قراءة اولية لرواية "انهيار"
صعود معقوف تجاه انهيار ثابت
قراءة اولية لرواية "انهيار"
للكاتب مأمون احمد مصطفى
مأمون احمد مصطفى*
د. خليل حسونة
الرواية هي المثل الاعلى لكل العلاقات الانسانية الدقيقة والمتداخلة التي اكتشفها الانسان، كونها وسيلة هامة تكشف قوس قزح علاقتنا الحية المتغيرة، والوعي بالشيء المعالج، وهي كتاب التفصيلات المفتوح، الواضحة، المحددة. وقد استطاعت ان تكشف جوهر الانسان، ليس في كونه مشروطا، بل في كونه يفلت من الشروط كلها. كما انها انتاج عمل فردي، أي انها تعكس النهج الخاص، الذي يتبعه الانسان – أي الكاتب – في تحمل العالم، فهمه، والتعرف عليه، ومن ثم غربلته.
هذا واذا كانت معظم الروايات، لا تستطيع ان تعطينا اكثر مما اراده الكاتب لها، فان الحدث وجدل الصراع يفرضان نفسيهما على بساط الرواية ولو على حساب الشخصية التي قد تكون غائمة وضبابية.
رواية " انهيار" للكاتب مأمون احمد مصطفى الصادرة 2012 عن دار نهضة مصر، في محاولتها اقتحامنا، حيث ترشقنا بشظايا جوها الغرائبي، تؤكد بجدارة انها رواية الوثيقة النفسية المندلعة/ المتشظية/ المتداخلة التي تحاول سبر اغوار الذات المُرسلة والمُتلقية.
منذ البداية تطالعنا الرواية بدفقة غنية وجادة لاستنهاض تاريخ الذات بكل زخمه ومرارته، وبنوع من المراوغة الذكية ينصب لنا القاص كمائن مختلفة، نتخطاها ونخرج منها اكثر حميمية، عبر طقوس حددت الفاعلية المفترضة او المفروضة، لاستحلاب البعد الحلمي المرجو والمبتغى في جو طقوس مفعم بالتشظيات والاستقطابات النفسية المتداخلة، التي تحاول تعويض الامها، بإسقاط لوعتها وفزعها على الذات المغايرة، وكونها رواية شبه سيرة ذاتية، فهي في اقترابها من ذلك على الاقل، انتصرت لتلك الشريحة من البشر الممتهنة/ المتقوقعة/ الفاقدة لأهليتها كما يرى الغير خطئا.
لقد حدد " فيليب لوغون" شكل "السيرة الذاتية" بانه (نص حكائي يستعيد الماضي نثريا، يرويه، او يُلَيًنهُ شخص حقيقي عن حياته الخاصة). فهذا الشخص بناء على تحديد لوغون " ذو عناصر تركيبية ثلاثة محورة ( الكاتب، الرواية، الشخصية المركزية) تنسج عالما متكاملا له فضاءه الخاص، يتولد عنها عناصر جزئية اخرى تسهم في تشكيل هذا العالم.
منذ البداية نستطيع استشراف كيف ان الكاتب في روايته يحاول تفجير الذات الداخلية ل " اناه " و " انوات " الاخرين، وذلك بإطلاق الوعي الاخر، عبر طريق تصليب الذات، عبر تحويل الروح الى مثال ثابت ودائم متكئا على الوضوح البين، والصراحة المطلقة، التي جعلت في نهاية المطاف " الطبيب " هو المفعول به، " والمريض " هو الفاعل كما سيتضح في نهاية الرواية.
" لماذا لا اخبره عن تلك الجثث التي تسكن ذاكرتي، وهي مضرجة بالدماء. مثقوبة الاجزاء، منخولة الاجساد، لماذا لا اخبره بانها تهاجمني حين يسلمني جسدي للنوم، ككوابيس معجونة بالشياطين والنيران" ص5.
هذه الكوابيس التي اراد ان يخبر الطبيب بها تمثلت في حالات نزيف روحي عصر البطل/ المتحدث/ عصرا جعله يعبر عن نفسه بأكثر ما يستطيع من حرية الوعي المستفز. انها حالات تراوح مكانها في محاولة منها لدفع الغير للبحث عن الحقيقة التي يرونها ولا يريدون ان يروها.
" حمار ابي رصاص المعذب/ تسطح الكرة الارضية/ الجرذ مهروس الراس/ قاضي القطط وقاتلها/ الغزال المطارد من الفهد/ عجل القصاب/ الطفلة المستلقية تحت عجلات السيارة/ ابو حديد قاتل اولاده الذي قال الاطباء انه مصاب بانفصام الشخصية/ كهل "جيوس"/ "المسكاوي".
