نظرات فلسفية للشاعر الشيخ حفيظ الدوسري
نظرات فلسفية
للشاعر الشيخ حفيظ الدوسري
حفيظ بن عجب الدوسري
محمود عبد الصمد زكريا
بسم الله الرحمن الرحيم
لعلها مراودة لا تحتاج لمراوغة ..
تلك هي مراودة الخطاب الإبداعي للشاعر الشيخ / حفيظ الدوسري ..
حيث المداخل إليها كائنة في بيانها وبنيانها ..
ومن ثم فإن كل خطاب لهذا المبدع سواء كان شعراً أو نثراً يمهد لمتلقيه درب الدخول إليه من مدخله الصحيح الذي يتيح له التجول في مسالكه وشعابه كما يضئ له دهاليزه - إن وجدت - ..
ورغم ما يبدو من بساطة وسلاسة هذا الخطاب إلا أن مداخله متعددة ومتنوعة فهناك من هذا الخطاب ما يقترح مدخله من الأفق المعرفي ..
وهناك ما يقترح الأفق الأيدلوجي أو العقائدي ( الإسلامي ) ..
وما يقترح المدخل الفلسفي ..
وما يميل أحيانا للمدخل الإسقاطي – بعيداً عن المناخ الأسطوري والرمزية المغرقة – ..
وما يقترح الأفق الرومانسي العفيف ..
أوالثوري التمردي ..
أو الجهادي الإسلامي ..
إلى غير ذلك من المداخل بحسب تنوع التجربة مع كل منتج إبداعي لهذا الشاعر وهيامه المتجدد والمتنوع في دروب ووديان اللغة والحياة .." في كل وادٍ يهيمون "..
كما لاحظنا ولمسنا ذلك عبر ثراء وتنوع مشروعه الشعري بدايةً من :
شوارد البيان - أنا وليلى - الأقصى والشرف - سرطان العصر - نجوم السماء -لغتنا والقتلة - أغاريد العذاب ..
ومرورا ب : سدرة الحرف - قحط المحبة - أحلام مجنون - أين ذاك العهد منا - أنا أنا - ليل الغربة - مياه الرهبة - فارس واجه المستحيل ..
وانتهاء إلى : قيثارة الضجر - مكاشفات سياسية ..
ثم هذا المنتج المخصوص ( نظرات فلسفية ) ..
*******
ولعل أوسع هذه المداخل هو التناص مع لغة القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلَّم ؛ والمأثور من قول السلف الصالح عليهم رضوان الله ..
فليس أيسر على المتمسك بسنة الرسول الكريم من مقاربة مثل هذه التوقيعة :
حام حول الحمى من أراد الوقوع فيه .........( ص 6 )
من الحديث الشريف : " الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور متشابهات ؛ فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ؛ ومن واقع الشبهات فهو كراعٍ يحوم حول الحمى ؛ يوشك أن يواقعه ؛ ألا إن لكل ملك حمى ؛ ألا إن حمى الله محارمه ؛ الا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ؛ ألا وهي القلب " ..
أو مقاربة هذه التوقيعة :
العددُ والكثرةُ لا تصنع النصر بلا يقين ........( ص 5 )
أو :
المعارك لا تعترف بالعدد......................( ص 20 )
من قوله صلي الله عليه وسلم : توشك أن تتكالب عليكم الأمم كما تتكالب الأكلة على قصعتها ؛ قيل : أمن قلة نحن يا رسول الله ؟ .. قال : بل كثير ؛ ولكنها كثرة كغثاء السيل "
أو من قول الله عز وجل : " كم من فئة قليلةٍ غلبت فئةً كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين "
أو مقاربة هذه التوقيعة :
المؤمن لا يعبد الله على حرف .............( ص 11 )
من قوله عز وجل : " ومن الناس من يعبد الله على حرفٍ ؛ إنما تعبدون من دون الله أوثاناً وتخلقون إفكاً " ..
أو مقاربة هذه التوقيعة :
الأمانة حملها عظيم ؛ وثقيل ..................( ص 10 )
من قوله عز وجل : " إنَّا عرضنا الأمانة علي السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها ؛ واشفقن منها ؛وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا " ..
غير أن ما لا شك فيه أن كل هذه المداخل إنما تعتمد ( اللغة ) بما هي الأداة والهدف على صعيدٍ واحد لإثبات الأثر المرجو من الخطاب بمعني أن مجموعة المداخل هي من منتجات اللغة – وأعني هنا تحديداً خصوصية لغة المبدع وليس اللغة على الإطلاق – ..
