مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل 1948 ـ1967

بروفسور سليمان جبران

مدخل لدراسة الشعر الفلسطيني في إسرائيل

1948 ـ1967

(المقالة الثالثة)

بروفسور سليمان جبران

مقاومة أم معارضة أم ماذا؟

من المسائل الخلافية أيضًا تعريف هذا الشعر الذي كتبه شعراء اليسار خاصة في فترة البحث. في هذه المسألة امتدّ الجدل واحتدّ، بحيث عكس بعض الخلافات والاختلافات التي كانت، فيما يبدو، بين الأدباء والنقّاد العرب في البلاد العربية، وتضمّن بعض الهجوم الشخصي والتجريح أيضًا. في البداية، حتى أواسط الستينات على الأقل، تجاهل النقد الأدبي في البلاد العربية ما كتبه الأدباء والشعراء الفلسطينيون في إسرائيل، تمشيًا مع "السياسة" التي تجاهلت أصلاً الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم تحت حكم إسرائيل بعد 48. يذكر الناشر في "ديوان الوطن المحتل": "أن إذاعة فلسطين، التي تأسّست في دمشق عام 1964، كانت أوّل جهاز عربي إطلاقا نقل هذا النتاج الشعري الخصب إلى أسماع الملايين، رغم أنه من الثابت الآن  أن بعض أجهزة الإعلام  العربية كانت على علم بهذا الإنتاج منذ زمن أسبق، إلا أنها إمّا كانت تتجاهل نشره وإذاعته لجهل ذاتيّ قائم فيها، أو تتستّر عليه عمدًا، في نطاق إغفالها الكلّي لجوهر المأساة، وجسمها الكبير". (الخطيب 1968، ص 5؛ وانظر أيضًا: محمود السمرة:دواوين شعر من الأرض المحتلة، مجلة "الأديب" ، نوفمبر، 1969ص. 12؛ مصطفى 1978، ص. 191). أما بعد حزيران 1967 فانقلب موقف الأدباء والنقاد العرب من النقيض إلى النقيض؛ إما "تعويضًا" عن التجاهل السابق، أو انبهارًا بهذا الشعر المختلف كثيرًا، في مضامينه أساسًا، عمّا ألفوه من شعر فلسطيني حتى ذلك التاريخ. في نطاق هذا الحماس المفرط أسبغوا على الشعر الفلسطيني في إسرائيل صفة البطولة حينًا، والمقاومة أحيانًا، واعتبر كلّ من كتب في إسرائيل في تلك الفترة من شعراء المقاومة، بحيث ضمّت القائمة أحيانًا من لم يكتبوا الشعر أصلاً، واعتبر راشد حسين وأبو إياس، وهو اسمه المستعار الذي نشر تحته بعض قصائده في الصحافة الشيوعية، شاعرين من شعراء المقاومة لتكتمل قائمة من عشرين شاعرًا! (النقاش 1972، ص 293-294).

كما أن هذا "الاحتضان" الحاني دفع بالنقّاد، في أحيان كثيرة، إلى تجاوز الموضوعية في تقييم هذا الشعر، مقتصرين في الأغلب على المعايير المضمونية دون سواها، وذلك ما جعل محمود درويش يطلق صرخته الشهيرة آنذاك: "أنقذونا من هذا الحبّ القاسي!". (محمود درويش:"... أنقذونا من هذا الحب القاسي" ، "الجديد"، حيفا، حزيران 1969، ص. 2).

