نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ: قَانُونُ الصَّوْتِ
نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ:
تَوَالِي الْقَوَانِينِ وَتَرَابُطُهَا
د. محمد جمال صقر
تشتمل نظرية النصية العروضية إذن على تسعة قوانين متوالية مترابطة، ربما قال فيها بأَوَّلِيَّةِ قانون الصوت مَن احتجَّ مِنْ طلاب علم الشعر بسَبْق حدوث الصوت المفرد نفسه قياسا إلى مَوادِّ سائر القوانين، وبثَانَوِيَّة قانون المقطع مَن احتجَّ بتَرَكُّب المقطع نفسه من بعض الأصوات السابقة، وبثَالِثِيَّةِ قانون الكلمة مَن احتجَّ بتَرَكُّب الكلمة نفسها من بعض المقاطع السابقة، وبرَابِعِيَّةِ قانون التعبير مَن احتجَّ بتَرَكُّب التعبير نفسه من بعض الكلمات السابقة، وبخَامِسِيَّةِ قانون الجملة مَن احتجَّ بتَرَكُّب الجملة نفسها من بعض التعبيرات السابقة، وبسَادِسِيَّةِ قانون الفقرة مَن احتجَّ بتَرَكُّب الفقرة نفسها من بعض الجمل السابقة، وبسَابِعِيَّةِ قانون الفصل مَن احتجَّ بتَرَكُّب الفصل نفسه من بعض الفقر السابقة، وبثَامِنِيَّةِ قانون الطول مَن احتجَّ باكتمال الطول نفسه بَعْدَما يتَرَكَّب النص من الفصول السابقة، وبآخِرِيَّةِ قانون المجال مَن احتجَّ بتَرَكُّب المجال نفسه مِمَّا يَحْتَشِد من النصوص السابقة.
ولا ريب في أن القائل بذلك قد انتبه إلى طَرَفٍ من ترابط القوانين في أثناء ما احتجَّ به لتواليها، ولكنه غفل بتواليها المادي التاريخي، عن تواليها التفكيري الحيوي؛ فإنه إذا جاز قوله على حَرَجٍ في عمل طلاب الشعر الأوائل، لم يجز في عمل طلاب الشعر الأواخر، الذين استوعبوا من تراث الأوائل المُتَنامي بتراثهم، ما صار يُخْطِرُ لهم التعبيراتِ قبل الكلمات بَلْهَ المقاطعَ والأصواتَ، بل ربما أَخْطَرَ لهم الجملَ الكاملة -ولا سيما أن كثيرا من التعبيرات إذا اقْتُطِعت وحدَها وهُيِّئَت قليلا كانت جملا مقبولة- في خلال ما يستغرقهم من الفقر والفصول والأطوال والمجال، التي لا يستطيعون دونها حيلة ولا يهتدون سبيلا، ولا أدلَّ على ذلك من سَلْسَلَة الكلام عن هذه القوانين التسعة فيما سبق (قانون المجال، ...، قانون الصوت)، على عكس ما يقتضيه تواليها المادي التاريخي (قانون الصوت، ...، قانون المجال). وربما كان مِنْ عَفْو التوفيق التعبيرُ بتوالي هذه القوانين عن ترتيبها؛ إذ "التَّوَالي" كلمة من الأضداد، تدل على السَّبْق واللَّحاق كليهما والإقبال والإدبار، ومن حكمة طالب علم الشعر أن يُراعِيَ بذلك كلَّ قانون من هذه القوانين التسعة، مُتَقدِّمًا من خَلْفٍ إلى أمامٍ، ومُتَأَخِّرًا من أمامٍ إلى خَلْفٍ، حتى يقف على حقيقة عمل طالب الشعر!
وعلى رغم ما في توالي هذه القوانين التسعة من طلاقة الحركة التفكيرية الحيوية، تنضبط برباط واحد ذي طرفين: طرف يَشُدُّ كلَّ قانون إِلَى غيره حتى لا يستغني في وجوده عن وجوده، وطرف يَشُدُّهُ عَنْهُ حتى يَتَمَيَّز بوجوده عن وجوده- هو رباط هذه النظرية الواحدة (نظرية النصية العروضية)، التي تؤلف بين هذه القوانين كلها، على مبدأ واحد (طبيعة وجود القصيدة)، ينبغي أن ينطلق منه طالب علم الشعر، وأن يدور عليه.
نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ: وَاقِعُ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ
محمد جمال صقر
تسعى العلوم الطبيعية التي تَتَشَبَّهُ بها العلوم الإنسانية، إلى السيطرة على الظواهر الطبيعية، بإنجاز الأعمال الثلاثة الآتية:
1 وَصْف حُدوث الظواهر وَصْفًا كَافِيًا شَافِيًا.
2 تَفْسِير حُدوث الظواهر تَفْسِيرًا صَحِيحًا نَاجِحًا.
3 تَوَقُّع حُدوث الظواهر المَوْصُوفَةِ المُفَسَّرَةِ.
وقد وُفِّقَت العلوم الإنسانية في سبيل تشبهها بالعلوم الطبيعية، إلى إنجاز العمل الأول فقط، كما رأت يمنى طريف الخولي في "فلسفة العلم في القرن العشرين"؛ إذ قد عاقتها عن سائر الأعمال طائفتان من العوائق:
1 عَوائِقُ طَبيعةِ الظواهر الإنسانية.
2 عَوائِقُ طَبيعةِ عَلاقةِ الباحث عنها بها.
فمن الطائفة الأولى أن الظواهر الإنسانية مُعَقَّدة، مُتَعَدِّدة الجوانب الظاهرة والباطنة غير المتطابقة، مُتَحَرِّرة، سَرِيعَة التَّغَيُّر. ومن الطائفة الآخرة اتِّحاد الباحثِ هو والظواهرِ الإنسانية التي يَبْحثُ عنها، حتى لَيَكادُ يستحيل أن يخلو بحثه عنها من رأيه فيها وميله إليها.
وعلى رغم ذلك اجتهدت العلوم الإنسانية في إنجاز الأعمال الباقية ولا سيما العمل الثاني (تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا ناجحا)، حتى ظهرت فيها النظريات المختلفة التي تدل بظهورها على مبلغ هذا الاجتهاد، وباختلافها على مبلغ ذلك التَّعْوِيق!
إن ظهور النظرية هو علامة اكتمال التفسير الصحيح الناجح؛ فما هي إلا فَرْضٌ علمي يُؤَلِّفُ بين عدة قوانين، على مبدأ واحد يُنْطَلَقُ منه إلى الاستنباط، كما رأى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في "المعجم الفلسفي". وكل قانون من قوانينها إنما هو قاعدة مُلْزِمة تعبر عن طبيعةِ شيءٍ ما المثاليةِ، لِتَكونَ المعيارَ الذي ينبغي أن يلتزمه هذا الشيء لِيَكونَ.
ولقد وَلَّدْتُ نظرية النصية العروضية، من بين نظريات اللُّغويِّين النَّصِّيِّينَ ونظريات اللُّغويِّين العَروضيّين جميعا معا، لتعيش في كَنَف علم لغة النص الشعري، على القصائد الطبيعية الكاملة الواصلة (التي تَلَقّاها المتلقون بأية طريقة من طُرُق التَّلقِّي على أنها نصوص شعرية طبيعية كاملة)، لا الأبيات المُبْتَسَرة الناقصة الضالّة (التي لم يتلقَّها المتلقون على أنها كذلك)، وتَسْتَدِلَّ بخصائصها وعلاقاتها النصية العروضية على طبيعة وجودها، وبطبيعة وجودها على خصائصها وعلاقاتها النصية العروضية، تَحْديدًا وتَرْتيبًا وتَهْذيبًا؛ فقد تشاركت اللغة والعروض تشاركا كاملا مستمرا، في اختيار العناصر النصية العروضية كلها وإبدال بعضها من بعض وُصولًا إلى تَحْديد العنصر المناسب، وفي تقديم بعضها وتأخير بعضها وُصولًا إلى تَرْتيب الوضع المناسب، وفي إضافة بعضها وحذف بعضها وُصولًا إلى تَهْذيب المقدار المناسب.
وحرصتُ في كل قانون من قوانين هذه النظرية التسعة ("قانون المَجال"، و"قانون الطُّول"، و"قانون الفَصْل"، و"قانون الفِقْرة"، و"قانون الجُمْلة"، و"قانون التَّعْبير"، و"قانون الكَلِمة"، و"قانون المَقْطَع"، و"قانون الصَّوْت")- على أن يرتدي جسمَه اللغوي روحُه العَروضيُّ ويسعى به، تنبيها على طبيعة عمل طالب الشعر، التي ينبغي لطالب علم الشعر أن يراعيها.
نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ:
قَانُونُ الصَّوْتِ
من داخل المقاطع التي تتشارك في تكوينها الأصوات، يختص كل صوت بخصائصه النطقية وخصائصه الاستعمالية. وعلى رغم أوهام استواء هذه الخصائص في النظام المقطعي عند بعض العروضيين واللغويين، لا يهملها طالب الشعر، لا في أصوات كلمات القَوَافِي التي يبوح فيها بمشاعره، ولا في أصوات كلمات المَفَاتِيح التي يكتم فيها مشاعره -ولا يمتنع أن تكونها كلمات القوافي- ولا في أصوات كلمات الطَّوَايا التي لا ينتبه هو نفسه إلى ما تشتمل عليه من مشاعره؛ ومن ثم ينبغي لطالب علم الشعر ألا يهملها.
فمن خصائص الأصوات النطقية:
1 المَخْرَجُ (الشفة، أو الأسنان، أو اللثة...)، الذي يلتقي فيه اللسان وبعض أعضاء النطق.
2 والصِّفَةُ (الشدة، أو الرخاوة، والجهر أو الهمس، والتفخيم أو الترقيق...)، التي تَتَهَيَّأ فيها سائرُ أعضاء النطق على هيئات خاصة.
ولا ريب في أن الأصوات حين تجتمع في المقاطع، يؤثر بعضها في بعض مخرجا وصفة، فيقيمه أو يحرفه، ويقويه أو يضعفه. ولكن على حسب خصائص كل صوت في نفسه من تأثير غيره، تتدرج قوة إسماعه، في سُلَّمٍ سداسي الدرجات، من صوت عديم الإسماع، إلى صوت أحادي قوة الإسماع، فثنائي قوى الإسماع، فثلاثيها، فرباعيها، فخماسيها.
ومن خصائص الأصوات الاستعمالية:
1 الْمَادَّةُ (ما يشتمل عليه كثيرا أو قليلا أو نادرا، من مفردات المعجم)، التي يأنس إليها طالب الشعر، أو يستوحش منها.
2 الْإِيحَاءُ (ما يُخْطِره بالأذهان من حقول لغوية دلالية، وظواهر كونية طبيعية)، الذي يستلهم به طالب الشعر الأشياء، أو يحيل عليها.
وكلتا الخصائص النطقية والاستعمالية مترابطتان، تؤثر كل منهما في الأخرى، وتتأثر بها. أما أثر الخصائص النطقية في الخصائص الاستعمالية فواضح من حيث يكثر طالب الشعر الهادئ من استعمال الأصوات السهلة الرخوة المهموسة المرققة وما إليها، على حين يكثر طالب الشعر الثائر من استعمال الأصوات الصعبة الشديدة المجهورة المفخمة وما إليها.
وأما أثر الخصائص الاستعمالية في الخصائص النطقية فغامض من حيث يَتَوَسَّع طالب الشعر الهادئ في تَوْلِيدِ مَوَادِّ الأصوات السهلة الرخوة المهموسة المرققة وما إليها، بعضها من بعض- على حين يَتَوَسَّع طالب الشعر الثائر في تَوْلِيدِ مَوَادِّ الأصوات الصعبة الشديدة المجهورة المفخمة وما إليها، بعضها من بعض.
أما في كَلِمات القَوَافِي فيَلْتَزِم طالب الشعر من الأصوات ما يساعده على إقرار أبياته على قرارات صحيحة متلائمة؛ ومن ثم تختلف في تقديره الأصوات، وتتصنف على أصناف مختلفة الاعتبارات. وأما في كَلِمَات المَفَاتِيح فيَتَمَسَّك طالب الشعر من الأصوات بكل ما يَنْشُر له ذِكْرَ ما يُحِبُّ من الطَّيِّبات، أو يَفْضَح له ذِكْرَ ما يكره من الخَبَائِث، ولا تكاد كلمات القوافي تخلو من كلمات المفاتيح، وعندئذ تُنادي القراراتُ الجواباتِ. وأما في كَلِمَات الطَّوَايَا فيَتَفَلَّت من طالب الشعر من الأصوات ما يوافق ذلك أو يخالفه.
على حركة أصوات المقاطع صَعْبةً أو سَهْلةً وقَويَّةً أو ضَعيفةً وظاهرةً أو خَفِيَّةً، ينبسطُ سلطانُ قانونِ الصوت، ويراعيه وُجودًا وعَدَمًا طالبُ علم الشعر، لأن طالب الشعر يخضع له عَفْوًا وقَصْدًا.
