العقاد وقع في هذا الخطأ قبل نصف قرن (تعقيب)
العقاد وقع في هذا الخطأ
قبل نصف قرن (تعقيب)
أ.د/
جابر قميحةفي الملحق الأدبي لصحيفتنا " الندوة الغراء " يوم الأحد 29 من ربيع الآخر 1413 – 25 أكتوبر 1992 قرأنا ما كتب تحت عنوان : (راضي صدوق يكشف خطأً فادحًا في رسالة دكتوراه) : السياد شاعر جاهل بالمواقع والآثار . د. هدارة ولجنة المناقشة لم تنتبه لذلك . وشكرًا للأستاذ راضي ولمراسلكم في المدينة الأخ أحمد جابر الذي عرض ما قاله الأستاذ راضي ، فقد شدني ما عرض إلى أن أدلي بدلوي في هذه القضية بإبداء الحقائق والملاحظات الآتية:
الماجستير والدكتوراة والأطروحات هبط مستواها
أولاً: في مطلع المكتوب إشارة إلى الخطأ الفادح الذي سقط فيه طالب الدكتوراة (إذ ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر اختفيا عن الأنظار أثناء الهجرة في غار حراء والصحيح أنه غار ثور) . ولم ينتبه لهذا الخطأ لجنة المناقشة التي كان يرأسها الدكتور محمد مصطفى هدارة.
هذا ما ذكره مراسلكم على لسان الأستاذ راضي صدوق. وفي نهاية المكتوب يقول الأستاذ صدوق، لا أريد أن اذكر اسم الطالب، ولا اسم رئيس اللجنة لأن رئيس اللجنة صديقي.
فهل يستقيم هذا مع ما ذكره في أول المقال من أن رئيس اللجنة هو الدكتور مصطفى هدارة، بل إن ذلك كان رأسًا لأحد العناوين المعروضة.
وهل الصداقة تحول بين الإنسان وبين ذكر الحقيقة وخصوصًا إذا كان ينطلق من موقع علمي؟ رحم الله عمر بن الخطاب إذ كان يضرب كفًا بكف ويقول " يا حق.. لم تبق لي صديقًَا ".
وعلي أن أشير هنا إلى حقيقة مرة، وهي أن مستوى الأطروحات المقدمة للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه هبط إلى مستوى مفزع، حتى أصبح مثل هذا الخطأ التاريخي من قبيل اللمم.
دفاع مفترض
ثانيًا: خطأ السياب هذا يمكن الدفاع عنه من ناحيتين:
الأولى: إذا كان العنكبوت قد نسج خيوطه على (غار ثور) – وهذه واقعة تاريخية ثابتة- فإن هذا لا ينفي أن ينسج العنكبوت خيوطه على غار كان النبي صلى الله عليه وسلم لا ينزل به إلا شهرًا في العام.
الثانية: أن السياب يقصد بحرائه منبع إلهامه ومصدر حيويته، ويبقى العنكبوت رمزًا للخراب والسوداوية التي حلت بهذا المصدر.
وتبادل الشرائح التاريخية كثير في الشعر الحديث كالذي كتبه أحدهم أيام أزمة الكويت:
رأيته...
رأيته الحجاج في روما
يقود خصيانه
ويشعل النيران
فالمعروف أن الذي حرق روما هو نيرون ، ولكن الشاعر قام بتركيب "شريحة عربية" هي هنا شخصية طاغية- على أرضية غربية هي روما، ليشير إلى استهانة صدام بكل القيم شرقيها وغربيها.
والمعروف أن الشعر ليس مصدرًا أصيلاً من مصادر التاريخ إذا توفرت المراجع والمصادر التي تتوافر فيها المعلومات المطلوبة، وهي في مثل حالتنا السابقة: السيرة النبوية لابن هشام، والروض الآنف للسهيلي.. إلخ.
ورجوع الطلب – في هذه المعلومة- إلى السياب حتى لو صحت المعلومة عند السياب- يعتبر خطأ منهجيًا فادحًا . ولو كنت عضوًا في اللجنة ما أجزت هذا الطلب أبدًا.
