الشاعر شريف قاسم في قصيدته: الأمة الثكلى ... وعدتها
الشاعر شريف قاسم
في قصيدته: الأمة الثكلى ... وعدتها
شريف قاسم
د. عبد الحكيم الأحمد
قصيدة جديدة من مطولات الشاعر شريف قاسم حملت العنوان ــ الأمة الثكلى ، وعدتها ــ وللشاعر عشرات القصائد التي تزيد على مئة بيت أو مئتين أو أكثر ، وهي مبثوثة في هذا الموقع المبارك رابطة أدباء الشام ، وفي مواقع أخرى ، وفي بعض دواوينه المطبوعة . والشاعر محافظ على مقومات القصيدة العربية الأصيلة ، ورافض للأسماء التي تطلق على غير هذا النوع من الشعر ، وله في ذلك موقف يجافي التجديد الذي يرمي إلى طمس الهُوية الإسلامية ، وإلغاء ماللقرآن الكريم والسُّنة النبوية المطهره من مكانة في نفوس أبناء الأمة ، ومن قدسية تُفدى بالنفيس . ويعتبر شاعرنا أن المكر الأجنبي وعملاء المكر الأجنبي يريدون أن يطمسوا عقيدة الأمة وثقافتها بل ووجودها فيقول :
والأُفعوانُ وكيف يُخفي نابَه |
والسمُّ فاضَ ، وإنَّه تهديدُها |
هي لعبةُ الأمم التي عبَّتْ أذىً |
لكنَّه هو نَتْنُها وصديدُها |
دافوا به هذي الحضارةَ إنها |
شؤمٌ علينا يوم جاءَ بريدُها |
إذ مازجوها بالسَّفاهةِ والشَّقا |
فكبا على صدرِ الشعوبِ شديدُها |
وتشعَّبَتْ منها مذاهبُ جَوْرِهم |
وجرى على جسدِ الشعوبِ مُبيدُها |
ويرى أن سبب هذه الغارة العاتية على الأمة وعقيدتها وثقافتها ، كان بسبب الغفلة التي يعيشها المسلمون ، وبسبب الوهن الذي أقعدهم عن الرقي ، وعن استخلافهم في الأرض ، فالمسلمون هم أبناء هذه الأمة الثكلى التي فقدت أسباب عزتها وقوتها بين العالمين ، يقول شاعرنا محذرا ومذكرا وخائفا على هُوية الأمة :
الأُمَّةُ الثَّكلى ، وطالَ رقودُهـا |
وتطاولتْ بالنَّـازلاتِ عهودُهـا |
واسودَّ وجهُ شموخٍها ، فتراجعتْ |
إذْ لـم تَسِرْ بهُدَى الحنيفِ وفودُهـا |
وهُويَّةُ الإسلامِ يُطمسُ فضلُها |
حيثُ الهوانُ مدى السنين حفيدُهـا! |
ومعاولُ السُّفهاءِ تهدمُ ركنَها |
ولقد توجَّعَ من أذاهم جيدُهـا |
واليوم حربٌ عالميٌّ : بأسُهـا |
وعلى المثاني برقُها ورعودُها |
جدَّتْ عداوتُهم ، وجدَّ فسادُهم |
بئس الحضارةُ شرُّها ووعيدُها |
جاؤوا على الإسلامِ بالنَّارِ التي |
دارتْ لظىً والمسلمون وقودُهـا |
فالأمة تكاد تنسى أنها أمة إسلامية قرآنية ، وأنها اليوم خلطت أوراقها بالشَّر المستورد من بلاد الشَّر والفساد ، فغامت بين أعينها قيمُها ومآثرُها وتاريخُها الفيَّاض بالمجد ، وأسلمت قيادها ــ مع الأسف ــ لأعدائها أو لعملائهم من أهل العلمنة والحداثة والقومية والاشتراكية ، والتي فُضحت ــ ولله الحمد ــ في هذا الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة في كل أقطارها . حيث الاحتلال الصهيوني لفلسطين ، وحيث أصابع الكيد نبصرها هنا وهناك في أقطارنا العربية والإسلامية ، وحيث النوازل الداميات حلَّت بالمسلمين من قتل وتشريد وسجون ، يصورها الشاعر شريف قاسم حيَّة لمشاعرنا ، كماهي حيَّة تتراءى أمام أعيننا ، مناجيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شاكيا مايعانيه المسجد الأقصى والمرابطون فيه وحوله من بطش وحصار :