نَظَرِيَّةُ النَّصِّيَّةِ الْعَرُوضِيَّةِ:
وَاقِعُ الْعُلُومِ الْإِنْسَانِيَّةِ
تسعى العلوم الطبيعية التي تَتَشَبَّهُ بها العلوم الإنسانية، إلى السيطرة على الظواهر الطبيعية، بإنجاز الأعمال الثلاثة الآتية:
1 وَصْف حُدوث الظواهر وَصْفًا كَافِيًا شَافِيًا.
2 تَفْسِير حُدوث الظواهر تَفْسِيرًا صَحِيحًا نَاجِحًا.
3 تَوَقُّع حُدوث الظواهر المَوْصُوفَةِ المُفَسَّرَةِ.
وقد وُفِّقَت العلوم الإنسانية في سبيل تشبهها بالعلوم الطبيعية، إلى إنجاز العمل الأول فقط، كما رأت يمنى طريف الخولي في "فلسفة العلم في القرن العشرين"؛ إذ قد عاقتها عن سائر الأعمال طائفتان من العوائق:
1 عَوائِقُ طَبيعةِ الظواهر الإنسانية.
2 عَوائِقُ طَبيعةِ عَلاقةِ الباحث عنها بها.
فمن الطائفة الأولى أن الظواهر الإنسانية مُعَقَّدة، مُتَعَدِّدة الجوانب الظاهرة والباطنة غير المتطابقة، مُتَحَرِّرة، سَرِيعَة التَّغَيُّر. ومن الطائفة الآخرة اتِّحاد الباحثِ هو والظواهرِ الإنسانية التي يَبْحثُ عنها، حتى لَيَكادُ يستحيل أن يخلو بحثه عنها من رأيه فيها وميله إليها.
وعلى رغم ذلك اجتهدت العلوم الإنسانية في إنجاز الأعمال الباقية ولا سيما العمل الثاني (تفسير الظواهر تفسيرا صحيحا ناجحا)، حتى ظهرت فيها النظريات المختلفة التي تدل بظهورها على مبلغ هذا الاجتهاد، وباختلافها على مبلغ ذلك التَّعْوِيق!
إن ظهور النظرية هو علامة اكتمال التفسير الصحيح الناجح؛ فما هي إلا فَرْضٌ علمي يُؤَلِّفُ بين عدة قوانين، على مبدأ واحد يُنْطَلَقُ منه إلى الاستنباط، كما رأى مجمع اللغة العربية بالقاهرة في "المعجم الفلسفي". وكل قانون من قوانينها إنما هو قاعدة مُلْزِمة تعبر عن طبيعةِ شيءٍ ما المثاليةِ، لِتَكونَ المعيارَ الذي ينبغي أن يلتزمه هذا الشيء لِيَكونَ.
ولقد وَلَّدْتُ نظرية النصية العروضية، من بين نظريات اللُّغويِّين النَّصِّيِّينَ ونظريات اللُّغويِّين العَروضيّين جميعا معا، لتعيش في كَنَف علم لغة النص الشعري، على القصائد الطبيعية الكاملة الواصلة (التي تَلَقّاها المتلقون بأية طريقة من طُرُق التَّلقِّي على أنها نصوص شعرية طبيعية كاملة)، لا الأبيات المُبْتَسَرة الناقصة الضالّة (التي لم يتلقَّها المتلقون على أنها كذلك)، وتَسْتَدِلَّ بخصائصها وعلاقاتها النصية العروضية على طبيعة وجودها، وبطبيعة وجودها على خصائصها وعلاقاتها النصية العروضية، تَحْديدًا وتَرْتيبًا وتَهْذيبًا؛ فقد تشاركت اللغة والعروض تشاركا كاملا مستمرا، في اختيار العناصر النصية العروضية كلها وإبدال بعضها من بعض وُصولًا إلى تَحْديد العنصر المناسب، وفي تقديم بعضها وتأخير بعضها وُصولًا إلى تَرْتيب الوضع المناسب، وفي إضافة بعضها وحذف بعضها وُصولًا إلى تَهْذيب المقدار المناسب.
وحرصتُ في كل قانون من قوانين هذه النظرية التسعة ("قانون المَجال"، و"قانون الطُّول"، و"قانون الفَصْل"، و"قانون الفِقْرة"، و"قانون الجُمْلة"، و"قانون التَّعْبير"، و"قانون الكَلِمة"، و"قانون المَقْطَع"، و"قانون الصَّوْت")- على أن يرتدي جسمَه اللغوي روحُه العَروضيُّ ويسعى به، تنبيها على طبيعة عمل طالب الشعر، التي ينبغي لطالب علم الشعر أن يراعيها.