فإذا كنا مع الشعر مثلاً؛ فليس ثمة أدني إهمال للشعرية ينحدر بها إلي النثرية ؛ وحيث كان من الواضح دائماً أننا بين يدي شعرية الشاعر / حفيظ الدوسري بين مدخلين :
الأول : هو المدخل المركزي للغة ..
والثاني : هو مجموعة المداخل الفرعية التي أشرنا إلى بعضها ؛ بيد أنها جميعها بالنسبة لشاعرنا أبعد ما تكون عن الغموض والإغراق في التصوير الملغز والتهويم والرمزية والتعقيد الدلالي ...
وهو ابتعاد ربما تقتضيه النثرية بقدر ما تراوده الشعرية ...
لذا فإننا قُدّام الخطاب الإبداعي النثري لهذا الشاعر فإنما نحن بين يدي خطاب يرقى بنثريته إلى الإفادة من خصائص الشعر والتي تأتي الحكمة على رأسها عربياً وإسلامياً :
" ومن الشعر لحكمة " ..
وتجنح جنوحاً ملموساً لتدرك – قدر الإستطاعة – جوامع الكلم ؛ محققة تلك المقولة الشهيرة للنفري " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " ..
وهو ما وضح لنا جليَّاً خلال هذا المنتج الفلسفي المبدع ( نظرات فلسفية ) لشاعرنا الشيخ / حفيظ الدوسري ..
*******
وقد يكون ضرورياً أن ننبه إلى أنه إذا كانت مواجهة الخطاب الشعري المعاصر تحتاج لنوع من المغامرة النقدية التي تتجاوز التقاليد المحفوظة للنقد والشعر سواءً بسواء ...
إلا أن الأمر هنا يبدو معكوساً حيث التقاليد هنا لا تعني الخصائص الفنية ؛ بل هي القيم والمعارف ومكارم الأخلاق والآداب والسلوك ؛ وهي واقعياً في مجتمعنا المعاصر لم تعد محفوظة بل لقد تم نسيانها وهجرها وبتنا في مسيس الحاجة والعوز لتذكيرنا بها وإعادتها إلينا أو إعادتنا إليها ؛ ولكن الأمر مع ( نظرات فلسفية ) – هذا المنتج الإبداعي المخصوص - لا يتوقف عند هذا الحد بل يتجاوزه إلى مستويات من الإبتكار وإعادة الصياغة والبلورة من خلال عصارة فكر وتجارب ومعاناة حياة شاعر عربي مسلم حقيقي هو الشاعر / حفيظ الدوسري .. لذا فهي تمتح من هذا المعين .. يقول الشاعر في مقدمة كتابه :
" هذه نظرات فكري في سن الأربعين ؛ أقدمها لك يا قارئ الكتاب على طبق الحب والمودة والإخلاص لعلها تفيدك في متاهات الحياة ؛ وتضارب الأفكار والقناعات .. إنها نظرات تمتح من معين الكتاب والسنة في خضم بحر الشبهات والشهوات والأقلام التي ملأت المكتبات بالمطولات من الغث والسمين .. لست أزكيها ولكني مقتنع بها ؛ لذا أثبتها على شكل نظرات وقناعات تحتمل الصواب والخطأ .. قادني إليها التأمل والتفكر والتجربة والبحث عن الصواب واستخارة العزيز الحكيم .. لا أريد بها سوى رضى الله والجنة ؛ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .." ..
وذلك لأنها لا تدعو المتلقي – كما يدعوه الشعر الحداثي مثلاً – إلى التخلي عن محفوظاته بقدر ما توقظ فيه هذه المحفوظات مؤكدةً له أنها لم تؤدي مهمتها بكفاءة في حياته وأن عليه أن يعيد اكتشاف أسرارها ويجلي معانيها وان عليه ألا ينفلت نهائياً عن الغيرية الصالحة والمثل العليا لينتهي إلى الذاتية المنغلقة والإنقياد إلى النفس الأمارة بكل أمراضها الأنانية ..
وتلك لعمري نقطة فارقة ؛ بل شديدة المفارقة بين نوعين من المبدعين الآن أولهما هؤلاء المبدعين الحقيقيين المحافظين وثانيهما هؤلاء الذين يلهثون وراء تجارب لا تمت لهم بقرابة أو نسب ولا تعبر عن واقعهم من قريب أو بعيد بدعاوي الحداثة والتجريب – التغريب – متواكلين على ما ينقلونه من بيئات غربية غريبة حتي بتنا نعيش على المنتج الثقافي والمعرفي والفكري والإبداعي لغيرنا في حين أن خزانئننا في كل هذه المجالات هي أغني كثيراً..
يقول صاحب النظرات :
النسب لا يرفع النسيب.