عفوًا رسولَ اللهِ : مسراكَ الذي |
قد باتَ في أيــدٍ يعيثُ يهودُهـا |
يغتالُه علنًـا هناك تآمرٌ |
والقدسُ يأسرُهـا هنا تنهيدُها |
وجنائنُ القيمِ المقدسةِ اختفى |
ياسيٍّدي من كيدِهم تغريدُها |
وطوى بديجورِ النَّوائبٍِ شيخُها |
وبكى لبطشِ المجرمين وليدُها |
وأسيرُها في القيدِ كبَّله به |
وَهَنٌ تُصَنِّعُهُ ــ امتثالا ــ غيدُها |
وعلى المآقي ظلمةٌ ، وضلالةٌ |
غذَّى مفاسدَها الكبارَ عبيدُها |
والشَّجوُ في صدرِ اليتامى ، والأسى |
عانى توقُّدَه الشَّديدَ وريدُها |
لم يبقَ في أكنافِها من منزلٍ |
إلا وأوردَه الدَّمارَ حديدُها |
فهم اليهودُ استأسدوا في أرضِنا |
والأُمَّةُ الثَّكلى تغيبُ ردودُها |
أجل تغيب الردود التي تعبِّر عن أصالة الأمة واعتزازها بدينها القويم ، وتغيب الردود التي يجب أن تعبَِّر عن المسؤولية التي يحملها المسلمون اليوم ، هذا هو المجد يرنو من بعيد يعاتب الأمة ، ويأسى على حالها :
فقديمُها يرنو بِعَيْنَيْ ذاهلٍ |
والذُّلُّ في زمنِ الهوانِ جديدُها |
والهولُ يحجبُ ، أو يَوَدُّ بليله |
أن لايرى وجهَ الضُّحَى غِرِّيدُها |
لابوركَ الجبناءُ في يوم اللقا |
والسَّاحُ تسألُ : أين ولَّى صِيدُها ! |
سؤال يبعث الألم والحسرة في القلوب : أين ولَّى صيدها ؟ أين أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ وأين جندُ أبي عبيدة والقعقاع وخالد رضي الله عنهم أجمعين ؟ والجواب غير بعيد عن أمة مازال القرآن الكريم نجيَّها آناء الليل وأطراف النهار ، وعزمات الغر الميامين من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم مازال سنا لياليها المقمرات يتألق في حياة شيب الأمة اليوم وشبابها وشاباتها الطاهرات المجاهدات ، ولعل رايات الفتح تلوح من جديد رغم ضراوة الأعداء :
الصِّيدُ جندُ المجدِ هم أجنادُها |
طوبى لأُمَّتِهم تعودُ بنودُها |
تسقي مرابعَهم شريعةُ ربِّهم |
فزهتْ وقد سُقِيَتْ هنالك بيدُها |
أصحابُ أحمدَ لم تغبْ عزماتُهم |
أسيافُها ــ يوم الوغى ــ وقصيدُها |
وَسُمُوُّ غايتِهم ، ونبلُ إبائِهم |
والرحمةُ المزجاةُ هلَّ نضيدُها |
فلا يُخشى على أمة مجيدة اختارها الله لهداية البشرية من الضياع والاندثار ، وهي التي وعدها الله بالنصر والاستخلاف يقول الله تعالى في محكم القرآن الكريم : (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ، كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا . يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ) 55/النور . قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : إن سبب نزول هذه الآية هي شكوى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مما