الفساد الثقافي.. وتجارة الاستيراد والتصدير!
رُؤى ثقافيّة
26
الفساد الثقافي.. وتجارة الاستيراد والتصدير!
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
قال وهو متكئٌ على أريكته: «القصيدة العموديَّة (التقليديَّة) لم تعد تعبِّر عن نبض الشارع!»
قلتُ: أيّ «عموديَّة؟»
قال: ...أ.. أ.. أ.. قصيدتنا الموروثة على شكل عمودين!
قلتُ: الأخ ناقد؟
قال: نعم!
قلت: ما تخصُّصك؟
قال: أنا متخصِّص في الأدب الفرنسي!
قلتُ: ونِعمَ التخصُّص! لكن، كيف تسمح لنفسك بالخوض في الأدب العربي، ونقد الأدب العربي، وأنت لا تفقه فيهما؟!
قال: كيف لا أفقه فيهما؟ أنا عربي.. أنا...!
قلتُ: معنى هذا أنك لا تحترم التخصُّص. حدِّثني عن الأدب الفرنسي، أو ترجم لي عنه، أهلًا وسهلًا، أمّا في الأدب العربي، فواضح أنك جاهل بأبجدياتٍ معروفةٍ منذ ألف عام.
قال: كيف؟ أنا أكاديميّ، بل رئيس قسم في كلية الآداب، وكتبتُ عن الشِّعر العربي كُتُبًا؟ وخدمتُ الأدب العربي، و...
قلتُ: وتلك هي الطامَّة الكبرى. وقد قرأتُ بعض كُتبك، ومقالاتك، وهرطقاتك. لِمَ تترك تخصُّصَك؟ إذن لماذا لم تتخصَّص أساسًا في الأدب العربي؟ أو تفيدنا من خلال تخصُّصكَ نفسه؟ أم أن الأدب العربي «وكالة من غير بوَّاب»؟! هل تقبل منِّي أنا أن أخوض في الأدب الفرنسي، أو الإنجليزي، أو الروسي؟
(غضب الأخ وقام).
طبعًا، كما أن هناك فسادًا سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا في الوطن العربي، فالفساد الثقافي اليوم أكبر، وأفظع، وأنكى وأمرّ. لقد صارت الثقافة العربيَّة ميدان متاجرة ومجال إعلام. وما صاحبنا إلَّا نموذج واحد. فأنا أعرف أيضًا، وليتني لم أعرف، بروفيسورًا آخر في علم الاجتماع، ومع ذلك فاشتغاله في الشِّعر الحديث، والقِصَّة، والرواية، والترجمة في هذه الفنون. وهو يُلقَّب بالناقد الكبير، مع أنه لا يكاد يُحسن كتابة جملة عربيَّة سليمة، لغةً ونحوًا! لماذا؟ لأن صاحبنا وَجَدَ السوق التجاري رائجة فيه هذه السِّلعة. ويكفي أنه عربيّ، وأنه مثقَّف عامّ، وربما يهوى الأدب، أو بالأصح يهوى مردودَ الأدب، فاتَّجه إليه. مع أن العرب قديمًا تحدَّثوا عن حِرفة الأدب غير المربحة. بيد أنها في زماننا، وفي عالمنا العربي الفوضوي، صارت أكثر ربحًا- إعلاميَّا على الأقل- من العِلْم والتخصُّص.
