الموريسكي

رواية خيبة الأمل والتعلم

بديعة الطاهري

كلية الآداب والعلوم الإنسانية

اكادير /المغرب

رواية الموريسكي لحسن أوريد علامة هامة في مسيرة الرواية المغربية.رواية تأسر القارئ وتشده لسيولة مسارها السردي ، وعمق قضيتها . و تكشف عن تمكن صاحبها من صنعة الرواية ، وتأكد أن الرواية ليست مجرد حكي ، أو تتابع أحداث ، فمثل هذه العملية (تابع الأحداث ) تشكل المشترك بين متون متنوعة في ثقافات وعصور مختلفة ، وتستدعي ،بناء على ذلك ، اصطلاحا آخر غير اصطلاح الرواية .

 يدعو بارث تتابع الأحداث ونقلها محكيا(récit) .والمحكي في عرفه كوني .وليس هو المعادل للرواية، وإنما مجرد جزء يشكل هويتها .

 الموريسكي ، رواية تعيد الاعتبارإلى الشكل الروائي ،وتجلي فهما عميقا لكنهه ، خاصة بعد ما ساد من اعتقاد- نظرا للقراءة السريعة والعاطفية لباختين أحيانا - من أن الرواية لا شكل لها ، ولا قواعد تسيجها، ومن أنها شكل يأبى الانغلاق ، ولا يخضع للنموذج والمثال القار .

 صحيح أن المبدع عندما يكتب يفكر في عمله ، ليكون جديدا مرتبطا في آلياته ، وتقنياته بما يفرضه الواقع من تغيير يستدعي استثمار آليات تستجيب لمتطلباته، لكننا نعتقد أن داخل الأعمال الروائية عناصر مشتركة بالرغم من اختلاف الأزمنة ، والمجتمعات التي بلورتها. ثوابت عديدة تأتي بإضافات ومغايرات ، ولكنها تؤمن استمرار النفس الروائي ، وتجعل الإبداع بعيدا عن نسخ الواقع ، وحكيه بطريقة ساذجة أحيانا.

 ثوابت الرواية ،كشكل ،كثيرة .منها القدرة على تحويل ما هو واقعي إلى لحظة إبداعية خلاقة، تنقل في معظم الأحيان تدهور الفرد وتنزله في المجتمع. وتعمل على تشخيص مختلف الأوعية وصراعاتها.هكذا كانت الرواية منذ بدايتها الأولى و مغايراتها المختلفة ، ومع الروايات الكبيرة التي يستشهد بها التاريخ الأدبي، ويشهد بعبقريتها رغم مرور قرون وأزمنة عديدة عليها .روايات ظلت محتفظة بقيمتها الفنية والجمالية ، لا لأنها كانت حكيا حماسيا ، ولا لأنها أطلقت العنان للتجريب والهندسة السردية ، بل لأنها تمكنت من أن تصوغ فنيا تدهور الفرد وتنزله . فالرواية لم تستطع ، أن تتخلص من التعبير عن تدهور الفرد. ، حتى عندما كان لها إصرار على التجريب مع الرواية الجديدة في فرنسا خاصة .إذ عكست هذه الأخيرة ، رغم تمردها على المضمون وانتصارها للشكل، مضمونا اجتماعيا أفرزه المجتمع الجديد في القرن العشرين وهو تشيء الإنسان، وغربته .

 ويتخذ التدهور بناء على ذلك ، أشكالا مختلفة ومتنوعة عبر العصور، حاولت الرواية خلال تاريخها الطويل أن تعبرعنه، باحثة عن أشكال جديدة قادرة على تحويله إلى لحظة إبداعية متخيلة ، تتناسب والواقع الذي تنخرط فيه .

 ورواية الموريسكي هي من هذه النصوص التي تعكس تدهور الفرد بل الأفراد ، وتعبر عن خيبة أمل لم تكن نتيجة حب فاشل، أو صدمة عاطفية قد تتنوع فضاءتها ،وتتوزع ما بين العائلة والوسط و الأصدقاء ، وإنما هي خيبة أمل في المجتمع ، تنعكس من خلال التصدع الذي يعيشه البطل ، ومن خلال الهوة التي تفصله عن الواقع الذي يحمل معه مجموعة من القيم التي لا تتناسب مع قيمه .

 تكون قيم البطل أحيانا روحية . لأن البطل إنسان تقي مؤمن وفقيه ورع، ولكن قيمه لا تكون سجينة الروح ورهينتها ، بل تتلون بالمجتمع وقيمه. فالبطل رغم أنه لا ينسى وضعه الاعتباري -حتى في أشد اللحظات حلكة في دار الغربة ، وفي حضرة حسناء جميلة ، وجد نفسه أمام إغراءاتها، وإغراءات رغبات نفسه البشرية وما تحمله من تطاول على قيود العقيدة - فإنه لا ينغلق في خطاب الحلال والحرام ، وإنما يجعل من تطلعاته أمرا يعانق همومه وأصدقاءه المورسيكين بصفة خاصة، وشاهدا متألما على هموم الآخرين المغاربة المستضعفين. يحكي عن الفوضى، والسرقة ، وعن الأزمات الغذائية، وغلاء المعيش، وشطط السلطان المملوك بجنون العظمة على حساب الكل .

