عمر بهاء الدين الأميري

د.خالد بن سعود الحليبي

عمر بهاء الدين الأميري

شاعر الإنسانية المؤمنة

عمر بهاء الدين الأميري

د.خالد بن سعود الحليبي

يحيل بعض الباحثين ضياع الإنسان المعاصر، وقتل إنسانيته، إلى الغرب المادي، الذي خلف وراءه القيم الإنسانية، وصادر كرامة الإنسان باسم الحضارة، وما هي في الواقع إلا (مادية) بائسة، شقي بها ابن القرن العشرين من حيث يريد سعادته. وقد عالج شاعر الإنسانية المؤمنة الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري رحمه الله هذه القضية في بعض كتبه، وأبرزها المجتمع الإسلامي والتيارات المعاصرة، وتطرق إليها في شعره فيقول:

أيها   الصحب  إنها  دورة  الدهـ
نخر (الهيروين) إنسان (غرب الـ
هو  طوراً  (تقنية)  تنطح  iiالنجـ
والدنا  اليوم  في رحى من iiشقاء
أين   روح  الإله  فيه؟  أما  iiأسـ
بسداد      وحكمة      iiوجهاد!!
وتعالى    على    الإله   iiتعالى







ـر    كفانا   في   تيهنا   iiدورانا
ـعصر)   نخراً،  فلم  يعد  إنساناً
ـم،    وطوراً    يقارب   iiالحيوانا
ضل    إنسانها    وشذ    وهانا
ـتخلف   حتى   يسير  iiالأكوانا؟
ضاع   ويلاه،   ضيع   الإيمانا
في    غرور،    وكابر   iiالديانا

"إن هذه الحضارة الحديثة قامت ابتداء على أسس الاتجاهات التجريبية العلمية التي اقتبستها أوروبا من الأندلس ومن الشرق الإسلامي، النابعة من التوجيهات القرآنية.. ومن روح الإسلام الواقعية الإنسانية، إلا أنها حين انتقلت إلى أوروبا لم تنتقل بجذورها الفلسفية، وإنما انتقلت علوماً وطرقاً فنية، ومناهج تجريبية، وصادفت ذلك (الفصام النكد) بين الدين والنهضة الحضارية.

ومن ثم لم يلحظ في بنائها هذا (الإنسان) المفروض أنه صانعا وأنها من أجله صنعت. وكذلك أصبحت لا تلائم هذا (الإنسان)، بل تسحق خصائصه الأساسية، التي تجعل منه هذا الكائن الفذ الفريد في الكون، والتي من دونها لا يملك هذا الكائن أن يؤدي دوره.." إن من مساوئ حضارة الغرب الحديثة أنها ألغت الروح من حساباتها فصار الجسد هو كل شيء في اعتبارها، ولذلك شقي بها الإنسان المخلوق من عنصرين لا يستطيع أن يسعد من دون أن يتوازى الغذاء بينهما، يقول (الأميري):

يا   إله   الكون   ربا        ن  الدنا  اليوم  أفين

لا يراعي الروح، والإنـ        ـسان دون الروح طين

ويضف خواء هذه الحضارة التي غزت الفضاء، وأبناؤها صرعى في وحول المخدرات والمجون والجريمة، فيقول:

قادهم     علمهم    الظا
فهم     يحيون،    iiلكن
ما      الذي     iiينفعهم
وهم      في     أرضهم
وبهتك     الخمر    iiوالـ





هر     للجهل    الدفين
في     شقاء    iiسادرين
غزوفضاء        iiبسفين
صرعى بغزو (الهيروين)
عهر   وفتك  iiالمجرمين

وفي قصيدة أخرى يكرر هذه الأفكار، ويشير إلى فكرة من أبرز أفكار الشعر الإنساني المعاصر، وهي فكرة (الأخوة الإنسانية)، ثم يقرر الحضارة الحقة التي يتطلع إليها الإنسان يقول:

ما   حضاراتكم،   وإن   هي   مدت
بالتي      تسعد     الأنام     iiوئاماً
نعمة   الأمن   والسكينة   في  الأعـ
وتآخي  الإنسان  –  في الله – بالإنـ
هي فحوى الحضارة الحق، بالإحسان
وهو   الخير،   أبدع  العرب  iiبالإسـ
وأقاموا  حضارة  الدين  –  لا  iiالطيـ







من    ثراها   إلى   النجوم   iiجسوراً
وسلاماً        وصحة        iiوحبورا
ـماق     والحب    سلسبيلا    iiنميرا
ـسان    يسدي   له   ودوداً   نصيراً
يحيا          الإنسان          قريرا
ـلام   صرحاً   له   مشيداً   iiحصوراً
ـن   فسادت،   وعمت   الكون  iiنوراً

لقد توقع عدد من مفكري الشرق والغرب قرب احتضار الحضارة الغربية، وأعلنوا أنه "انتهى العصر الذي يسود فيه الرجل الأبيض، لأن حضارة الرجل الأبيض قد استنفدت أغراضها المحدودة الغريبة، ولم يبق لديها ما تعطيه للبشرية من تصورات ومفاهيم ومبادئ وقيم، تصلح لقيادة البشرية، وتسمح لها بالنمو والترقي الحقيقي.. النمو والترقي للعنصر الإنساني، وللقيم الإنسانية، وللحياة الإنسانية.." ويصوغ الأميري هذه الفكرة شعراً متأثراً – في غالب الظن – بها: يقول:

