قراءة في ديوان الشاعر خلف دلف الحديثي

إبداع شاعر ومطلع قصيد

منجية بن صالح

ناقدة ومترجمة _تونس

 يكتبنا الشعر كلمات على أرض القصيدة لنكون صورة حياة يشيدها الخيال على أرض الواقع الأدبي، تنسجنا القوافي حركة ومشاعر تتفاعل مع الحدث، يسكننا الحزن والفرح ، تكسرنا المأساة و تجبر كسرنا لحظات سعادة نسرقها من بين الأنقاض وركام بشرية تعيش الصراع، تقتل الحياة و تنشر الموت، تعيش الترف و تتاجر بالجوع، تبيع الوطن و تشتري الخضوع .

 يكتبنا قلم ويمحونا ألم لتكون القصيدة محوا لهوية وإثباتا لمأساة إنسانية تعيش الضياع في زمن اللقاء ،و الجهل في زمن العلم ، متناقضات تلقي بنا في أعماق بحر صراع الإنسان مع نفسه ، وتناحر الشعوب في ما بينها ليكون الأدب تاريخ وجغرافيا إنسان ، وحركة مجتمع ومشاعر وخيال شاعر ولوحة فنان ضرجتها جراح أمة ، و بيت قصيد سكنه وجع ، وقافية لها أنين الثكلى وصرخة طفل .

 هو الشعر يَحملنا مأساة و يعكس أجمل ما فينا من مشاعر وأقبح ما فينا من أعمال….. تولد الكلمة من رحم الوجدان لتحمل فكرا وهوية وبذرة سكنتها حياة اختزلت موروث بشرية وصراعات تجذرت على الأرض ، تموت لتحيا مع أجيال راحت وأخرى قادمة ، ليكون الإنسان نفسه عبر التاريخ وكأنه لم يمت أو لم يحْيَ ، كلا الأمرين سيان ، نراه يُشرِّع الموت والحياة، ليكون فرعون زمانه وملك مكانه.

 المتصفح للشعر الحديث ، يجده مرآة صقيلة تعكس واقعا له طعم مرارة الحزن وملح دموع مشردي الفكر على أرض اللجوء ، وطعم خبز مغمس بلهفة جوع إنسان متعطش للحظة سكينة واستراحة مقاتل يبحث عنها حوله ليجدها على أرض قصيدة تسكنها حبيبة اتشحت بوشاح الهجر وسكنت منازل الفراق ، تحترف تجارة بيع الوعود في سوق الكلام ..

 يتواصل الشاعر مع محيطه فيعيش الضياع على أرض واقع تحاصرنا صراعاته ، فلا ندري هل ما نعيشه موجود فينا أم حولنا ؟ لتصبح الحرب القائمة بين مختلف الطوائف والحضارات هي نفسها التي يشقى بتحمل تبعاتها الإنسان كفرد في المجموعة الصغيرة والكبيرة والتي يحاول أن يتخلص منها و من مأساتها في كتاباته التي تكون مرآة عاكسة لتشظينا ومتاهات نقاشاتنا التي يفرغها الصراع من مضمونها الفكري والإنساني لتكون لغو كلام

وحوار طرشان .

 يحير الناقد في كثير من الأحيان أمام القصة والمقال والرسالة وديوان الشعر يجد نفسه أمام كم هائل من الأفكار والمشاعر والأحداث التي عاشتها الأمة وعاشها الشاعر وكتب عنها من خلال إحساسه بها ومعايشته لها... فهل ما نقله لنا حقيقة أم خيال ؟ وهل كل ما نعيش هو واقع أم صورة منه ؟ وهل قراءتنا للحدث سليمة أم أنها جزئية تفتقر للنظرة الموضوعية التي تعطيها أحقية الوجود الذي يطرح الجواب في ثنايا السؤال؟ أم أن مشاعرنا هي التي تطمس حقيقة الحدث ليكون الجزء كلا والكل جزءا وخيالا عديم الوجود .....المرء عدو ما يجهل لأن الحدث بحر مشاعر نغرق فيه ولا نستطيع رؤية الجداول التي غذت مياه البحر