اطلق حكاياها عبر براغماتية خلاقة، دون ان تكون متعالية، كان للتأمل فيها دوره الذي يعتبر القلق والمجهول وطن واحد. وطن له رنين عاطفي وفلسفي، اعتمد اشعال الروح واطلاقها عبر منظومة اخلاقية خاصة به، تعتمد الثقة بالنفس بقوة كبيرة، تحاول ان تسحب المشاعر المنفية من ارض المصالح.
- " حمار ابي رصاص كان يعمل طوال حياته بصمت ووفاء دون شكوى او تذمر/ لكن البشر كانوا فقط يتذكرون الشيطان/ الحمار مات وماتت معه الحقيقة"ص7.
- " ولكني اعلم بان عاصفة من اللذة اجتاحت كياني، وتمحورت ببؤرة قلبي وانا اراه ينسحق ببطء وهو بلا حول ولا قوة"ص9.
- " تحول (السائق) الى كتلة رعب متوهجة، تكاد تبعث بوهجها وسط ظهيرة (اب) الحارقة، ولكني عرفت خوفه ورعبه خاليا من العذاب مشحونا بالتوقع والتحسب من طبيعة العقاب"ص29.
- " لانهم جميعا رأوا الجريمة من زاوية الحدث، من زاوية الفعل وردة الفعل، اما انا فقد شاهدتها من خلال عيونهم، من خلال ألمهم، ومن خلال الكلمات الاخيرة التي قالها القاتل وهو يستعد للنزول الى القبر"ص45.
المعاناة في هذه النصوص تبحث عن تصور المبدع المظلم لواقعه الفردي، وعزلته الوجودية المطلقة، فهو دائما يرى المختلف، فما حوله غابة من الظلمات، واقع ضبابي، لا امل لديه في تجاوزه لتحقيق الانا، المثالية للعيش والتفاعل مع الاخر، كما لو انه يحاول ان يكسر صدفته ولا يستطيع او لا يسمح له. الجانب الاخر للمعاناة برز في التناقض التناحري في داخل افكار الغير، الغير كما هو/هم، وكما يجب ان يكون، ونعني بالغير كل ما هو خارج الفرد من قضايا، ورؤى وفلسفات، وهي هنا وجه اخر لفكرة الذات. لهذا صار يصرخ سائلا الطبيب: " لذلك اخبرني انت بفصاحتك المختفية وراء مريولك الابيض، كيف ستتمكن من اعادتي الى مربع البياض، بعد ان انغرزت كل تلك الاشياء بذاكرتي"ص26.
هكذا، وعبر هذا السؤال حاول بطل قصتنا/ الكاتب قدر الامكان تعرية الرؤى الذاتية المؤسساتية والتقليدية، وسحبها من القسرية الدوغماتية المشروطة مسبقا، وفرض شروطها على الذائقة المعرفية للناس، بما يعني محاولته تأسيس رؤية معرفية قابلة للجدل والتلاقح كحل مفترض للكساح السلوكي، والمعرفي، الذي يعانيه المجتمع/ شخوص الرواية. فالتناحر وقائع ولدت لدى العديد من الناس/ النماذج المطروحة، عقد النقص، التي يرى الكاتب رموزها اسوياء، والتي ليست الا انفصالا عميقا، بين الانا الواقعية ( الناس )/ وتلك المثالية ( البطل )، حيث التداخل النفسي المتشابك وكثير التعقيد بين الرؤيتين. التي يعتقد الكاتب/ البطل/ المريض يمتلك الخيط الاصلب فيهما.
" لحظتئذ سأشعر بالمتعة الغامرة، وسأسجل بتواصلي بالتردد الذي قد يفضي الى الكشف عن تلك المساحة انتصارا على الطبيب، ثم سأعود لأفتح مساحة جديدة مثقلة بالغموض المرعب المربك، دون ان امنحه أي معلومة عن المساحة الاولى، او المساحة الثانية، سأسحبه الى عالمي، الى لعبتي التي اتقنها، وسأدخله الدوامة، بكل ما فيها من تحسب وتوجس وخوف، لماذا؟ لا اعرف تماما؟".ص11
هذه اللوحة ثنائية الاطراف...