الحياة ليست لنا وحدنا.
القدرة على التغيير لا تحدث ما لم نتحرك.
عالم الصمت يفضحه الكلام.
غرائب الأقوال لا تعبر عن واقع الحال.
طائفة الحق وعصبته قليلة دائماً.
المجد لا ينتظر الكسالى .................( ص 5 )
أقولُ ؛ وكم يبدو قولي هذا صادقاً إنها كلمات كالدر المنثور وقد أحسن شاعرنا صنعاً أن جعلها تنتظم بين دفتي هذا السفر الدستوري الرائع ..
*******
إن هذه الإطلالة على هذا السفر القيم لا تسعى إلى قراءة محدودة لاقتناص مجموعة من الإجراءت التكوينية للجملة الحكمية بقدر ما تحاول الإشارة إلى شمولية الحياة النابضة به أملاً في شحذ الهمم لإنجاز دراسة فكرية توازي المنتج ذاته ربما تصل درجة الإستغراق ..
نعم .. ربما تقع هذه الإطلالة على من يؤثرون الغوص في الأعماق ولا يستهويهم الرقود على الراكد من المياه حيث هي دعوة لمراجعة فحص المرجعيات ونفض الأتربة والغبار عن الكنوز الدفينة ... إنني أتسائل حيث يحق لي أن أتسائل الآن :
أيُّ (ديوجين )؟ ..
وأيُّ مصباح معرفة لهذا الديوجين ؟...
إن شاعرنا ؛ الشيخ / حفيظ الدوسري بهذا السفر الدستوري إنما راح ينكش في المدفأة ِ الفحمَ فأجج لهب المعرفة ليلفح وجوه المستدفئين نوراً وناراً .. حيث :
التحفيز يصنع الأعاجيب.
عندما نستسلم فإننا نموت.
إذا استحكمت حلقات العقدة ؛ حلت .
الثبات علامة النجاة.
صادق اللهجة لا يتلعثم.
كنوز السيرة النبوية ( العطرة ) لا تنتهي.
الفلاح في منهج الصلاح .......................( ص 18؛ 19 )
إنها كتابة تعود بنا إلى ثبات جذع النسق وتبلور شموخه في وجه الدعوات الخبيثة لخلخلة هذا النسق بدعاوي التجاوز وتحطيم العرف ؛ كتابة تلملم المكونات وتصهرها في تنور الحكمة لتصنع منها جوامع موانع تشكل دساتير حياة وقناديل عيش ؛ لقد كانت وما زالت وستظل الحِكمُ والأمثال والأقوال المأثورة تشكل دساتير حياة الشعوب ومشاعل إضاءة دروبها خلال مراحلها الزمنية المختلفة ؛ ولقد بعدنا كثيراً عن إمكانية إنتاج هذه الدساتير وإشعال هذه المشاعل ..وإذا كانت هذه الجمل المركزة ؛ بل شديدة التركيز هي نتاج خبرة الشاعر الحياتية يفرزها في سن الأربعين ؛ سن النضج الفكري والإتزان العاطفي والرزانة .. " حتى إذا بلغ أربعين سنةً ؛ قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك " .. وهي السن التي بعث رسول الله صلي الله عليه وسلم عندها .. فذلك أن العالم ؛ والعالم العربي الإسلامي علي وجه الخصوص اصبح تجربته ومشروعه الفني دون قيود ؛ وأن رؤية هذا الشاعر ؛ العالِم الفقية هي تجربته المفتوحة لاستقبال الواقع والوقائع في حسيتها وروحانيتها ؛ في جملتها وتفصيلها ؛ في سطوحها وأعماقها ؛ ومن ثم إدخالها البناء الصياغي بمواصفاته ؛ وهنا لا تكون اللغة وسيلة محاكاة الواقع ؛ بل وسيلة إنتاجه إنتاجاً هو المأمول .. حيث :
ذوق الناس لا يتطابق.
الشفاء ليس في وصفة واحدة.
صوارف العقول هي الصوارف.
حماسة الكتاب في بداية الكتاب ونهايته.
حاجتنا إلي غذاء الروح أولى من حاجتنا إلى غذاء البدن.
لا تحكم الناس من زاوية واحدة.
توازن الميزان في كفتيه.
حوائج الناس لا تقضى بالكلام.
الإنصاف من أعظم صفات المؤمنين..................( ص 56 ؛ 57 )
تصطحبنا إذن هذه الدفقات المركزة أو الإضاءات المتوقدة إلى حالة مطلقة من قيود الزمان والمكان وهي أبعد عن المحاكاة – كما قد يظن بها – حيث توجه طاقتها لإنتاج واقع بديل للواقع المتردي وفق شروط ومعايير تحددها ... حيث :
المرتد على نفسه جنى.