 هكذا وجدت نفسي على شاطيء بحر قوافي الشاعر خلف دلف الحديثي والزاخر بوجع أمة ونزيف أرض هي وطن وحبيبة وأُُمٌ أنجبت ليشهر أولادها السلاح في وجهها ويكون الحب حزنا والبغضاء دمعا والدماء نزف جراح تدمي الأرض وتغور في تراب إنسان التاريخ الذي يذكرنا أن المغول لم يرحلوا عن أرضنا ، وأن فلسطين تغتصب يوميا ، والنكبة العربية نستمع لتفاصيلها كل صباح في نشرة الأخبار، لأقول أن سنين عُمر هذا الديوان لا يمكن تحديدها ولا التعرف عليها ، وكأن القصائد ضمخت بأنفاس من رحلوا ، وبأنفاس آخرين قدموا إلينا من أعماق التاريخ ، ومن مختلف أصقاع العالم ليستلم المعاصرون المشعل ويتركوه لمن بعدهم ، هي حلقة مفرغة نطوف حول محيطها ، تتواصل مع أخرى قبلها وثانية بعدها .

 يحتوي ديوان الشاعر خلف دلف الحديثي على العديد من القصائد التي تطرقت إلى مختلف مواضيع الساعة ، لتكون إنسانية في مضمونها ، زاخرة بصور شاعرية شاعرة ، تشكل نسيج القصيدة ومبناها لتجعل المتلقي يطوف بها وحولها وكأنه يعيش واقع الخيال وحلم الواقع ، تتمازج الصور مع حقيقة الحدث لتشكل عالم شاعر أحب وكره ، قاوم الاستبداد وأستسلم لأمر يحاصره ، ليلوذ ببيت القصيد يُحمِّله رفضه وعبء مأساة أطفال تُغتال ونساء تُرمل لتصرخ فيه الآه وتدوي في أرجاء الوطن لعلها تجد من ينجدها

يهدي ابن الفرات ديوانه (جراح بلا ساحل ) إلى قصيدته الكبرى ..... العراق وإلى وطن كبير نازف ليقول في مطلع قصيدة العتبة

يا قارئي من لهيب الدمّ أشعاري

ومن حنين ترابي صغْت أفكاري

 يتوجه الشاعر إلى القارئ ليُعرِّف بهوية شعره الذي ضمّخه لهيب دم وطن يُسفك فللشاعر حنين إلى إنسان الوجود الحامل للهوية الآدمية ولفكر سكن تراب أرضه تناقلته أجيال وتربت على قيم ومبادئ دافعت عنها واستشهدت من أجلها ، نهرب من مأساة الحاضر ليحتوينا الحنين إلى ماض كان أجمل ، لعلنا نجد فيه جواب أسئلة ملت الانتظار،

 يقول الشاعر في مطلع قصيدة مواويل فراتية والتي كتبها عندما كان حارسا للبوابة الشرقية في قرية دبّ الحردان ..... على ضفاف نهر الكارون في إيران . . . وقد اجتاح النفس والروح شوق عارم إلى مدينته وقريته وأهلها ورفاق الصبا .

عزفت لحن الهوى الصادي مواويلا

كما كتبت على الغيم المراسيلا

 لجرح الهوى عزف ومواويل تشدو حنين شاعر لديار الأحبة لا تعوزه حيلة التواصل ليكون الغيم صفحة شاعر يكتب عليها رسائله التي تتهادى في سماء الوطن ، تجد مستقرها بين أيدي من أشتاق للقياهم ، وفي قصيدة " صمود الرجال وليل المجزرة " والتي ألقيت في ذكرى العدوان الغاشم على الفالوجة الصامدة

قال الشاعر في مطلعها :