أهمَّهم من جهد مكافحة العدو ، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم ، وأنهم لا يضعون أسلحتهم ، ولكن مع الإيمان والعمل الصالح كان وسيكون والاستخلاف بإذن الله تعالى ، وسيكون التمكين للأمة ، وسيأتي الأمن بعد الخوف ، فمنذ عهد النبوة كان الابتلاء سمةً للتمحيص للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، وقد نجحوا وفازوا وتلك قصصهم تشرح الصدور وتفرح النفوس وتطمئن لها القلوب ، أجل إنهم أصحاب مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم :
السَّابقون وفي قراءةِ سِفرِهم |
نَبَأٌ قراءتُه يطيبُ فريدُها |
السَّابقون الأوَّلون وقصَّةٌ |
للمبتَلَين يهمُّهم مقصودُها |
نصروا الذي لم ننتصر لرسوله نصروا الذي لم ننتصرْ لرسولِه |
فخبتْ عزائمُنا ، وولَّى صيدُهـا |
فهو النَّبِيُّ إمامُهم ، ولِحبِّه |
جادتْ نفوسٌ عزُّها محمودُهـا |
منهاجها القرآنُ ضيَّعناهُ إذْ |
عميتْ عيونٌ ، فالسَّرابُ حدودُها |
تلك النًُّفوسُ المؤمناتُ بربِّها |
قد كان للدِّينِ الحنيفِ نشيدُها |
صبرتْ على البأساءِ حبًّا بالهُدى |
فَسَمَتْ مطامحُهــا وطابَ صعودُها |
مافتَّ في أحنائِها ظمأٌ ولا |
أوهى الخطى نصبٌ فرقَّ قعودُها |
أو أخَّرَتْها عن مقارعةِ العِدا |
آثارُ مخمصةٍ يطولُ شديدُها |
سمعتْ منادي الغيبِ يدعوها إلى |
عَدْنٍ ففيها أمنُها و خلودُها |
يوم اصطفاها ربُّها فتباشرتْ |
أيَّامُهـا إذْ ربُّها معبودُهأ |
لم ترضَ بالطاغوتِ ربًّا أو رأتْ |
في غيرِ شِرعتِه يُنالُ رغيدُهـا |
عزَّتْ بمعرفةِ الإلهِ فمـا خبـا |
ألقُ المفازةِ أو نأى أملودُها |
قويت أواصرُهم بظلِّ عقيدةٍ |
فالحبُّ ــ في الله العظيمٍ ــ يقودُها |
وهي المُنى في الوعدِ زيَّنها لهم |
ربُّ البريَّةِ ، والتَّقيُّ سعيدُها |
يستبشرون بنعمة لم تنصرم |
أيَّامُها في عيشِهم وعقودها |
وهو الثَّباتُ فما لنفسٍ أدبرتْ |
إلا التَّبارُ يسوقُها ويبيدُهـا |
وهو الولاءُ ، وما لديه روايةٌ |
أخرى لأُمَّتِنا ترفُّ بنودُهـا |
يبقى لهـا اسخلافُها في الأرضِ لم |
يطمسْهُ مابين الأنامِ ركودُهـا |
أبيات من الشعر رائعات ، أوقفتنا على بعض ماكان عليه الأولون السابقون من الصبر على الابتلاء ، والانتصار لشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن محبة عظيمة له صلى الله عليه وسلم ، ترجمها تقديمُهم أنفسَهم فداءً له ولدينه صلى الله عليه وسلم ، ومن اتباع لِما جاء في كتاب الله المكنون ، من الحث على الأعمال الصالحات والعبادات المفروضات ، ومن جهاد مبارك في ميادين الحق والقوة والخير ، ومن كفر بكل الطواغيت التي يمكن أن يأتي بها الشيطان الرجيم ، ليصد الناس من خلالها عن دين الله رب العالمين . وبهذه المزايا تميَّز الجيل الأول ، فاصطفاه الله وآواه وأيده ، ونصره في الدنيا ، ووعده بجنَّات الخلود يوم القيامة .