الشاكي لا ينفعه العويل.
ليس في ديننا إفراط ولا تفريط.
نقد الذات يزكي صاحبه.
التخصص يحترمه من يحترم نفسه.
ما أثقل كاهل الأمة مثل الطغاة والغزاة والجباة والغلاة.
ليس بين الحق والباطل منزلة .
الإبتسامة بلسم يشفي.
غليظ القلب تنفر منه النفوس..................( ص 21 )
إنها كتابة لا تغيّب الحقائق لأن الحق أحق أن يتبع ؛ ولا تدعي – كما يدعي أصحاب التغريب – بفاعلية الغياب ولا بالفوضى الخلاقة حيث لا تخلق الفوضى سوى المزيد من الفوضى والإنفلات ؛ كما أنها لا تؤيد الحياد ولا تؤهله لإنتاج الإستقرار لكنها تجاهد لإثبات منهج ..
من كل ذلك ندرك أن فعل الكتابة بهذه النظرات الفلسفية وثيق الصلة بفعل التجريب والممارسة وتراكم الخبرات ؛ كما أن صاحبها من منطلق الواثق المتصالح وتواضع العلماء يسوقها إلى القارئ مؤكداً أنها تحتمل الصواب والخطأ وهو لا يفرضها ؛ وذلك لأن :
سلامة القصد لا تحقق المقصود.
حامل الفقه ليس من الفقهاء دائماً .............( ص 20 )
إنها كتابة اتصال لا انقطاع حيث كل تحول يحاور ما قبله رفضاً أو قبولاً ؛ ثم يضيف إليه أو يستدرك عليه بمعني أن كل مرحلة إنما هي تخريج لما قبلها من هنا فهي كتابة جدلية تقبل الأخذ والعطاء ؛ وفي هذا الإطار فهي تلتمس العذر للصمت أحياناً باعتبار أن الوقائع الطارئة قد تكون متجاوزة للمتكلم أو تكون وقائعاً تمردت على المباحات وقاربت المحرمات
*********
لقد انفتحت مداخل كتابة مبدعنا / حفيظ الدوسري – لمن تابع تجربته بوعي - دائماً وبشكل عام على اللوذ بالسطلة العليا المقدسة ؛ بالفرد الصمد جل وعلا ؛ والتسلح بكتابه عز وجل
( القرآن ) ؛ والدخول إلى حديقة نبيه ؛ آخر الأنبياء والرسل ( محمد ) صلى الله عليه وسلم والتوشح بسير السلف الصالح رضوان الله عليهم ...
وكل ذلك للإحتماء بهذه الحصانة من الواقع الحضوري بوقائعه الثقافية المغلوطة خصوصاً في ( الشعر ) – باعتبار مبدعنا شاعراً في المقام الأول - الشعر الذي بدا أنه تحرك في دوائر النفاق والكذب ..
نعم .. لقد تبدت مجموعة الدلائل اللغوية دائماً عند مبدعنا موغلة في التناص من ناحية والإسقاط من ناحية أخري والرمز أحياناً من ناحية ثالثة ..
وذلك راجع إلى تماس الذات المبدعة مع هذه السلطة العليا المقدسة وتفانيها في سبيل تحقيق هذه السلطة لتشمل الواقع الأرضي وتواجه وقائعه المرفوضة التي بدا في كثير من الأحيان في واقعنا العربي خصوصاً أنها اعتمدت- بالمغالطة – حججها المستمدة من هذه السلطة ومن ثم شكلت منها حاجزاً وهمياً لإعاقة تحولات الواقع مادياً وروحياً ؛ لذلك فقد اقتضت خلافة الله في الأرض على خلفائه من أمثال مبدعنا أن يجدوا ويجتهدوا ويجاهدوا بشتى أنواع الجهاد ؛ ومن ذلك أن يحفظوا ويذودوا بألسنتهم ؛ بكتاباتهم ؛ ولذا فقد بادر شيخنا وشاعرنا بطباعة هذا السفر لا يرجو منه سوى وجه الله وجنته ..