    في هذا السياق أطلق غسّان كنفاني، لأول مرّة، مصطلح "أدب المقاومة" (شمعون بلاص : "الأدب العربي في ظل الحرب" ، تل أبيب، 1978، ص.53،[ بالعبرية]) على كتبه أدباء اليسار في إسرائيل بعد 48، ثم شاع هذا المصطلح على أقلام الأدباء والنقّاد العرب حتى غدا "الاسم الرسمي" لهذا الأدب، وخاصّة الشعر، في العالم العربي. والسؤال هو: هل يمكن تسمية هذا الشعر شعر مقاومة فعلاً، وما هو وجه الخلاف بين النقّاد حول هذه التسمية؟ يذكر عبد الرحمن الكيالي أن الشعب الفلسطيني استخدم هذا الشعر "لبثّ الوعي، وفضح العدوّ، وإثارة المشاعر، وتحريك العزائم، وحشد القوى [...] فاستحقّ للقيام بهذه المهمات كلّها أن يسمى "شعر المقاومة"، ويرجع الفضل في إطلاق هذه التسمية إلى ما جاء في هذا الموضوع في شعر سميح القاسم" (عبد الرحمن الكيالي: "الشعر الفلسطيني في نكبة فلسطين" ، بيروت، 1975، ص 367). عدنا إلى قصيدة سميح القاسم التي أشار إليها الكيالي، وهي قصيدة بعنوان "خطاب من سوق  البطالة" فوجدنا "المقاومة" هناك تتردّد في لازمة ترد مع بعض التغيير الطفيف أربع مرات، يقول فيها: "ربما أخمد عريانا وجائع / يا عدوّ الشمس.. لكن.. لن أساومْ / والى آخر نبض في عروقي / سأقاومْ" (سميح القاسم: "دمي على كفي"، الناصرة 1967،ص. 9-11). "المقاومة" ذاتها وردت أيضا في قصيدة لمحمود درويش: "إنني مندوب جرح لا يساومْ / علّمتني ضربة الجلاد أن أمشي على جرحي / وأمشي.. / ثم أمشي.. / وأقاومْ"، وفي خاتمة القصيدة، وهي مقاطع ستّة، ترد "المقاومة" مرّة أخرى: "يا كفر قاسم! لن ننام.. وفيك مقبرة وليلُ/ ووصيّة الدم لا تساومْ/ ووصية الدم تستغيث بأن نقاومْ/ أن نقاومْ.." ( محمود درويش: "ديوان محمود درويش" ، طبعة 15، دار العودة،المجلد الأول، 1989، ص. 209، 220).

      فما معنى "المقاومة"، في القصيدتين المذكورتين، عند القاسم ودرويش؟ إن السياق في القصيدتين يشير، دونما شك، إلى المقاومة بمعنى عدم الرضوخ للظلم، ومناهضة سياسة ٍالقمع والاضطهاد الإسرائيلية ضد الأقلية الفلسطينية، أو هي المقاومة بمعناها اللغوي العام: معارضة السياسة الإسرائيلية والنضال ضدها بالنشاط السياسي والكلمة، أو باختصار: المقاومة لغة لا اصطلاحًا.

إلا أن "المقاومة" في المصطلح الأدبي العالمي (resistance) تعني القتال المسلّح ضد المحتلّ، كما حدث في فرنسا خاصّة حين وقعت تحت الاحتلال النازي في الحرب العالميّة الثانية، بهدف قهر الاحتلال والتحرّر من سلطته، وهو ما لم يحدث، إذا أردنا الدقّة، لا فعلا ولا قولا بين الجماهير الفلسطينيّة في إسرائيل، في فترة البحث، وفي ظلّ الحكم العسكري. لذا اعترض الناقد المصري غالي شكري على مصطلح "أدب المقاومة" في مقال نشره في الآداب البيروتية، في تموز 1969، قائلا: "من هذه النقطة نستطيع أن "نتفهم" شعر المعارضة العربية في الأرض المحتلة، هذا الشعر الذي لا يغضّ من قيمته على الإطلاق أنه لا يتصل بمعنى المقاومة إلا من قبيل المجاز، ولكنه يتصل أعمق الاتصال وأوثقه بمعنى المعارضة.