إنَّ القيام من هذه الكبوة المريرة لابد له من تلقِّي قلوب أبناء الأمة للقرآن الكريم وكأنه ينزل عليها الآن من السماء ، وهذا شعور غير عادي في زمن الغفلة والجفوة ، فبنور القرآن تنجلي الظلمات المدلهمة ، وتتبدد الأكدار التي أرهقت النفوس ، وتُداوَى الجراحات المؤلمة ، وتصحو العقول لمواجهة مصائد العولمة والعلمنة والحداثة ، فالصحوة هي السدَّ المنيع أمام زحف القوة المادية الرعناء بكل ما أُوتيت من إعلام خبيث ، وثقافة مبتورة ، وحضارة مشؤومة ، ومن نيِّةٍ مبيَّتةٍ لاقتحام حِمى الأمة وابتلاع مافيه من قيم ومآثر وآمال . الأمة في غفوة ، ولكن كما يقول شاعرنا :
هي غفوةُ العاني الجريحِ ، وردُّها |
أملٌ يجددُ نهجَهـا ويعيدُهـا |
الله مولاها ولا مولى لمَن |
بالشَّرِّ والمكرِ القبيحِ يريدُها |
هي أُمَّـةُ الإسلامِ آنَ أوانُهـا |
واشتدَّ في زمنِ الملاحــمِ عودُها |
قد أنهكتْهـا نازلاتٌ مُـرَّةٌ |
حاشا وكلا لن يطولَ هجودُها |
هبَّت ونقمتُها على مَن باعها |
إذْ غـرَّه ــ بئس الغرورُ ــ قعودُها |
لاأحد يستطيع أن ينكر ما آلت إليه الأمة من ضعف وخذلان وتبعية ، ومن أخذِها بزيف الحضارة المادية بفسقها وفجورها ، ومن تفرقها بين أحزاب فاشلة واهية لاتحمل إلا الأهواء والخطاب الأجوف ، ومن خور سيطر على مفاصل وجودها ، فاستُعبدت لطغاة الأرض، وقد غرَّها هذا الوهج القبيح الذي أعمى دخانه الأبصار والبصائر ، وآذتها مرارة القوارع ، وأنهكتها مطارق البؤس والتشريد والإحباط ، يقول شريف قاسم :
يا أُمَّـةً بطرُ الهوى أوهى بنيها ... |
... فانثنى عمَّا يُرامُ صعودُها |
إنَّ الهوى المذمومَ مقتلُ أُمَّةٍ |
حُفرتْ ــ بأيدي العايثين ــ لحودُها |
ولقد غوتْ ، إنَّ الغوايةَ منزلٌ |
فيه يُعشعشُ بؤسُها وسهودُها |
وتَكَتُّمُ الحسراتِ ألهبَ صدرَها |
وأذابَ طيبَ العيشِ فيه رقودُها |
ويعزُّ ــ أن يحيا المريضُ ــ لرفعةٍ |
رفَّتْ بأيدي الأقوياءِ بنودُها |
أَوَيَنْشُدُ العلياءَ مَن ذمَّ النُّهَى |
فجفاه في زمنِ الوفا عنقودُهـا |
أو لانَ للغيدِ اللواتي عِشْنَ في |
لهوٍ وفي دنيا يُغَرُّ عميدُها |
أو صـدَّ عن وحيِ السَّماءِ فما درى |
أنَّ المثاني للفلاحِ نضيدُها |
أو أبغضَ القيمَ الحفيَّةَ بالعلى |
واشٍ بأمته قلاهُ حميدُها |
كم ذاقت الويلاتِ منه ، وكم شكتْ |
وفِعالُه بئستْ ، وبئسَ جحودُها |
في صدرِها منه مرارةُ مبتلَى |
هيهات يشفي الطامعين حصيدُها |
للجائرين وقد تسعَّرَ ظلمُهم |
هممُ الرجالِ وبينهم صِنديدُها |
فإلى متى نغضي ونركعُ للعِدا |
ويغلُّ أيــدٍ في الوغى رعديدُها |
ومع كل ذلك مازالت الأمة ــ ولله الحمد ــ متفائلة بوعد الله لها ، وعد الله الذي أضاء لها الدرب في ظلمات المصائب ، وفضح لها أهل الشَّرِّ والمكر والخديعة حيثما كانوا وأنَّى وُجدوا . وما زال صوت الأذان يحيي رقدتها آناء الليل وأطراف النهار ، مقرِّبًـا لها آفاق عزتها ودروب كرامتها في غابات هذا العالم الحائر ! فلا بد من انتفاضة واعدة تغيِّر مجرى هذا التيَّار الجارف من البأساء والضَّرَّاء ، فالأمة غنيَّة بأعدادها وبشريعتها العالمية وبما تملك من أسباب النهوض في كل مجالات الحياة :