ويزيد الطِّين بلَّة أن يُمسك هؤلاء بتلابيب الثقافة العربيَّة، في كثيرٍ من مفاصلها. وهذا الفساد المعرفي قد لا يُتصوَّر أن ينسجم في شخصيَّةٍ واحدة من دون فسادٍ فكريٍّ وأخلاقيٍّ كذلك. لأن مثل هذا الذي غادر تخصُّصه، وسمح لنفسه بأن يهرف بما لا يعرف- كأيِّ عامِّيّ- وأن يسوِّق ذلك على الناس على أنه إنتاج أكاديمي، ويُصدر الكتب، والموسوعات، و«الأنطولوجيَّات»- كما يسمِّيها: Ontologies، وإن كانت لا تعدو انتقاءات «مزاجيَّة» بائسة- ويتصدَّر المشهد النقدي، وقد يتوصَّل من خلال علاقاته الشخصيَّة إلى أن يُصبح سفير الأدب العربي إلى الآخَر، وواجهة الأُمَّة العربيَّة إلى الأُمم الأخرى، هو لم يفعل ذلك إلَّا تكسُّبًا؛ و«ما يكسب به، سليعب به». وستراه لجهله، وعِيِّه، ولعجزه عن تمييز الغثِّ من السمين، ثم لمآربه الشخصيَّة، يشتغل على تلميع بيادقه التي توصله إلى الفوز، من الكبار، أو الأصدقاء، ولاسيما الإعلاميِّين، وزملاء التيَّار والتوجُّه. فهو- حتى إنْ وَسِعَتْه المعرفةُ لإدارك أن هؤلاء لا يمثِّلون تَمَيُّزًا يستحقّ الذِّكر، فضلًا عن التصدير- لا يعنيه ذلك مطلقًا. ليس ذلك فحسب، بل هو أيضًا سيُحارب من يكشفه، أو يُزعجه في حِرفته المنحرفة تلك، وسيبذل ما يستطيع لإقصائه، إنْ كان شاعرًا، أو كاتبًا، أو ناقدًا، ليُصدِّر هو إلى العالم سِلَعَه الفاسدةَ، أو المنتهية الصلاحيَّة. وأنت حين تَزُور بلدًا أوربيًّا، أو أمريكيًّا، أو حتى آسيويًّا، ستجد تلك الأسماء لبعض السِّلَع الأدبيَّة الاستهلاكيَّة الفاسدة لدينا قد سبقتك إلى هناك، من خلال تُجَّار التصدير والاستيراد هؤلاء. وستُلفيها نماذجَ مخجلة، لك ولبلدك؛ فلا وزن لها، لا على المستوى الأدبي، ولا على المستوى الفكري والإنساني. وسيصدمك السؤال: أليس لديكم غير هذه الأسماء؟ لماذا أسماؤكم هي هي منذ خمسين سنة؟ أين الأجيال الجديدة؟ وأين التميُّز الإنسانيّ، والمعرفيّ، والتجديديّ؟ إنما هذه بضاعتنا رُدَّت إلينا! تُرى ما خصائص الشِّعر العربي المائزة؟ ما خصائص الرواية العربيَّة المائزة؟ لا شيء! لأن وكالاتنا للتصدير هي وكالاتنا للاستيراد. ويقوم عليها أمثال صاحبنا المتخصِّص في الأدب الفرنسي، العارف بـ«عمود الشِّعر العربي»! وهو بطبيعة الحال، لا يعرف شيئًا حتى عن تاريخ الأدب العربي العامّ. ولو قلتَ له إن أباتمام أو أبا نواس أو المتنبي ليسوا بشعراء عموديِّين، لجُنَّ، أو لظنَّ بك أنت لَوْثَةً من جُنون! فهو إنما يردِّد المصطلحات هكذا ترديد العوامّ. على أن هذا المصطلح ما وُجِد أصلًا إلَّا لتمييز أعراف الشِّعر العربي وَفق تقاليده الجاهليَّة عن أسلوب أبي تمام، ومن لحقه من الشعراء؛ وليس مصطلحًا متعلِّقًا بشكل القصيدة، أو بكونها موزونةً مقفاة. [مَن شاء التفصيل فليرجع إلى كتاب (أبي علي المرزوقي XE "أبو علي المرزوقي" ، -421هـ= 1030م) بعنوان: «شرح ديوان الحماسة لأبي تمّام XE "أبو تمّام" »، حيث تحدَّث عن معايير ما يُسمَّى «عمود الشِّعر العربي». وهناك عشرات الكتب حول هذا]. والشاهد أن صاحبنا المسكين، فوق كونه لا يفهم ما يفوه به، إنما يستخدم المصطلح للتزهيد في الشِّعر العربي الأصيل، وتنقُّص الشعراء العرب، الذين ما زالوا ينتمون إلى شِعرهم. ولذلك تراه يُردفه بنعتٍ آخر، هو: «التقليدي». ليُقيم هذا في موازاة «الحداثوي»، المستورد. في حين أن معظم حداثتنا هي التقليد العُبودي المعاصر، في حقيقة الأمر، ولكن للآخَر. والأخطر من هذا، مقدار الاستخفاف بالحقل الأدبي، العربي تحديدًا، والمتاجرة بآدابنا الوطنيَّة، بلا رقيب، ولا حسيب، ولا حياء!