هذا ( انا ) ناهضة متحفزة/ البطل/ وانا منتظرة/ الطبيب، الانا الناهضة فيها هي الثابت الاقوى، وان بدا الامر غير ذلك. ففي بنيتها كما نرى نسق كامل وحالة من العواء الصاخب، انها تحتوي على عناصر عقلية ( سأسجل بتواصلي بالتردد على الطبيب)/ وانفعالية (سأسحبه الى عالمي، الى لعبتي) محسوبة على ظروف تاريخية ومعرفية محددة، وبيئة اجتماعية معينة، ليأتي الكاتب كمحول ومغير للواقع المعرفي السلبي كما يراه نفسه، تجعل من الادب والفن/ وهنا – كما في رواية انهيار – ليس التعبير عن الحركة/ الحالة بشكل تبعي، وانما لتكون جزء فاعلا منها نفسها، وان يكون موقف المبدع نقطة انطلاق السيرورة الابداعية كضرورة نفسية للتعبير عن الانفعال وعكسه للآخرين، فعجوز " جيوس" " يقطع مسافات العمر المتبقي بخطوات لا تنتظر مسيرته الطبيعية"ص54 لهذا يرفض راحة الموت/ كما يرى/ على الم الوفاء/ ولهذا يصرح وبقوة رغبته في التمسك بالحياة " الدنيا عزيزة، عزيزة الى حد التعلق بشقائها والمها، تعلق رضا وقبول واختيار، لان للألم لذة تقترن بشهد الهروب من فناء"ص58.
هكذا عاش الكاتب هذه الحالة النافرة محاولا تذوق اشيائها، اثارها، بان يطلقها في حالة جديدة عبر التفجير النفسي الذي يدخل من اللامرئي الى المرئي، حيث يشدك الى مشاركته رياضته العقلية/ النفسية، بوعي صادق بعيد عن الاسفاف، اذ استطاع استشراف ما يدور في عقل الكهل الانسان والغوص في اعماق النفس البشرية. فالخال الكهل القعيد الذي بلغ من العمر عتيا، يفضل ان يبقى كذلك دون حراك، على ان يلتهمه الموت. مع انه تجاوز المائة عام حملها على ظهره ولربما ايضا ظهور الاخرين.
الكاتب هنا فيلسوف يحلل الاوضاع النفسية العامة للإنسان/ أي انسان، منبها الى حالة بشرية متأزمة مستعصية، تُقسر "الانا" في بوتقة "أناها" بشكل عنيف يصل الى حد الفظاظة، والعدوى، السلبية، التي باتت في حالة الطبيب ايجابية، ادهشت الناس الذين لم يعرفوا سببا للتبدل الطارئ، رغم كل ما وضعوه من فرضيات وتصورات.
" اخذ التحول يشده نحوه، وغطى وجهه اصفرار متقلب مشرب بتقادم الايام، انتبه الناس للتغيرات التي اخذت تتقدم ببطء ولكن بثبات على حياة الطبيب وسلوكياته، فقد غدا كثير السهوم، طويل الصمت، قليل التبسم، يميل نحو العزلة والانطواء، ويبحث بشكل يومي، بتوثب بركان، عن شيء ما، او شخص ما".ص73
هل هذا التغير قرار تاريخي من قبل الطبيب؟
وكيف انتصر المريض على طبيبه فاصبح المفعول به فاعلا والعكس؟
اليس هذا التغير هو حالة انتقال من الصوت الفردي الى المبهم؟
او ان تصدع الانا الاخرى/ الطبيب/ مظهر من مظاهر التصدع في الصورة المعرفية النمطية التي هي انعكاس العالم في الوعي ... وكأن هناك سلسلة من القرارت المتشككة وغير المتشككة تأويليا، تأويل وجودنا/ عبره/ ومن اجله/ حيث صراع الاضداد الذي يأخذ صراع " الانا " مع الاخرى داخل " الانا "، وتأويل وجودها ببصيرة ابستمولوجية، تحيل ذلك المفهوم من شكلانيته الساكنة، الى مفهوم مادي وحركي، وكأنه يسترجع جذرية الشروط المؤسسة لذلك الفعل قبالة فعل معرفي لاحق، وعلى رأي " فوكو " السرداب الذي يشكل اركيولوجيا الفكر الذي يتجاوز الايديولوجيا والعلاقات الواقعية والخيالية التي تصل الى ( التوحد/ التقمص/ التضاد/ والتلاحم ) في آن، كحالات مثلى للتوغل في الذات واستبطانها.
هذه الرواية الفلسفية بالمفهوم التاريخي تستنهض العقل/ الفعل من خلال ما تراه وتطرحه من قوة مقتدرة لعناصر النقائض. كما هو الحال في الالوان، التي اتت تسمياتها كما يرى الكاتب من حيث لا نعلم.