شعب يباد وأمة تتمزق

ودم بأرجاء السماء يتدفَّق

 يسكن الشاعر حب وطن يباد شعبه وألم وحسرة على أمة تتمزق لتتضرج السماء بدماء تتدفق لتصبح وكأنها مرآة عاكسة لما يحصل على الأٍرض من تناحر وإهدار لحياة الإنسان والشجر والحجر، هي مأساة شعب وأمة مزقتها الصراعات وأغار عليها المحتل لضعفها وهوانها على نفسها ، وجاء في مطلع قصيدة "رسالة إلى الخليفة الذي مات " كتبت هذه القصيدة بعد حرب تشرين التي كانت بين الكيان الصهيوني و العرب :

هاتي يديك وجذّي القلب والعَصبا

وأضرميهِ بنارِ البؤس إن غضبا

 يتفجر بركان الغضب الإنساني لتطال ناره القلب و الأعصاب فهي بؤس و حريق يشب في وجدان شاعر تشتعل قوافيه لتعبر عما يسكنه من وجع أمة اغتصبت حقوقها و أُهدرت دماء أبنائها .

و قال الشاعر لسوريا في مطلع قصيدة "المجد في ظل السيوف"

سر في طريقك للخلودِ

وأسق البلاد دم الوريدِ

 يُعبَّد طريق الخلود بدم الشعوب وبالتضحية في سبيل الوطن، لتكون الشهادة سيفا يقطع طغيان الأعداء ليرحل من على أرض العروبة العطشى لدماء زكية ترويها وتطهرها من دنس المعتدين تُسقى بدماء الشهادة حتى تنبت كرامة وتثمر شهامة وتطرح أصالة وعزة.....

و قال الشاعر في نفس السياق لسوريا الحبيبة في قصيدة بعنوان نامي على لهب الجراح :

نامي على لهب الجراحِ

و تخضبي بدمي الكفاحِ

مفارقات يحذق الشاعر التعامل معها ليكون النوم كفاح والإنسان مقاتل يسكنه لهيب الجرح ويخضبه دم الشهادة ،هي صورة العربي الذي يعيش في ظل احتلال على الأرض في زمن الاستسلام .

وفي قصيدة درب الريح :

أضعت يا ريح فوق الدرب عنواني

باب الجراح دمي والحزن ميداني

يعتري الإنسان حزن السنين ووجع دفين يسكنه ، يجد متنفسا على شطآن القوافي يبثها لواعج القلب وألم بشرية أضاعت طريقها، واجتثت الصراعات مبادئها وقيم إنسانية جبلت عليها ، ونقاء فطرة دنستها جراحنا التي أصبحت أبوابا يلج منها إلينا الأعداء، ليكون الحزن ميدانا يحتمي بنا، نسكنه و نحتفي به لنلازمه فيفصح عن نفسه في مطلع قصيدة ساعة حزن ليقول الشاعر:

أريد الغناء وصوتي عليلُ

وأبغي الوصول ودربي طويلُ

للحزن عبرات نختنق بها أمام مشاهد الوجع التي نعيشها لتعيش داخلنا ولا نستطيع التخلص منها وكأنها أصبحت جزءا من كلنا وفي قصيدة بريد الحزن يقول :

بريد حزن على عينيّ صورته

و في شفاهي تغني صحوة النغم

ويمتزج الوجع العراقي بحزن أمة أضاعت مقدساتها و قداسة كلماتها........... و تشارك المآذن بصمتها حزن الشاعر ليقول :

أغفت على وجع الجراح قبابها

و بكت مآذنها و ضج ترابها

 تتواصل المباني مع حزن أصحابها وهي التي تشيع الشهداء بالدعاء إلى مثواهم الآخير، يكبلها الألم ليحتويها الصمت ،و يسافر ألآذان خارج السمع و كأن الأذن أصابها صمم مزمن.