ومن جانب آخر، فإن ثقافتنا العربيَّة، عمومًا، لا تبدو ثقافة عند التدقيق، بما تعنيه الثقافة من ثراءٍ وتنوُّعٍ، بمقدار ما هي عشائر، وجماعات، وطوائف، ممَّن يُسمَّون مثقفين. وهي عشائر أيديولوجيَّة، في الغالب، لا معرفيَّة، ولا أدبيَّة، ولا نقديَّة، حتى على المستوى الأكاديمي. أو قُل: هي أشبه بالأحزاب. ويا ليتها أحزاب كالأحزاب الحضاريَّة، تقوم على أهداف ومعايير موضوعيَّة، لكنها أحزاب يمكن أن تسمِّيها: «أحزاب الكَنَب»! فمن تجمعهم «كَنَبَة» واحدة، من زمالةٍ، أو صداقةٍ، أو مصلحةٍ، صاروا «حزب كَنَبَةٍ ما». يكتب بعضهم عن بعض، ويؤلِّف أحدهم في مناقب الآخر، ويُصدرون «الأنطولوجيَّات» الوطنيَّة، التي يختارونها بأنفسهم ولأنفسهم. فلقد بات بإمكان «شُلَّة» من روَّاد الاستراحات التاريخيَّة المعاصرة أن يُقرِّروا ذات ليلة ليلاء أن يُصدروا مختاراتٍ أدبيَّةً وطنيَّةً في بلد عربي، ثم «يختارونهم»، أي يختارون أنفسهم بأنفسهم. فلا يبقى إلَّا أن يبحثوا عن المموِّل، والناشر (التاجر). فيتقدَّمون إلى العالم، منفوشي الريش، باسم الوطن، عبر عنوان كبير: «معالم الأدب العربي الحديث في بلاد عربستان»! وربما ابتزُّوا المؤسَّسات الإعلاميَّة الرسميَّة، وميزانيَّات وزارات الثقافة، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلًا. وبذا يترجمون أعمالهم على أنها واجهتنا المشرقة على الغرب، لكي يعرفنا مَن لم يعرفنا بعد على حقيقتنا! وسوف تنطلي الكذبة مع التكرار والزمن- في تقدير هؤلاء الصبية- حينما يسوِّقون أنفسهم أمام العالم على أنهم يمثِّلون أوطانهم. وهم في الواقع لا يمثِّلون سوى أنفسهم وحماقاتهم، وقد خلا لهم الجوّ، فصفروا، وباضوا، ونقَّروا ما شاؤوا أن ينقِّروا. وهم بذاك صورة، طبق الأصل، عن الأنظمة العربيَّة، في استبدادها، واختطافها البلدان العربيَّة، وتسجيلها بأسمائها، ومصادرة أي حقٍّ أو مطالبة به. ولهذا، وإذا تعلَّق الأمر بالشِّعر العربي، فستجد (حزب الكَنَبَة الشِّعريَّة الحديثة المتطرفة)، من أنصاف المتعلِّمين، ومن غير المتخصِّصين أصلًا في الأدب العربي، لا لغة، ولا ذوقًا، ولا موهبة، ولا أصالة، لن يكفيهم إقحامُ النثر في عالم الشِّعر، بل لا بُدَّ من إقصاء الشِّعر العربي، لتقديم متردِّيات النثر ونطيحاته، بوصفها الخيار الفريد، والأخير للشِّعر العربيّ، وغاية ما توصَّلت إليه العبقريَّة الشعريَّة العربيَّة في سنيّ القحط والانحطاط الحضاري المعاصر. (وعلى المتضرِّر اللجوء إلى الهباء)!-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «الفساد الثقافي.. وتجارة الاستيراد والتصدير!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12153، الثلاثاء 9 أكتوبر 2012م، ص26].