بداية شخصية المكان في ذكريات الشيخ علي الطنطاوي
بداية شخصية المكان
في ذكريات الشيخ علي الطنطاوي
أ.د//
جابر قميحة"كل إنسان" يعيش في "مكان" ويمضي عليه "زمان" وهو معرض لوقائع وأحداث، كما أنه ـ مهما ضؤلت مكانته ـ له تأثير في واقع البيئة التي يعيش فيها على نحو من الأنحاء.
وهذه دراسة موجزة في مفردة من مفردات "ذكريات" الشيخ علي الطنطاوي. وكان المعروض التصوري عنوانًا لهذه الدراسة واحدًا من العناوين الأربعة الآتية:
1 ـ المكان في ذكريات الطنطاوي.
2 ـ وصف المكان.
3 ـ عبقرية المكان.
4 ـ شخصية المكان.
واستبعدت العنوان التصوري الأول لضبابيته وبعده عن التحديد، كما استبعدت الثاني لاقترابه من العناوين الجغرافية المدرسية. واستبعدت الثالث ـ على شهرته ـ لأنه يعطي المكان ـ ولو على سبيل الإيحاء ـ من الفاعلية، والإمكانات والقدرات أكثر مما يتفق مع واقعه، كما أنه يمثل ـ ولو على سبيل الإيحاء ـ جانب التأثير الإيجابي المتفرد المتفوق للمكان، دون الوجه السلبي الضار. أما العنوان الذي آثرته، وهو "شخصية المكان ..." فيتفادى كل هذه المآخذ، ويتفق ـ في مصداقية ـ مع واقع الموصوف تأثرًا وتأثيرًا. كما سيرى القارئ.
وتبدأ هذه الدراسة بمدخل يوضح في إيجاز ـ مكانة المكان وأهميته، وتأثيره على الإنسان، واستعداده، ومعاشه.. ثم تعرض ـ في نظرة عامة ـ طبيعة المكان في ذكريات الطنطاوي اعتمادًا على أقسامه وأنواعه.
ثم ـ في حدود الذكريات ـ تناولت الدراسة المكان بين التجريد والتحميل، لتجيب عن سؤال مؤداه: هل كان الطنطاوي يستخدم المكان بمفهومه التوصيفي المجرد، أم وظفه كآلية للتعبير عن رؤيته للتاريخ، والمجتمع، والسياسة، والقيم المختلفة؟
ثم أبانت عن منهج الكاتب في تعامله مع المكان، وكذلك أهم ملامحه الفكرية والفنية تصويرًا، وتعبيرًا. وختمت الدراسة بموازنة موجزة جدًّا بين الطنطاوي، وعمر بهاء الدين الأميري في المطالع النثرية لقصائده، وبشيء من التفصيل ـ وفي نطاق المكان ـ كانت الموازنة بين الشيخ الطنطاوي والعالم الجليل أبي الحسن الندوي، في حدود ذكريات الأول، وسيرة الثاني التي سماها "في مسيرة الحياة" وأمل أن أكون قد حققت ما حرصت على تحقيقه إن لم يكن كله فجله، والله المستعان.
مدخل: تأثير المكان وأهميته:
لابن خلدون كلام كثير في معطيات البيئة، وتأثيرها في المعاش والأخلاق وطبائع الناس، وذلك في صدر مقدمته الرائدة الرائعة تحت عنوان "الكتاب الأول: في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض فيها من البدو والحضر، والتغلب، والكسب، والمعاش، والصنايع، والعلوم، ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب"([1]).
والعنوان السابق يرتكز ـ عند ابن خلدون ـ على ثلاث قواعد أساسية، أو أصول، أو مبادئ عامة، وهي:
1 ـ الموطن (المكان) 2 ـ الاجتماع الإنساني.
3 ـ الاجتماع الإنساني([2]).
وقد يكون الموطن (المكان) في حلة، أو في قفر، أو في مصر، وقد يدوم وقتًا طويلاً، أو قصيرًا حسب أحوال ذلك الاستقرار وعوامله([3]).
وهناك إجماع على قوة تأثير الموطن، أي المكان في أخلاقيات الناس وطبائعهم النفسية. ومن أدق، وأوجز ما صور هذا التأثير قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدا جفا" أي: من نزل البادية صار فيه جفاء الأعراب.