حيث " وضعناها في قوالب نحن ارتضيناها، بغرورنا العاجز عن تشكيل الاشياء من بداياتها. وهنا يتساءل:
- لماذا علينا، ولماذا رضينا بان نقبل التسميات للونين؟
- لماذا لا يكون الابيض اسود، والاسود ابيض؟ص79
وحين قبلنا اللونين قبلنا كل ما صاغته عيون البشر عبر الاجيال حول دلالاتهما ..." ص80
هكذا وقف مفهوم التضاد والتناقض معلنا عن نفسه بدخول مساحات الحيرة والتساؤلات. وكأنه يدعو لنزع الافكار من قولبتها وتسليعها المسبق. انه رأي في الوجود يترجم موقفا ما حيال النظام الاجتماعي القائم نقدا، املا، نسغا، واتجاها، الامر الذي يؤكد ان هناك غموضا واضحا، ووضوحا غامضا، يشير الى ان اكثر انواع الغموض نهوضا عندما يحاول المبدع اقناع نفسه بما يراه بعقله ويعتقده. عبر فعل بركاني منفصل عن التقليدي، ومنحاز للمختلف. فالمتنبي ليس كالخنساء، والمريض مختلف عن طبيبه، كما هو الحال في الاختلاف بين " المعقد " و " المجنون " او الاسود والابيض.
فهل هناك جنون فعلا!؟ وما/ ومن هو المجنون؟
ام ان هناك عالم خاص بذاته له خواصه ومساحاته!؟
الجنون حالة من خمول الدماغ عصية على الفهم، تختلف عن حالة ذلك الواقف بين الوعي واللاوعي. وكلا الحالتين تتسع وتتحدد كل يوم " حتى تصبح كدوامة تحمل زوبعة من نار مرسلة تدور في النفس لتلوحها وتصلبها على مفارق ومنحنيات مختلفة ". ص157
أليست هذه المقاربة زودت المتلقي برؤية جديدة، اساسها خض الذهن ورجه بقوة؟
انها حاولت تخليص " الانا " و " الانا الاخرى " من الالتواء الذهني في محاولة لكسر المنظومات التراجعية، وسلوك الهبوط/ الانضواء تحت التقليدي المتوارث، مبرزة اسرار الجوهر المشغول بالبعث، الصحو، والفجائعية احيانا، والتي رغم هذا قد تجعل الحرية مطلقا. وهكذا تسقط الشوائب ويزداد الوضوح، بمفهومه الارادي والتكويني، وليس المادي والآحادي، يطهر العقل/ كما يرى الكاتب/ من اوهامه.
لهذا يطرح من مفهوم فلسفي، بحث الفرق بين قانون البقاء " الذي يتحدد داخل الغابة بالغريزة/ وقانون القتل/ الذي يمارسه الانسان باسم البقاء". ص117
كما ان طريق المشفى حيث غرفة " عزرائيل " و " شبح بهجة " الضحية المذبوحة بيد اخيها، غير طريق جنود الدورية، رغم ما بينهما من قواسم مشتركة اساسه الم اللذة التي لم يرغب المتحدث في فقدانها، وهو يفكر كيف سيتلقى الرصاصة.
واخيرا لا يسعنا القول سوى ان " انهيار " كرواية مختلفة رفدتنا بحالات متشابكة من الحكمة الارضية " المعرية، ممزوجة برؤى دانتوية، اخروية، بأسلوب ادبي ممتاز في طريقة التفكير والتعبير والتصوير، انه ( اسلوبه المشتق من نفسه هو، نفسه المتعطشة، التي تحاور رحلة الاقتراب، بعقله وعواطفه وخياله، ثم لغته ) معا.
ونظرا لعظم اهمية الاسلوب، وعبقرية الكاتب التحليلية نفسيا، عبر مقاربات تعويضية تؤكد ان شرارة نوعية لا ينفذ اليها القاص الا بطريق الحدس، وهو من اجل ذلك يُحس ولا يُعبر عنه، الامر الذي يؤكد ان الاسلوب هو اشتقاق الاديب من الاشياء ما يلائم عبقريته، ومن هنا تنمو وتتنامى الفلذة الشعورية في العمل، وينوس مقياس المفاجأة تبعا لردود الفعل، ومعدن المفاجأة ومولودها هو اصطدام القارئ بتتابع جمله وتداخل حواراته بالربط بين جملة الموافقات لجملة المفارقات في نص الخطاب حيث حسب جاكوبسون ( تولد اللامنتظر من خلال المنتظر ) حيث اصبح المريض هو المرسل، وطبيبه هو المستقبل.