حضارة    الطين    تستوفي    نهايتها
عاشت،  وعشنا  بها  القرنين  في iiكبد
قد   أفلس   العلم  عن  إسعاد  iiعالمه
وما       تفيد      معدات      iiترفهنا
لا  رأسمال  ولا  دعوى  التشارك في iiالـ
حضارة    (الرجل   البيضاء   iiجلدته)
يا  ليتها  خلصت  بيضاء  ناصعة  iiالـ







في  الشرق  والغرب، من قانونها iiالوبق
حرب    الفناء   وسلم   الهم   iiوالأرق
ها  نحن  رغم  عطاء  العلم  في iiرهق
بها  سوى  ما  يفيد  الميت  من  iiحبق
أرزاق    تسعد   والأوراح   في   iiغلق
في الشرق والغرب قد أوفت على الرمق
ـلباب،    لكنها    قشر    من   iiالبهق

وضرب الشاعر لانحدار هذه الحضارة مثلين حيين عايشهما بنفسه، الأول حين سأل صاحب سيارة أجرة عجوزاً في (باريس): عن أحوال بلده، وكان قد درس فيها قبل ثلاثين عاماً:

أجاب:

لا يا صاحبي قد غير الزمن الأناما

وتبدلت تلك العه        د فلا رخاء ولا سلاما

إنساننا في غرب هذا الـ        ـيوم، قد خفر الذماما

يجري ليقتحم الحيا        ة وما يرغدها اقتحاما

ويظن أن رقيه        في أن يرفهها دواما

ويستمر السائق العجوز في نقد الحضارة المحيطة به: ضارابً المثل بحادثة دهس طفل في الحي، حيث فر الجاني تاركاً ضحيته يتلبط في دمه حياً، وظل الطفل ينزف بينما الناس يمرون به فلا يتوقف واحد منهم رحمة به. ويأتي بصور التيه التي بلدت إنسانيتهم عن اهتزازاتها الطبيعية في مثل هذه المواقف: يقول:

والناس   فيها:   iiعاشق
وجماعة     في    نزهة
ومراهقون        iiيراشفو
وثرية     وحبيبها    iiالـ
وأب     يعاتب    طفله
كثر    وما   أحد   iiتوقـ






ضم   الحبيبة  iiمستهاما
تمضي  وتفتقد  iiالندامى
ن  بنات  معهدهم iiمداما
ـمبتز   يكذبها   iiالغراما!
والطفل  يأبى  أن iiيلاما
ـف، والفتى يلقى الحماما

ثم يصل إلى نتيجة جعلت عينيه تغيمان بالدموع على بني جلدته وكأنه ينعاهم:

إنساننا..     ماذا    iiأقو
واغتر   واستعلى   وظن
عميت    حقيقته    iiعليـ
ومضى  يدب  كدبة iiالسـ




ل؟ أقول أعمى أم تعامى
بأنه     ملك     iiالزماما
ـه  فضل  عنها iiواستناما
ـكران   في  وحل  iiترامى

والمثل الثاني كتب فيه أكثر من قصيدة: يفتش فيها عن وهج الإنسانية الدفين تحت رماد المعصية المتاكم في قلوب فتيات المراقص والحانات في أوروبا، راسماً صورة مكتملة الملامح لنفسياتهن المرهقة، ومبرزاً ذلك الازدواج الممزق لأرواحهن وهن يقمن بذلك العمل المهين لإنسانيتهن، إنهن يمسين كالآلات من غير روح، ينشرن أشذاء العطور وفي أعماقهن يفوح الأذى ويتضاحكهن للحاضرين والحاضرات، وقد طويت قلوبهن على الجراح النازفة، والآلام المبرحة.. يقول في قصيدته (رق):

من   يشمها   مثلما  iiأبصرتها
أجرت     للمستغلين     iiصبا
جسد    تنهشه   الأعين   iiفي
إنها        بائسة        معوزة
بسمة    باهتة    تجثم    iiفي
إنها    إنسانة    مهدورة    الذ
قصة  الغرب  التي  تخنق في







سيرى  في  نفسها  الهم الدفين
عريها  الفتان،  والقلب  iiحزين
نهم  الحيوان مخفوض iiالجبين
بسمت،   مضطرة  iiللحاضرين
أغوارها  مأساة  جيل iiالحائرين
ات..  يحكي صمتها iiللمدركين
شدوها الصاخب أصداء الأنين

ثم يتوجه إلى الإنسان بعتاب ولوم يشبهان النواح، على ما وصل إليه حال البشرية اليوم، فيقول:

ايها   الإنسان   ماذا  iiصنعت
كرم    الله    بني    آدم   مذ
عبث   الإنسان  بالإنسان  iiما
إنه    (الرق)    الذي   iiينكره




شهوات  الجسم  بالروح iiالثمين
برأ   الخلق،  وصاغ  العالمين
كان فنا في حجى الحق المبين
كل   إنسان   ووجدان   iiودين

وبعد.. فهل آمال الشعر الإنساني التي عبر عنها الأميري وغيره من شعراء العالم في العصر الحديث "مثالية، وإنها تحلق في خيال بعيد لعالم لا يمكن أن يتحقق على الأرض كما ذكر بعض الباحثين؟

قد تكون!! "إلا أنها في جوهرها عامل مهم في تغذية الروح الإنسانية، وشحنها بمشاعر نبيلة، تهدف في النهاية إلى إزالة البؤس والشقاء عن البشر، وتكون خطوة مهمة على طريق بناء الإنسان، لأن المشاعر والأحاسيس هي التي تولد الظروف الملائمة للخلاص من الألم والعذاب، وتوحي للعقل في كثير من الأحيان ليتصرف تصرفاً يدفع البؤس عن الناس، ويحقق لهم الرخاء والسلام".