وقد نبهت إلى هذا الخطأ:
ثالثًا: وللحق والتاريخ – أذكر بلا فخر أو مباهاة- أنني نبهت إلى خطأ السياب هذا من قرابة ربع قرن في كتابي " التراث الإنساني في شعر أمل دنقل" الصادر سنة 1987م فقلت بالحرف الواحد ص 51: ( في مقام حديثي عن اغراق السياب في عشرات من الأعلام اليونانية والغربية)!
.... وانصراف السياب إلى اثقال شعره بمثل هذه الأعلام- وكأنها مقصودة لذاتها وبصرف النظر عن مكانها في السياق وبصرف النظر عن مدى الاحتياج إليها لأداء مهمتها المعنوية والإيجابية- جعله يقع في أخطاء لا تليق به كشاعر مثقف مثل قوله:
هذا "حرائي" جاءت العنكبوت
خيطًا إلى بابه
يهدي إلى الناس أني أموت
والنور في غابه
يلقي دنانير الزمان البخيل
من شرفة في سعفات النخيل
فزيادة عما في هذه السطور من غموض، وعن الخطأ في قوله "إلى بابه" والصحيح "على بابه" – يبقى الخطأ التاريخي الفادح في "حراء" والصحيح تاريخيًا أنه "غار ثور" الذي اختبأ فيه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر وهما في طريقهما مهاجرين إلى المدينة.
والعقاد قبل السياب
رابعًا: وللحق والتاريخ- أذكر أيضًا أن العقاد قد سبق السياب إلى الوقوع في هذا الخطأ، من نصف قرن في كتابه المشهور (عبقرية محمد ) الذي صدر سنة 1942، والغريب أن أحدًا لم ينبه العقاد إلى هذا الخطأ فصدرت الطبعات التالية وفيها هذا الخطأ، وبين يدي طبعة دار الهلال التي صدرت سنة 1966 وفيها يقول العقاد بالحرف الواحد ص 156 "... لقد كان على فتى يستقبل الدنيا، وكان أبو بكر كهلاً يدبر عنها يوم أعانا محمدًا في يوم حراء..." وقد نبهت إلى هذا الخطأ في كتابي "منهج العقاد في التراجم الأدبية ص 130، ومعروف أن الدور الذي قام به عليْ أنه نام في فراش النبي ليلة الهجرة، وأن أبا بكر رافق النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، وكان الاختفاء عن أعين الكفار في غار ثور، فهو إذن (يوم ثور) لا "يوم حراء" إنه خطأ لا يتسع لتأويل أو دفاع.
الجناية الكبرى
لكن خطيئة السياب الكبرى التي يهون أمامها مثل هذا الخطأ التاريخي هي استهانة السياب بالنبي صلى الله عليه وسلم.. والأنبياء والرسل والشرائع في شعره. من ذلك قوله:
كفرت بامة الصحراء
ووحي الأنبياء
على ثراها في مغاور مكة
أو عند واديها
(ديوان السياب المجلد الأول ص 642 : دار العودة بيروت 1971) والقصيدة نظمها في باريس في 19/3/1963).
وأشد من هذه السطور جرأة واستهانة بالقيم وتمردًا على أصول العقيدة الإسلامية وسخرية من الذات الإلهية قصيدته الطويلة (في المغرب العربي) ص 394 – 402 في المجلد الأول من ديوانه.
وقلمي لا يملك من الوقاحة ما يجعله يعرض بعض إفراز السياب في هذه القصيدة.
درس في المنهج
خامسًا: والفائدة التي تخرج بها من كل ما سبق هي أن نحذر أبناءنا الباحثين في رسائلهم الجامعية وغيرها... نعم نحذرهم وبإلحاح ألا يلجئوا في بحوثهم إلى "المراجع الوسيطة"، بل يجب أن يرجعوا للمصدر الأصلي للمعلومة، ولا يقنعوا بالرجوع إلى مرجع نقلها من المصدر الأصلي اعتمادًا على شهرة الكاتب وسعة معلوماته. وقد رأينا كيف أخطأ العقاد – على موسوعيته الثقافية- ومن يدري ربما كان حال الطالب على الوضع الآتي:
- الطالب استقى المعلومة الغالطة من السياب.
- والسياب اعتمد فيها على العقاد.
- والعقاد بالقطع اعتمد على ذاكرته، وجل من لا يسهو.
وأخيرًا أسجل شكري للأستاذ راضي صدوق الذي جذبنا بحديثه لكتابة هذه الكلمات على كثرة المشاغل والمهمات.