وإذا بها انتفضتْ سواعدُ أُمَّةٍ |
أغنى مطارفَها الحِسانَ عديدُها |
بالبيِّناتِ المنزلاتِ يُفَكُّ من |
وَهَنٍ ومن قيدٍ لها مصفودُها |
لايرهبُ الأعداءُ إلا أهلَها |
فَهُمُ الجحاجحُ في الحِمى وأُسودُها |
هي شِرعةُ العدلِ التي يرعى لهم |
أمنَ المعيشةِ في الحياةِ سديدُها |
لم ترضَ بالتَّفنيدِ يهزأُ أهلُه |
أو يرضَ بالتَّضليلِ جلَّ تليدُها |
فالأمَّة الثَّكلى وهاهي مزَّقتْ |
قرطاسَهم فبه دحـا تفنيدُها |
أجل ستنتفض الأمة بقرآنها العظيم ، وبرجالها الصناديد وشبابها الفرسان ، وبما يحفِّزهم للجهاد من روح ثائرة ، ومن همم عالية ، وعى شاعرنا هذا فقال :
ستدقُّ أيدينا صناعةَ غيِّهم |
دقًّـا ويُسحقُ في غدٍ جُلمودُها |
هي أمَّتي هبَّتْ ويحدوها الهدى |
فتكسَّرَتْ دون الخلاصِ قيودُها |
هذا مداها : رحمةٌ ومودةٌ |
ولديهمُ لم يَخفَ بعدُ رصيدُها |
وهناك لم تُطمسْ ضراوةُ بأسِها |
يوم اللقاءِ ، ولم يهنْ صِنديدُها |
أما شريعتُها فذاك رفيفُها |
جنَّاتُ عدْنٍ ماذوى موعودُها |
تبًّـا لهم أعداء أمتنا فكم |
مكروا ولكنْ ردَّهم توحيدُها |
يومَ اصطفاها البارئ الأعلى نأى |
ظلمُ البريَّةِ وانزوى ملدودُها |
لقد مكَّن العدو لشَّرِّه أن يستفحل على ثرى أمتنا بحنكته الخبيثة ، وبدرايتة لأحوال الناس في أوطاننا ، هذا العدو هو المغالط الذي يريد إضلالنا وإفسادنا وإضعافنا ، علما بأنه لا يعرف وجه الصواب ، ولن يجديه مايقوم به من تدمير لقيمنا لِما لها من حفظ إلهي :
ومغالطٌ فيها يبثُّ سمومَه |
فاستُلَّ من أضغانِه مغمودُها |
أمسى عدوَّ اللهِ وَهْوَ نُفايةٌ |
بئستْ رداءَتُها ، وبئس مزيدُها |
ماضرَّ دعوتَنا لئيمٌ حاقدٌ |
أو طغمةٌ تاهت ، وتاهَ جنودُها |
والقارئ لتفسير القرطبي رحمه الله في تفسيره لقول الله عزَّوجلَّ على لسان الفئة القليلة المجاهدة الصابرة : ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ...( ، والمتمعن في شروح هذه الآية لعلماء أهل السُّنَّة والجماعة لهذه الآية : ( فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا : لا طَاقَةَ لَنَا اليَوْمَ بِجَالُوتَ وجُنُودِهِ . قَالَ الَذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاقُوا اللَّهِ : كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ) 249 / البقرة . أقول يجد قارئ هذه الآية الكريمة وتفسيرها لعدد من مفسري كتاب الله ، أن هذه الآية تسلط الضوء على قضية مهمة من حياتنا ، هي قضية (الكم والكيف) ، وعلى العلاقة الجدلية بينهما ؛ فحين خرج طالوت لحرب جالوت خرجت معه الألوف المؤلفة من الجند (كم) فأراد أن يعرف نوعية الرجال الذين سيقاتل بهم ، فابتلاهم بالشرب من النهر ، فشرب منه السواد