" المريض كان يعيش حالة اخرى، حالة ارتجاج هائلة بين ما اوصل الطبيب اليه، وبين انانيته في امتلاك الالم، والوجع، وحالة التساقط النفسي التي وقع الطبيب بها، هي نتاج الخطة التي رسمها له منذ اللحظة الاولى"ص74
هذا التوليف الذي يتقدم من الحسي الى الفلسفي، من العقلي والخيالي المرئي والخارق ( أي اللانهائي في النهائي ) يشكل رؤية الكاتب للواقع الموضوعي في بلدته عبر الحالات التي تطرق اليها النص، وكأن هذه الرؤيا من العوامل التي ساعدت رغبة التشكل الذهني للناس من جديد من منطلق اشفاقه عليهم.
وعلى كل حال، فان هذه الرواية التي بين ايدينا تشكل حالة الصعود/ او الرغبة منه دون الانهيار. هكذا هي تنم عن نشاط متميز يتضح في افتراض قدرتها على الكشف، ومحاولة القبض على عنق تشيؤ الاشياء.
لذلك لم يكتف شكلها البنائي بواقعة ما/ واحدة، او شخصية هامشية، يمنحها النمو الموضوعي. لقد كانت الشخصية الرئيسة/ الطبيب/ المريض/ حبتا عقد لأحداث متباينة/ متداخلة، وشخصيات متناقضة/ متقاربة/ عبر ازمنة جديدة/ قديمة...
- الزمن الذي نستشفه من خلال ثنايا السر ( ثقافة الطبيب ).
- الزمن النفسي للشخصيات ( المركزية، الثانوية، من خلال حضورها الفعلي ).
- الزمن المفترض ( زمن القص/ وهو الحاضر/ الماضي/ المستقبل الذي يخوض في تفاصيل الحالات بالعين المحايدة، لكنه يحمل الانتصار المبطن لشيء اعلنته الرواية على لسان الكاتب ...
" صحيح اني كنت ابحث عن الالم بين تلك الاحداث، وكنت اشعر به تماما، او كنت اظنني اشعر به، لكن بعد الموت الذي سكن اعماقي، واضاف الي نوعا من رؤيا اكتشافية، تستطيع وبخفاء دهي غير مدرك، ان تجعلني اعيش لحظاتهم الاخيرة، وجعهم الذي يحتاج الى زمن يمتد من لحظة الخلق، الى لحظة القيامة، كي يسجل او يوصف، وهلعهم الموصول بالرعب والخوف الى ما لا نهاية"ص141
لقد جاء هذا النص ليشكل صورة عفوية لاندلاع اليقظة الذاتية للمختلف الذي يكمن في الواقع الملموس، والمحسوس، وفي ملامح التواشج والاختلاف بين الشخوص الحية والنامية، والتي من خلالها برزت الوشائج الحقة بين الظواهر، وقوانينها الخفية، فالشخوص واضحة محددة، والامكنة ثابتة وبارزة. كما ان الحوادث تنتظم في نسق يخدم الحدث الاكبر، فامتلك النص شروط الخطاب المناوئ. حيث نفذ بذلك الى المحيط الجواني للوعي الذاتي. فاستطاع ان يرى ويدرك ما لم يدركه سابقا.
- " لحظتها ادركت وبتيقن حازم ان الخوف له اشكال مختلفة، وان الرعب يملك اكثر من قناع".ص30
- " الزمن شيء غير مرئي، نتحدث عنه، نلمسه بكل حركة من حركات حياتنا، لكننا في الحقيقة لا نعرف عنه شيئا، لا ندرك معناه، ولا كنهه، نسلم به تماما، كما سلمنا بالالم".ص81
- " النفس شيء اخر، لا تكفي كل مصطلحات المجهول، والغامض والمبهم، وكل ما يشابهها من الفاظ بلغات الكون، ان تعطي ولو قدرا ضئيلا عن حركة واحدة من حركاتها".ص105
بما يؤكد ان العلم رغم تفوقه لا يعرف معنى الفرح، والحزن، والموت، لأنه لا يستطيع اخضاع ذلك الى التجارب والتحاليل المخبرية. هكذا بات هذا العمل الابداعي مثالا واضحا بين ان كاتبنا من فرسان الوثيقة النفسية في العمل الروائي، هذه الرواية ليست "انهيارا"، انما هي رواية الصعود الذي اراده الكاتب لنقاطه البشرية.!