 ويقول الشاعر في مطلع قصيدة يا أمتي هانت عليك بلادنا

خوضي غمار الموت لا تتوجسي

وإلى الجهاد إلى الجهاد تحمسي

 في زمن الاستبداد والاستعباد تصبح مهمة الكلمة الدفاع عن الهوية و الوجود لتكون رصاصة في يد مقاتل ويكون القلم سيفا في يد مبارز، هي الرسالة التي تنادينا و تستصرخ الهمم لتوقظ العزيمة و تشد الأزر، في زمن التخاذل العربي يصبح الوطن لقمة سائغة و مطمعا لأعداء الأمة لنجد الشاعر يحمل كفن الكلمة على كتفه و يخوض به غمار معركة فكرية لا بد أن ينتصر فيها حتى و إن لم يهزم العدو.... وتبقى الكلمة راية مقاتل لها حياة الشهادة و انتصار الفدائي الذي يبث الحماس في النفس، و فكرا مقاوما يشد أزر الأمة و أبناء وطن تخلى عنهم الأهل و تركوهم يواجهون مصيرهم أمام آلة حرب طاحنة غادرة ،و يقول الشاعر في مطلع قصيدة خذيني إليك

خذيني إليك و ضميني بحنان

فأنا اغتراب الروح في البلدان

 تسكننا غربة زمان المكان ،ووجع يتفيأ ظلال الوطن ليصبح مقيما دائما ،و مكونا أساسيا وعنصرا ملازما لنا ،هو الإنسان هذا المغترب على أرض الوجع لا يستطيع التأقلم معها و لا تركها لنجده بين مطرقة الحزن و سندان المأساة، يعيش اغتراب الروح في زمن فقر المشاعر و سني العمر العجاف ،نبحث عن حنان الأهل وهو يسكننا، نغادره وهو فينا و كأننا نهرب منه لنحتمي بالفراغ، فكيف الخلاص؟ لا ندري سوى أننا نثقل كاهل الكلمة و القافية بمأساة البشرية ليكون بيت القصيد مأواها، و يقول الشاعر في قصيدة جاري الذي قتلني

من مرفأ الموت جاءت نار أشعاري

وصرخة البلد المغصوب أفكاري

 ما أصعب الغدر الذي يأتي من الأهل و العشيرة و أبناء الوطن الواحد و الذي لا يمكن لنا أن نجد له مبررا و لا يقدر العقل على استيعابه لنجد الشاعر يكتوي بناره فيرسلها شلالا حارقا يفجر الغضب ليُخلصه من أتونها على أرض قصيدة تكون بركانا و حمما حارقة لعلها تطهر الجراح النازفة و تعقمها ليقول الشاعر في نفس السياق وفي قصيدة سبحان باريك :

مرّت كحزن الدجى مشلولة الميد

في البال خاطرة تبكي على البلد

 يسكن الشاعر هم الوطن يصعب عليه التخلص منه ، يتخلل جل قصائده حس وطني له ملامح الحزن تارة و الحماس أخرى حتى يستطيع أن يتماسك و يكمل المشوار يثور ليهدأ، يسكنه الحزن ليعيش الاغتراب وهو بين أهله وعشيرته ليُمنى النفس و يتشبث بأمل قادم يساعده على النهوض والاستمرار بعزيمة من الصعب المحافظة عليها في زمن التردي ، يحتمي الشاعر بشمس بغداد ليقول

عيناك ميلاد الصباح الفستقي

وشذا تموسق بالندى والزنبق

 يسكننا الوطن ليكون الأم و الحبيبة والأرض التي خلقنا من ترابها يشدنا الحنين إليها ولا نستطيع فراقها وإن فارقناها تبقى حية في الذاكرة ، ينبض القلب بحبها لتكون قصيدة غزل لها مفاتن حسناء وجمال الأم الحنون، وشلال حب يحتضن وجعا يسكننا ليضمد الجراح النازفة