 ورغم أن الرواية تتمحور حول شخصية رئيسة، فإن كل ما في النص من شخصيات تنتمي إلى فضاءات مختلفة، تشترك في هذه البطولة مادامت الرواية لا تركز على خيبة أمل شخصية واحدة .إنها خيبة أمل كبرى نتيجة سقوط الأندلس، وتعذيب أبناء المسلمين ، وانهيار الدولة المغربية في العهد السعدي، وبروز الصراع والشقاق، وتنامي مظاهر الضعف التي جعلت المغرب قبلة للأطماع الغربية .

 تبتدئ الرواية وتتوسط وتنتهي بالتدهور، وفي مسيرتها تلك نعيش حكاية تلك النفس التي تسير في العالم لتتعلم معرفة نفسها وتكتشف جوهرها.وهي بذلك رواية الخيبة والتعلم كما يقول جورج لوكاتش. الخيبة،لأن البطل وبالرغم مما أتاحه له وضعه الاجتماعي من استثناءات تجعله يعيش لحظات تجلي الخيبة ، وتصيره مندفعا أهوجا ، فإنه لا يتخلص من خيبته العميقة . فكل ما في الواقع يذكره بها ، موت أخته بطريقة بشعة ومجهولة ، وموت أبيه حزنا وكمدا على أخته ، وانعزال أمه في دير بسبب تمزق روحي ،و حياته المزدوجة في الأندلس والمتخفية التي جعلته يعيش آلاما وأحزانا كبيرة .خيبة تنامت وتضاعفت عندما فر إلى المغرب ، فوجد نفسه في خضم فضاء لا يستقيم خارج الصراع والمكائد ، والخبث والظلم. فضاء تؤثثه السلطة وأصحابها ، وهموم الناس المقهورين في بلد كان حلما لأن يكون البديل والأمل لاسترجاع ما ضاع . يتلاشى الحلم ويتبخر ، ويكبر الظلم الذي تؤثثه الخيانة والمكائد المختلفة : بما فيها صراع السلطان بكل الطرق من أجل الحفاظ على السلطة ،صراع الأمراء من أجل اقتسام الإرث وما نتج عن ذلك من سقوط المدن المغربية في براثين المعمر، ومحنة الموريسكيين في المغرب الذين أصيبوا بدورهم بخيبة الأمل .

 والرواية هي رواية التعلم لأن البطل لم ينغمس بشكل كلي في الواقع الجديد ولم يقطع صلته به ، بل أقام علاقات من أجل فهم الذات أولا، وفهم العالم من حوله ثانيا .فهو بذلك يقع موقعا وسطا ،بين الاندفاع الأهوج الذي كان بإمكان وضعه الاعتباري أن يخوله له ،وهوما يعبر عنه في غير ما موقع من الرواية ، والقطيعة مع العالم الذي تجعله يسكن كهفه الرومانسي ،وهو ما كان يخوله له وضعه كفقيه أيضا .

 لقد اختار البطل موقع الوسط .وكان الشاهد غير المحايد ، يمدنا بوجهات نظره التي لم تكن رهينة الحاضر، وإنما كانت تشتشرف المستقبل بعين المجرب والمحنك الملم بخبايا السلطة ودهاليزها .تأتي الرواية لتسلط الضوء على قضية سكت عنها التاريخ ، هي قضية المورسكيين الذين وجدو ا أنفسهم في وضع إشكالي . فلاهم إسبان رغم ما قدموه من تنازلات،ولاهم مسلمون رغم طموحهم الذي كانوا يحملونه معهم أملا في تخليصهم من وضعهم ذلك .هم أشخاص إشكاليون لأنهم لم يتمكنوا من وضع أقدامهم في موطن متين .

 إن للرواية على ما نعتقد فضل السبق إلى إثارة موضوع حساس خذله التاريخ ، والمحافل الدولية قديما وحديثا، ولكنها مع ذلك ،وربما لكي تؤمن لنفسها نفسا روائيا ،لا تتعمق في وصف محاكم التفتيش والتعذيب الذي خضع له العرب في إسبانيا. تنأى الرواية بنفسها عن أن تكون مجرد وثيقة أو محكي ، وتدافع عن روائيتها ،لأن ما يهم ليس هو التذكير بحدث ماض قد لا يجدي أمر استعادته في ظل الوضع العربي، سيادة وشعبا .إن المهم منه هو اتخاذه لحظة روائية تتيح التفكير في قضايا مختلفة ، ومتعددة مازالت تملك راهنيتها .قضيا تضيء التاريخ بقلم روائي ونظرة كاتب محنك في تجربته السياسية والفكرية .

المراجع المعتمدة

حسن اوريد : الموريسكي . ترجمة عبدا لكريم الجويطي . دار أبي رقراق للطباعة والنشر 2011

-Mikhail Bakhtine : Esthétique et théorie du roman. Paris, Gallimard, collection Bibliothèque des idées », 1978.

-Roland Barthes : "Introduction à l'analyse structurale des récits" .Communications N°8 1966

- Goldmann Lucien :., Pour une sociologie du roman .Paris. Gallimard, 1964

-Alain Robbe-Grillet : Pour un nouveau roman .Editions Minuit 1963

-Georg Lukács: La Théorie du roman. Denoël, 1968 ; Gallimard, 1989

- Susan Rubin Suleiman : Le roman à thèse, Edition PUF 1983