ولعل كل مبادرات مبدعنا شعراً ونثراً ؛ ومنها هذا السفر القيم ( نظرات فلسفية ) جاءت كردة فعل على صعيدٍ واحدٍ بعد تفاعل وانفعال ؛ لكن رد الفعل جاء لغوياً خالصاً ؛ ولا نعني باللغوية هنا قانونها الموروث الذي أكسبها قداستها فحسب ؛ إنما نعني أيضاً كينونتها الإبداعية التي تعطي نفسها الحق الشرعي ؛ أو لنقل تمارس حقها الشرعي الممنوح لها بفاعلية تصادم الرؤية مع المنطق الخارجي الدنيوي المتردي العام ؛ لذا فقد تعددت خلال ملموسات مبدعنا فيما سبق قبل هذا السفر الأبنية الثنائية : خيبة وأمل – عجز وصمود – إقدام وإحجام – صعود وهبوط - .. الخ ..
لكننا لم نجد أبداً لديه ما وجدناه عند من هم ليسوا على شاكلته من خطوط هروبية ولا مسالك نفاقية ولا أدني استعداد لاستلاب الهوية وتسكينها منطقة العولمة أو إخضاعها لهيمنتها الضاربة ...
كما لم نجد هذه الثنائيات طي هذا السفر( نظرات فلسفية ) تحديداً ..
وكأنه جاء تتويجاً لكل مشروع الشاعر الشيخ / حفيظ الدوسري السابق ...
لعله إذن نقطة انطلاق جديدة لكتابة مغايرة هي منتهي الخبرة ودليل اتساع الرؤية ..
*********
ولكني أخشى .. نعم اخشى ..!!!!!!!!!!!
وأخشى ما أخشاه أن يكون هذا السفر بمثابة ستار يسدله مبدعنا على تجربة ٍ إبداعية هي من أغني وأصدق التجارب الفنية ؛ ولشد ما نحن في حاجة ٍ للمزيد والمزيد من عطائها المتجدد ؛ حيث ثتور بداخلي الهواجس ..
– ولا أخفي عليك أخي وصديقي / حفيط – فمثل هذه الكتابة التى تطوي بداخلها عصارة الفكر والخبرة عادة ما تضع حدودا فواصل وتسلم صاحبها لفترة من الصمت والسكون ؛ بعد أن أفرغت كل ما بداخلة ..
هكذا تنبئني معرفتي بسيكيلوجية الكتابة المبدعة ..
وهكذا أرى من واجبي كأخ وصديق في الله والفن والوطن أن أضئ هذه المنطقة ؛ حيث ينبئني حدسي اللعين كأنه وسواس رجيم إن الوصول إلى ذروة ما يستدعي بالضرورة فترة لالتقاط النفس ؛ وفسحة لتأمل جديد ؛ ومحاولة لمد مناطق أكثر بكارة في أرض التجربة واكتشاف زوايا جديدة للنظر ؛ وكل ذلك مما أرجو أن يكون أخي وصديقي قد مر به فعلاً قبل الإقدام على طباعة هذه النظرات الفلسفية ؛ وتم له تجاوزه لتفادي مساحة الصمت ..
لا شك أنه قد كان من اللافت دائما عند مبدعنا / حفيظ الدوسري محاولته الدؤوب عن اقتناع
لا يحيد تحديد علاقته بالمعني حتى لا يتشعب ويتيه في مجاهل التأويل ..
لذا فقد كانت أعماله دائماً كمصابيح الفلاسفة التي لا تضئ لنفسها ؛ بل تضئ للآخرين ؛ نعم ولا بأس على صاحب الرسالة أن تكون علاقته بالعناصر التوصيلية قبل عنايته بالطاقات التخيلية لأنه يريد لقارئه أن يرى ؛ لا أن يُخيل له ..
هذه العناية التي اعتمدها المبدع دائماً أثناء إنتاجه لابد أن يعتمدها المتلقى أيضاً أثناء تلقيه وذلك مفتاح سر وصول مبدعنا بسلاسة لمتلقيه وهو سر نجاحه المتواصل ..
وإن كان ثمة من يرى – وربما أميل إليهم أحياناً – أن تحجيم أو تحديد علاقة المبدع بالمعنى تجئ على حساب الشعرية مصداقاٌ لقول الجاحظ :
" المعاني مطروحة في الطريق يعرفها العربي والعجمي ؛ والحضري والبدوي ؛وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير " ..
لكن هذه اللغة استحالت عند مبدعنا خصوصاً طي هذا السفر الأخير ( نظرات فلسفية ) إلى الإشارة التي تغني عن الإسهاب في العبارة مصداقاً لقول النفري :
" كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " ..
آه .. كم آمل الآن أن يفاجئنا مبدعنا بديوان جديد من الشعر أو كتاب ما ينتمي إلى أي جنس أدبي : رواية – مسرحية – مجموعة أناشيد – ربما كتابة ما للطفل - ... الخ ..
مع وافر تقديري وشكري العميق للمبدع وعطائه الثري
والله ولي التوفيق