ويمسح دمعة يُتم نعيشه لتخلي الأهل وأبناء الوطن الواحد عن بعضهم البعض ....ويبقى تراب الوطن أمّا والتاريخ و الحضارة أبا يلم شتات العائلة و يحميها من غدر الزمن و تكالب الأعداء و يقول في قصيدة (وا رب صيحة حرة ) :

غضبى جراحي باللظى تتفجر

تهب الحروف مشاعرا تتسعر

 تضيق الدنيا بالشاعر ليتفجر غضبه و تكون القصيدة صيحة مقاتل يشهر سلاحه في وجه أعداء الفكر والإنسانية وغدر الإنسان بأخيه الإنسان لتكون الحروف مشاعرا تتسعر لتحرق أقبح ما فينا وتطهر الحياة من رجس الأعمال وبغي الإنسان على أخيه ، وفي نفس السياق يقول في قصيدة صرخة في وادي الهموم والتي يخاطب فيها الشاعر أباه :

جفلَتْ على ثغري اللحون تألما

وهفا القريض فسال نزفا من دما

 ويصرخ فينا الوجع لتكون القصيدة متنفسا فهو يكبرنا بقرون يثقل كاهلنا لترزح كلماتنا ومشاعرنا تحت وطأته ليصبح القريض نزفا، واللحون تألما تضرج القوافي دماء الشهادة ليكون الجرح بلا ساحل والذي يقول فيه الشاعر :

جرح بعمق الكون شل مفاصلي

وأثار فيَّ مواجعي ومقاتلي

 يصبح الشاعر أرضا والأرض جرحا بلا عنوان ولا شاطيء بل بحر من الوجع يرهق كاهل الشاعر الإنسانن ويقول في قصيدة حوارية الأنهار

بردي يضم هواه نهر العاصي

وإليه يروي قصة الإخلاص

 تجد الجغرافيا مكانها ومكانتها في ديوان الشاعر الذي يتحاور معها بكل تلقائية الحرف وحب العاشق لكل مكونات الوطن وعناصره البشرية الإجتماعية، والتاريخية الجغرافية ، ليروي لها قصة إخلاصه لوطن خلق من ترابه على ترابه وشرب من ماء فراته وتربى على رطب باسقاته وارتسمت في نظره طبيعته الخلابة بكل ما حوت من تاريخ وتراث وحضارة ويقول الشاعر في قصيدة قلبي يموت واقفا :.

أمشي ويسرقني طريق نهاري

ويتيه في فلك المدار مداري

 لا يخلوا الديوان من تأملات شاعر يترك مدار الفلك ليطوف حول مداره و يحتوي ما يجول فيه من مشاعر وأحاسيس تحمل أمله وألمه ليحتضن التاريخ والجغرافيا والكون بأكمله، فتسكنه الطبيعة وتحتوي أرض شاعر أحب فأخلص فهو الكون الذي تسكنه النجوم وتضيء عتمة ليله فللنهار طريق وللتيه فلك يسرح الخيال على وقع موسيقى القوافي ليكون الشاعر مسافرا والقصيد حادي يشدو أحلى موال عراقي لعيون دمشق ليقول

صوتي نداء دم الأحزان ينطلق

وبوحُ شعري بما في الروح يندفق

يضرج الألم قصائد الشاعر فحزنه على ما يحدث للعراق يتماهى مع آخر يسكنه، يراه في عيون دمشق الدامعة والمكابرة وهي التي تتعرض لظلم الإخوة قبل الغرباء، ليكون الموال العراقي بمثابة اليد التي تكفكف دمع الأخت التوأم ،و تنزف روح الشاعر ليقول في قصيدة دمي رويدك

رويدك يا دمي فالروح نزفُ

وقلبك مات في جنبيه حرفُ

 يصاحب الحزن الشاعر ليكون صورة وطن وحدث على أرض أستوطنها الظلم وسفك الدماء من الأهل قبل الغرباء ،يفور الدم العربي الأصيل أمام مشاهد العنف والقتل اليومي ليكبح جماح القلب شاعر أرهقه دمار الإنسان لأخيه الإنسان، ليقول في قصيدة رسالة من سجن أبي غريب :