الأعظم منهم ، ولم ينجح في ذلك الامتحان سوى ثلاثمئة وبضعة عشر رجلاً ، كعدد أصحاب معركة بدر الكبرى رضي الله عنهم أجمعين ، وكان موقف هذه القلة القليلة من جيش جالوت الموقف الذي يتناسب مع (الكيف ) ، فقالوا : ( كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ ) ، هذه الفئة القليلة هي التي انتصرت ، لما نالت من تأييد الله ونصره ؛ لنصرها دينه واستحواذها على شروط النصر . من الناحية المادية والمعنوية ، من سلاح وإيمان وصبر وثبات ، قال تعالى : ( واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(إشارة إلى أن هذه الفئة كانت تتحلى بالصبر الضروري لمجالدة العدو . وفي هذا تحريض على القتال واستشعار للصبر، واقتداء بمن صدق ربه.لأن أعداء الأمة يُقاتلون جنود الله ودينه ، فليس لهم أن ينتصروا : ( بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) ، وعقَّب بعض أهل التفسير على ذلك قائلا : تلك هي الحقيقة الكامنة وراء تصرفهم الضال كله، وتصورهم المنحرف كله.. لقد زين الشيطان لهم مكرهم! ومكرهم هنا هو كفرهم.. هو انصرافهم عن الهدى وإصرارهم على التكذيب، وعلى الالتفاف حول أولئك الشركاء المزعومين. ولقد زين الشيطان لهم ذلك وصدهم عن سبيل الهدى. وكأن السياق يصورهم قد دعوا إلى الإيمان فالتفتوا يستمعون إلى الداعي، فجاء الشيطان فصدهم وأبعدهم وسار بهم في الطريق الآخر، وإذا فعلوا ذلك فقد أضلهم الله فما عادوا يهتدون أبداً: (وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) . أقول وهؤلاء الطغاة أعداء الله في كل مكان وفي كل زمان سيصيبهم الهوان وتلحقهم المذلة في الدنيا والآخرة: (لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ ) . ذاك مصير وياله من مصير وجزاء ، وأما الفئة القليلة المجاهدة الصابرة فمصيرها الفتح والتأييد في الدنيا ، وأما في الآخرة : ( مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ ) . وقال القائل : وما أبعد الفرق بين العذاب الأشق، وبين الظل الظليل والخير العميم في الجنة التي تجري من تحتها الأنهار.
هذا وهج الأشواق لعودة الأمة إلى مكانتها العالمية المنشودة بإذن الله تعالى ، وهذه هي أسباب اقتدارها إلى ميادين العزة والكرامة و حب الاستشهاد في سبيل الله ، ولله درك شاعرنا الكريم شريف قاسم حيث قلتَ :
ستعودُ بالإسلامِ أُمَّتُنا ولن |
يبقى مضلٌّ في الحياةِ يقودُها |
والشَّرُّ يوبقُ أهلَه مهما طغوا |
والدِّينُ للقيمِ الحِسانِ يُعيدُها |
فالنَّاسُ بالذِّكرِ المبينِ استأنسوا |
وبداره تحلو المنى ونَشيدُها |
أجل لقد آن أوانُ العودة إلى الله ، إلى دينه الحنيف القويم ، إلى ظلال الخيرية والأمن للإنسانية المعذبة الحائرة اليوم ، ولله در شاعرنا مرَّةً أخرى حيث يقول :
بشِّرْ طغاةَ الأرضِ أنَّ فصولَهم |
ولَّتْ ، وأُخمدَ في الورى أُخدودُها |
واللهُ يمهلُ إن طغى طاغٍ ولا |
يُعطَى لدنيا الظالمين خلودُها |