 هذا المعنى الذي يجمع في جبهة عريضة كافة القوى الديمقراطية في إسرائيل، عربًا ويهودًا ضد الكيان العنصري لدولة إسرائيل الدكتاتورية. وينبغي أن نكون منصفين للحقيقة ولا نظلم أنفسنا فنقول إن المقاومة الوطنية، بمعنى تحرير الأرض من آثار الأجنبي لا تخطر على بال وتفكير الشعراء الفلسطينيين المقيمين في ظلّ الإرهاب الصهيوني". ( غالي شكري:      " أبعاد البطولة في شعر المقاومة العربية"، الآداب ، بيروت، تموز 1969، ص. 18؛ وانظر أيضًا: جبرا إبراهيم جبرا: " ملاحظات عن الأدب والثورة الفلسطينية"، مواقف،  1970، ص 19؛ أدونيس،  الطريق، بيروت، نوفمبر وديسمبر 1968، ص 15). ولعلّ موقف غالي شكري المذكور وما أثار من أصداء، هو ما دفع بالناقد المصري إلى تأليف كتاب "أدب المقاومة" الذي أورد فيه رأيه في "شعر المقاومة" الفلسطيني، وبالكلمات ذاتها تقريبًا ( غالي شكري: "أدب المقاومة"، دار المعارف بمصر، القاهرة 1970، ص. 391).

أثار موقف غالي شكري السابق حفيظة الأستاذ محمد الجزائري، فاتهم الناقد المصري بـ"تجاهل صيغة الإبداع في شعر المقاومة، ثم تجاهل صيغة الثورة في مضمونه [...] والإقليمية في الرؤية إلى الأدب والأدباء العرب"، وأضاف في موضع آخر من المقال المذكور أن "عقلية التشكيك بشعراء الأرض المحتلة هي عقلية تقف مع اليمين، وتنطلق من مواقع مغازلة عناصر الانتهازية الفكرية، والمتاجرة بالفكر التقدمي لإفراغه من محتواه الثوري". ( محمد الجزائري: "عن أبعاد البطولة والمقاومة قي الشعر العربي، الآداب ، بيروت،كانون 1970؛ وانظر أيضًا: حسني محمود "شعر المقاومة الفلسطينية،دوره وواقعه، في الأرض المحتلّة، الجزء الثاني،   د.ت. ، ص 140).

نخلص إلى القول إنّ الشعر الفلسطيني في إسرائيل لم يكن شعر مقاومة بالمعنى الاصطلاحي، كما كان أدب المقاومة في فرنسا ضد الاحتلال النازي في الحرب العالمية الثانية. ثم إن "شعراء المقاومة" البارزين كانوا أعضاء في الحزب الشيوعي الإسرائيلي أو مقربين منه، وفي صحفه نشروا قصائدهم كلّها، فلم يشاركوا في كفاح مسلّح ضد إسرائيل، ولا كفروا بحق إسرائيل في الوجود أيضًا. من جهة ثانية كان هؤلاء الشعراء مناضلين قاوموا سياسة القمع والاضطهاد والتمييز ضدّ الأقليّة الفلسطينيّة، أو بكلمات توفيق زياد، "وقفوا في الصفوف الأولى من المعركة، وتعرّضوا لأقسى الإجراءات الاضطهاديّة، والأعمال الانتقاميّة، والكبت. لوحقوا وسدّت في وجوههم أبواب العمل المناسب، وتنقلوا في أكثر من منفى، وشجّت رؤوسهم هراوات الشرطة أثناء المظاهرات" (توفيق زياد: "عن الأدب والأدب الشعبي" ، دار العودة، بيروت1971، ص 94).

عاش هؤلاء الشعراء حالة استثنائية: أقليّة عربيّة تحكمها في وطنها دولة يهوديّة وتعتبرها رسميًا من مواطنيها، إلا أنها من ناحية أخرى تمارس ضدّها الاضطهاد القومي والاقتصادي والفكري أيضًا. لذا، لم يكن غريبًا أن تختلف الآراء حول أشعارهم المناهضة للسلطة، تبعًا لاختلاف المواقف والرؤى لدى الباحثين العرب الذين تناولوا هؤلاء الشعراء وأشعارهم بالنقد، ولم يكن غريبًا أيضًا تفرّد الشعر الفلسطيني في إسرائيل، في فترة البحث على الأقلّ، بسمات مضمونية، في الأغلب، لم يعرفها الشعر العربي في البلاد العربية، كما سنرى لاحقًا.