حمل البريد رسالة

جاءت من السجن الرهيب

 يحكي لنا الشاعر مأساة شعب عاش أفضع الأحداث في سجن مسكَهُ الإحتلال بمباركة أهل الدار لتنزف الكلمات وجعها قبل الشاعر على أرض قصيدة ضرجها وجع ليغرق البشرية جور الإنسان على أخيه الإنسان والذي لم يبقَ من إنسانيته غير الشكل الخارجي، تسكنه مخالب الوحش لتكون في يد شيطان أخرس... وكانت القصيدة رسالة لعالم فقد العقل ودخل ضميره في غيبوبة لبقي الإنسان يعيش الوهم في غابات السراب ، يقول الشاعر :

ضاعت بغابات السراب رسائلي

وتجشمت عنت الرحيل قوافلي

 ترهقنا المأساة و تسيطر على الوجدان و المشاعر ليسكن الخطاب التيه و تكون الكلمات قوافل شاعر تجشمت عنت الرحيل وكأنها تبحث عن نفسها بنفسها أو عن مخرج من وهم يحاصرها وخيال يحدوها ليكون الخيال واقع وهم، والوهم صورة حياة، ويخرج الشاعر عن المألوف ليقول :

كوني معي لا تحفلي بجنوني

طبعي اللهيب وجذوتي بسكوني

 يعترف الشاعر أنه يعيش الجنون ليكون طبعه لهيب و جذوته السكون هم الشعراء يعيشون تقلبات المزاج على طريقتهم لتعتريهم حالات تبدو غريبة لكنها لا تخرج عن نطاق الطبع الإنساني وأمزجة النفس التي تكون نرجسية تارة ومتواضعة أخرى، يائسة وطموحة، مكابرة ومستسلمة، متمردة في جنونها، وساكنة متأملة على شاطيء بحر محبة غامرة لنفسها بنفسها ،عاشقة لوجودها مطمئنة لتطلعاتها لتكون خارج المألوف من الشاعر المعروف من آخر ....

 يقول الشاعر في قصيدة أضداد :

مشيت ضدي وضدي راح يتبعني

وكنت وحدي أداري الروح بالشجن

 يطوف الشاعر حوله ويعيش كل أحداث الوطن بإحساس مرهف يسكنه ألم ويشقيه وجع التراب من التراب لينتهي به المطاف إلى وقفة تأمل يواجه فيها نفسه ليكتشف أنه مقام أضداد تسكنه لتكون فيه، تتبع خطاه ،يشعر بالوحدة فيداري غربة الروح باللجوء إلى الشجن حتى يخفف من وطأة حزن الاغتراب، يحتوي خطواته التيه ليكون الشاهد المخلص على قلق شاعر ويقول :

مشيت في التيه تدمي خطوتي قدمي

مشلولة النزف تسقي للدروب دمي

 يحتوي شاعر القوافي التيه ليكون المسافر على أرض قصيد ملك إحساسه، وأدهش بيانه ليعيش لحظات وحدة و تأمل مع الحرف والكلمة التي ترافق سفر قوافيه وتحمل عنه وزر أحزانه وأرق نفسه من نفسه، ليقول في قصيدة شظايا