ولكن البادية لها وجه طيب نراه عمليًّا في حياة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد جاء في الأثر أنه كان إذا اهتم لشيء بدا، أيخرج إلى البدو (البادية). قال ابن الأثير: يشبه أن يكون يفعل ذلك ليبعد عن الناس، ويخلو بنفسه([4]).
فإذا كان دوام العيش في البادية يغلِّظ الطباع، ويخشِّن الأخلاق، فإن الوجه الآخر للبادية، أنها منزل طيب لمن يطلب الهدوء، وإعمال الفكر لإتقان تدبير المهم من الأمور.
ومن المعروف أن الصحراء على ارتباط وثيق بالتعبد.. فالأديان السماوية، وثيقة الصلة بالصحراء، لكونها صفاء نقيًّا صافيًّا من جهة، كما أن اتساعها اللامتناهي يخلق الرهبة في نفس المتعبد، كما تمنحه قسوة الطبيعة إرادة صلبة لا تلين من جهة أخرى، وارتبطت الصحراء من جهة ثالثة ـ نظرًا لاتساعها، وانبساط جغرافيتها، ولعبة الأضواء، والظلال فيها ـ بكائنات خرافية بمخيلة الكائن الإنساني الذي لم يستطع أن يخضع الصحراء لفعله المعرفي في البدايات، فملأها بتلك الكائنات الخرافية من شياطين، وجن وغيلان ..."([5]).
وفي التاريخ الأدبي قصة مشهورة هي قصة الشاعر علي بن الجهم، الذي جاء من الصحراء فمدح الخليفة المتوكل ـ أو غيره بقوله:
أنت كالكلب في حفاظك للود = وكالتيس في قراع الخطوب
أنت كالدلو، لا عدمناك دلوًا = من كبار الدلا، كثير الذنوب([6]).
فهمّ بعض أعوان الأمير بقتله. فقال الأمير: خلّ عنه، فذلك ما وصل إليه علمه ومشهوده، فلما أقام ببغداد في سعة عيش وبسطة حال، رق شعره، وارتقت معانيه، وتحضرت صوره([7]).
وفي الأندلس حيث الخضرة والماء، والبساتين والأنهار، رقت مشاعر الشعراء، وصفت قدائحهم، وأتوا بكل جميل آسر تصويرًا وتعبيرًا "فأصبحت الأندلس أغنية عذبة في فم الشاعر، ينشدها وهو بين ظهرانيها، وأنشودة ساحرة على لسانه، يرددها، وهو مغترب عنها"([8]).
ونحن ـ إذ نسلم بأثر البيئة في تشكيل شخصية الإنسان وتوجهاته ـ ننكر على العالم تين إسرافه الشديد، ومبالغة في قدر هذا التأثير، مما قد يدفع إلى إغفال أهم العوامل الفعالة في تكوين الشخصية وتشكيلها، وهو الاستعداد الذاتي، والموهبة الفطرية([9]).
([1]) انظر مقدمة ابن خلدون 57 ـ 158.
([2]) انظر: د. سعيد محمد رعد: العمران في مقدمة ابن خلدون 207 ـ 227.
([3]) رعد: السابق 207.
([4]) لسان العرب 1 / 235.
([5]) خالد حسين حسنين: شعرية المكان 353.
([6]) ديوان علي بن الجهم 117.
([7]) ديوان أحمد الشايب: الأسلوب 131.
([8]) د. مصطفى الشكعة: الأدب الأندلسي موضوعاته وفنونه 23، وانظر العقاد: شاعر أندلسي وجائزة عالمية 87، ومابعدها.
هذا ويرى الفرنسي "تين" أن الرجل ثمرة من ثمرات البيئة التي ولد وتزبى فيها، وأنه يمكن أن ترجع كل الأسباب التي تكون الرجل إلى ثلاثة أصلية هي: الجنس، والبيئة الطبيعية، والاجتماعية، ثم الزمن الذي تكوت فيه حياته العقلية [ارجع إلى: أحمد ضيف في: مقدمة لدراسة بلاغة العرب 119. ومحمد مندور: النقد والنقاد المعاصرون 149.
0 أدب واللغة 42 ـ 51.