتمة ، ولغة الصلاة والعبادة .
وأصبح هذا الشعر سجيّةً وطبعاً لا يمكن أن يخرج إلا من موهبة حقيقية يضعها الله في من يشاء من عباده ، ولذلك قال الحطيئة :
إذا ارتـقـى فـيه الـذي لا يـعلمهْ |
|
الشّـعرُ صعـبٌ وطـويلٌ سُلّـمهْ |
ولا نقصد من ذلك أن الشعر هو نظم ! كلا ! إنما نقصد أن الأوزان التي لم تكن تُعْرَف آنذاك بمسمَّياتها كانت هي الوعاء الذي تُفرّغ فيه معاني الشعر وآفاقُه مهما اتسعت أو امتدت . وأصبحت هذه الأوزان والقوافي فطرة العربيّ ، حتَّى لا تكاد تجد منهم أحداً إلا وله البيت والبيتان أو الثلاثة تخرج منه على البديهة . والشعراء ينظمون القصائد الطوال .
لقد كانت الأوزان والبحور جزءاً لا يتجزّأ من نسيج اللغة العربيّة التي بلغت ذروة نضجها ، والتي كانت تخرج من الشعراء وتُلْتَزَم كما كانت تُلْتَزم قواعد النحو والصرف مما لم يكن يَعْرفها بمسمّياتها أحد . ولكن ذلك كلّه كان فطرة العربي ، يخرج منه الشعر بأوزانه وقوافيه بداهةً وموهبةً ، بعد نموّ وتطوّر طويل استقرَّ بالشعر على هذا النحو ليتميّز به من النثر . ولكن يبقى النثر في اللغة العربية يتسع لكلّ المعاني والفكر والعاطفة التي يتَّسع لها الشعر .
وهذه الأوزانُ والبحورُ نُسمّيها " أوزان الشعر في اللغة العربية " ، فالذي يملكها وصاحبها هو اللغة العربية وشعرها ، وليس الخليل بن أحمد ـ رحمه الله ـ الذي كان له فضل اكتشافها ، وليس حق ملكيّتها . فتسميتها " بأوزان الخليل بن أحمد " هوّن من مكانتها وحقِّها مع الأيام ، حتى أصبح هنالك من يقول : إن أوزان الخليل بن أحمد لم ينزل بها قرآن لنلتزمها . ولكن قواعد النحو والصرف لم ينزل بها قرآن يأمر بالتزامها ، ولا التزام بيانها وبلاغتها ، وإنما نزل قرآن كريم ينصّ على أنَّه نزل باللغة العربية المعروفة آنذاك ، المعروف نثرها وشعرها، والتي تحدّدتْ خصائصها رحمةً من الله لتصبح لغة الإنسان مهما كان جنسه ولونه وأرضه ، إذا أسلم والتزم إيمانه وإسلامه .
لقد أصبح بعض الناس يعتقدون أن " الخليل بن أحمد " هو الذي وضع هذه الأوزان واخترعها من عند نفسه ، وأدخلها في اللغة العربية . يعتقد بعضهم ذلك اعتقاداً دفعهم إلى أن يهوّنوا من شأنها ومن شأن التزامها .(3)
فالشعر عندهم ، عندما وضعوا مصطلح " عمود الشعر " ، كان يعني الكلام الموزون المقفى ، والكلام الذي شَرُف بالوزن والقافية وتميَّز بهما من النثر، كما تنصّ المعاجم على ذلك . وكانوا يعون أن الشعر ليس وليد عاطفة فحسب لأنهم يعرفون معنى كلمة شَعَرَ بأنه : علِمَ وفَطِنَ وعقل ، وشَعُر بمعنى أجاد . عمود الشعر يعني الخصائص الفنيّة التي يجب أن تتوافـر في الشعر العربي الموزون المقفى ليرقى في درجات الإبداع والإجادة ، وليكون أدباً يقدَّر ويعتدُّ به.
لقـد اعتبر أبو القاسم الحسن بن بشر الآمـدى ( ت 370هـ ) في كتابه " الموازنة " أن عمود الشعر هو طريقة البحتري ، وبين أهم معالم طريقته . أما القاضي عبد العزيز الجرجاني (ت:392هـ) فقد حـدّد عمود الشعر بست نقاط : " شرف المعنى وصحته ، وجزالة اللفظ واستقامته ، إصابة الوصف ،المقاربة في التشبيه ، الغزارة في البديهة ، كثرة الأمثال السائرة والأبيات الشاردة " . ونلاحظ هنا أنه لم يتطرّق إلى وجود الوزن والقافية لأنهما أساس الشعر . ولما جاء أحمد بن محمد بن الحسن المرزوقـي (ت 421هـ) حدّد عمـود الشعر بسبـع نقاط : " شرف المعنى وصحته ، جزالة اللفظ واستقامته ، الإصابة في الوصف ، المقاربة في التشبيه " ، فقد وافق الجرجـاني في هذه النقـاط الأربع ، وأضاف ثلاثاً أخرى : " التحام أجزاء النظم والتئامها على تخيّر من لذيذ الوزن ، مناسبة المستعار منه للمستعار له ، مشاكلة اللفظ وشدّة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما " . وهذا تأكيد على أن الشعر يتميز من النثر بالوزن والقافية ، وأن الإبداع هو في حسن اختيارهما ، والإجادة في صياغتهما ، وتوافر الخصائص الفنيّة والخصائص الإيمانية .
وكان لعمود الشعر تصور واضح لدى أولئك الأدباء حين وضعوه وحدَّدوه. فالمرزوقي يحدّد عمودَ الشعر ويبيّن أهدافه بقوله : " ليتميّز تليد الصنعة من الطريف ، وقديم نظام القريض من الحديث … ويعلم فرق ما بين المصنوع والمطبوع "
هذا هو عمود الشعر ، وهذه هي اللغة العربيّة وهذا شعرها وهذا نثرها .
إنّ هذا المصطلح يعني توافر خصائص فنيّة في الشعر ، خصائص جمالية، ليس الوزن والقافية من بينها ، لأنّ ذلك أمر مسلّم به ، إذا خلا الكلام من الوزن والقافية لا يعود شعراً أبداً . فتوافر الخصائص الفنيّة التي أصبحت عند المرزوقي ثماني خصائص هي التي تجعل الشعر عمودياً ، وليس الوزن والقافية هما اللذين يجعلان الشعر عموديَّاً .
(1) مقدمة ابن خلدون : ج3 ، ص : ( 1299 ) .
(2) المصدر السابق ، ص : (1300 ) .
(3) يراجع كتاب : " الشعر المتفلّت بين النثر والتفعيلة وخطره : للكاتب .