كأسي محطمة ثكلى شراييني

وغصة العمر بالغسلين تسقيني

 حالة التشظي التي يعيشها الشاعر تتجلى في هذا البيت والذي يتشظى فيه النسق على وقع ألم الشاعر كما كأسه المحطمة وشرايينه الثكلى التي تعيش حزنا يشتت وجودها ، تتعدد العناصر التي يتطرق إليها الشاعر في هذا البيت ليتنقل بين الكأس والشرايين وبين العمر وغصته ، والغسلين والسقيا. يتحمل البيت تشظي المشاعر والفكر ليعكس حال الشاعر ويحتوي عناصر شتاته ليكون الكأس حطاما ماديا والشرايين آخر معنويا والعمر تتقاسمه غصة تزيد من تشظيه سقيا الغسلين ....أبدع الشاعر في مطلع القصيدة ، رسم حالة نفسية يعيشها لتكتبه شعرا، وترسمه قصيدا على أرض ديوانه و يقول في مطلع قصيدة إلى عيون عسلية

عسلية العينين والثغر الصبي

يا سرّ حرف الشاعر المتطرب

 للغزل في ديوان الشاعر نصيب ، لنراه يغازل عسلية العينين والتي تكون مصدر إلهام وسر حرفه الطروب، الراقص على إيقاع القوافي وأيضا للمرأة المغربية نصيب ليقول في قصيدة بعنوان سماءات مغربية :

تراءت لنا حلوة المشرب

دلالا تغازل قلبي الصبي

 كما يفاخر الشاعر بحبه للوطن ويتغزل به في قصيدة بعنوان هوى بلادي ويقول :

حبي بلادي في الضلوع و في الدم

سيظل يصدح بالنشيد لها فمي

يسكننا الحب ليتجلى على خطابنا وملامحنا وكل أعمالنا لأننا خلقنا به لنحيا ونحيا لنحب و ننشر الحب من حولنا ليقول الشاعر في قصيدة هروب

وهربت من نفسي رجعت إزائي

وسكنت في قلمي فجف عطائي

 يصادق الشاعر نفسه ليهرب منها إليها وكأنه يبحث عن قلم يسكنه وعن حرف يكتبه لتهرب منه نفسه والكلمات ويجف عطاء يكتبه قافية... فهل جف منه حقا عطائه ؟ ويهرب منه الوطن ليقول في قصيدة البحث عن وطن :

الشعب تطحنه المحن

وبموته كم يفتتن

 يعيش الوطن محنا متتالية لا يعرف السكينة لنشعر وكأنه يضيع منا لنبحث عنه على أرض الجغرافيا،وفي زمان التاريخ هل ضاع منا حقا؟ أم نحن من ضاعت منا هويته ؟

ويقول الشاعر في قصيدة مسيح الجراح :

أنا من يعيش على الجراح بدنْهِ

ويقدُّ لون الأرجوان بفنِّهِ

يحمل الشاعر نبوءته في كلماته ليكون مسيح أدب يعيش حلم الواقع و حزن اللحظة المفارقة التي تسكننا لتترك بصمتها في الوجدان يعبر عنها بيان الشعر لتكون الجراح ساح حياة ، ولون أرجوان فن شاعر، احترف الرسم بريشة القلم و في قصيدة للسراب وجه آخر يقول الشاعر

قلبي أحس بباب قلبك يصلب

وعلى شفاهك كالمسيح يعذب

يعيش الشاعر حلما يحتويه السراب يراه ليلاحقه و يهرب منه ليراه ،هي الحياة تلاعبنا كأنثى الوهم في عالم الأحلام و يقول في قصيدة لحظة صمت

ونظرت منبهرا لها بتحير

سبحان من أعطى البها للجوهر

يعيش الشاعر جمال الصورة التي تأخذه إلى أعماق أنثى، يشف جوهرها لتكون الجمال و البهاء المبهر و المحير ،ليقول في قصيدة آخر بعنوان فصول الرواية

ويومِ في الطريق هنا إلتقينا

ومن وجع بما فينا إشتكينا

للوجع لقاء على قارعة الحب لتكون الشكوى ملهمة و العتاب صفح و الطريق شاهد على قصة حب بدأت عندما انتهت، لتكون آخر فصول رواية قبل بدء أخرى

ويقول الشاعر في قصيدة بعنوان كنت العراقي وهي مهداة للشهيد صدام حسين :

رأيت فيك شموخ الصقر والأسد

يا ابن الفراتين مختالا على الزرد

حب الوطن لا يتجزأُ ومشهد التضحية يستقر في وجدان كل أصيل عرف أن الحق لا يمكن أن يسطو عليه الباطل مهما كانت الآراء متضاربة، لأن الحقيقة واحدة و ما نراه باطلا فيها ما هو إلا قصور رؤية ،أو غياب تفاصيل جوهرية تجعل حكم الإنسان على الأشياء يحمل في ثناياه الكثير من النقص، فعدم اكتمال الرؤية لا يعني أن الحق باطل ،هكذا تتضارب الآراء في أشخاص يعتبرهم البعض أبطالا، والبعض الآخر عملاء، ليقول لنا الشاعر أن البطل يبقى شهيدا مهما قيل فيه لأن حقيقة الشيء واحدة و في نفس السياق يقول في قصيدة بعنوان رعاك الله يا بطل :

يميناً إنك البطلُ

وأنت الشامخ الجبلُ

يبقى لبطولة الشهيد صدام شموخ الجبال، و للأصالة عنوان في سماء عراق الفراتين فبعد استشهاده على أرض الكرامة العراقية لم تعرف شخصية أخرى شهامته و لا صموده ضد أعداء الأمة وفي قصيدة للشهيد صدام حسين وهي بعنوان " لكل ضيق مخرج" و التي رد بها الشاعر على بيت جاء فيه

لا تأسفن على غدرِ الزمان لطالما رقصت على جثثِ الأسودِ كِلاب

قال الشاعر :

صبح سيشرق والردى حطّابُ

ويزاح ليلٌ والزمان عبابُ

شعر خلف دلف الحديثي مشبع بمشاعر الحب التي تنثال في قصائده و تترقرق في وجدان المتلقي كمياه الفراتين، لتروي العطش الإنساني لأحاسيس نتوق إليها في زمن القحط و شقاء الفقر، و صراعات لا تنتهي، تسكن الشاعر لتكتبه المشاعر وتخطه كلمات على أرض القصيدة ، تشدوه نغما يتخلل القوافي لتكون قوافل سلام تخترق زمن الشاعر لتستقر بين أحضان وطن جريح ، تحمل رسالة عشق و محبة لأرض خلقنا منها لنعيش فوقها

في هذا البحث قمت بقراءة لمطلع القصيدة في ديوان الشاعر خلف دلف الحديثي الجزء الأول في محاولة مني إعطاء صورة أقرب ما تكون لحقيقة الشاعر الذي تناول شعره مختلف المواضيع الإنسانية عامة و التي تحدد العلاقة في المجتمع خاصة منها الصداقة والغدر و الرثاء كما أنه لم ينس تجار الكلمة

للقصيدة الوطنية والتي حَمَّلها الشاعر همّ الوطن، الحيز الأكبر في الديوان فكان التوأمان العراق وسوريا ، يقتسمان الحب و الوجع، وكأن الأول يواسي الثاني لأقول أن المشاعر الإنسانية واحدة لا يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان، لكن التعبير عنها هو الذي يختلف من شاعر لأخر ليترك كل منهما بصمته المميزة والتي تبوح للمتلقي بهاجس ومشاعر وتطلعات إنسان عاش لحظة زمن تطول أو تقصر حسب مشاعر الحزن أو السعادة المصاحبة لها لترسم نفسها على صفحة الأيام وتقول لعابري السبيل ولعاشقي الكلمة ولمحترفي الغوص في أعماق بحار الوجدان..... كان هنا شاعر إنسان عاشه الحزن وأشقاه الوجع فأحتضنه الحب وضمد جرحه

وكانت هنا قوافي خلف دلف الحديثي تروي لنا قصة وطن وشاعر له قوافل محبة سكنت قوافيه نسجت مشاعره فكانت شراعا لمركب نجاة يجوب الفراتين ...