الأدب الإسلامي بين التحدي والتصدي

الأدب الإسلامي

بين التحدي والتصدي

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

أغلب دعاة الأدب الإسلامي يرفضون الأدب الجاهلي بإطلاق ، مع أن منه ما لا يخالف الروح العامة للأدب الإسلامي.

كما أنها ستسقط من معجم تاريخنا الأدبي شعراء كأبي نواس، وبشار بن برد، ومن في شعرهم حظ كبير من الغزل والمجون .

وأنها دعوة وعظية تجافي روح الفن، ومكانها الطبيعي منابر المساجد، وقاعات المجمعات الدينية .

وأنها دعوة ـ لو نجحت لأفسدت أذواق المتلقين، وجففت إحساسهم بالفن والجمال.

وأنها دعوة تؤدي إلى نهوض دعوات وتجمعات أدبية تعصبية من أدباء الأديان والأيديولوجيات الأخرى .

وأنها دعوى ستؤدي إلى تفريق أبناء الأمة العربية الواحدة على أساس "دينية الأدب" بمفهوم عقدي حاد، فالأمة العربية تضم أقليات من الملل الأخرى، لها أدباؤها ونقادها وشعراؤها.

على أن إبداع الإسلاميين ـ من ناحية الكم ـ لا يمثل ـ حتى الآن ملامح مدرسة، أو معالم فارقة لتيار أدبي متميز. أما من ناحية الكيف فهو يعطي اهتمامه الأول في التركيز على الموضوعية، والفكرانية الإسلامية في أداء تعبيري تقريري ، وكل أولئك على حساب الجماليات والقيم الفنية .

ويخص الهاجمون المعترضون بعد طرح هذه النقائص أو المثالب ـ من وجهة نظرهم ـ إلى طرح سؤالهم الاستنكاري المعهود :

فلماذا الأدب الإسلامي إذن؟ ولماذا الدعوة إلى مثل هذا الأدب ونحن عرب وأدبنا عربي؟

*********

وقد تكفل الأدباء والنقاد الإسلاميون بدحض هذه الاعتراضات في مقالات وبحوث، وكتب متعددة، وجاءت هذه الردود ـ في وضعيتها الزمانية ـ بعد إثارة هذه الاعتراضات ونشرها، وهذا ترتيب طبيعي زمنيًا. ولكن الذي يشد النظر، ويدعو إلى العجيب حقًّا أن أغلب هذه الاعتراضات والشبهات نجد ما يردها، بل ينسفها في كتابات سابقة عليها بعشرات السنين ـ على فترات متفاوتة .

وذلك في مقالات ودراسات وكتب لدعاة الأدب الإسلامي مثل سيد قطب، ومحمد قطب، وعبد الرحمن الباشا ونجيب الكيلاني وعماد الدين خليل، ومحمد حسن بريغش، وعبد الباسط بدر ، وعمر الأميري وغيرهم .

كما أن الإبداعات الإسلامية في مجالات الشعر، والقصة، والرواية، والتنظير بلغت درجة طيبة جدًّا من النضج، وكتب فيها أطروحات أكاديمية حصل بها الدارسون على درجات الماجستير والدكتوراه .

فثوران هذه الاعتراضات ـ مع أن إجاباتها الحاسمة موجودة مسبقًا في طروحات الإسلاميين كما ذكرنا ـ يقودنا إلى حقيقة مؤلمة، ومخزية في الوقت نفسه، وهي أن الذين يهاجمون ويعترضون لم يقرءوا ما كتبه الإسلاميون من تنظيرات، أو مقدمات ومداخل لتنظيرات وتقعيدات للأدب الإسلامي، ولو قرءوها ـ بعين بصيرة، وفكر مفتوح ـ لما أثاروا هذه الشبهات والاعتراضات؛ لأن فيها الجواب الشافي لمن أراد .

كما أؤكد أنهم لم يقرءوا من إبداعات الإسلاميين إلا القليل ، بل أقل القليل، وأكاد أؤكد كذلك أنهم لم يطلع بعضهم على اعتراضات بعضهم الآخر. ومن باب أولى على ما نكتبه من نقض لهذه الاعتراضات، بدليل أن هذه الاعتراضات بعينها تتكرر كثيرًا، وإن اختلفت في أدائها التعبيري، حتى أصبحت من كثرة تكرارها تثير الملالة بل الغثيان. ولكنهم ما زالوا يتشبثون بسؤالهم الاستنكاري: لماذا الأدب الإسلامي ؟!

وحتى لا يطول، أو يتطاول، بنا حبل الجدل: نقول ـ نحن الكتاب الإسلاميين ـ إننا أحق بأن نسأل هؤلاء المعترضين: بل لماذا الأدب اللا إسلامي ؟!!

وذلك لأن الأصيل في أرضه وسكنه، وبين أهله لا يُسأل عن سبب وجوده في موقعه هذا، بل يسأل الطاريء الدخيل؛ لأنه شذوذ هبط ـ بفعل فاعل غير سوي ـ في غفلة أو تهاون من الأصلاء .

واستقراء التاريخ يقطع بأن الأدب الإسلامي ولد مع مبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ونهل من القرآن والسنة، والقيم الإسلامية العليا، وسبقه رصيد طيب فيالعصر الجاهلي مما نسميه "بأدب الفطرة الإنسانية" كبعض شعر لبيد والأعشى، وزهير بن أبي سلمى. وامتد الأدب الإسلامي امتداده الحميد من عهد النبوة إلى وقتنا الحاضر، مرورًا بالعصور: الأموي، والعباسي، والمملوكين والتركي . وكان الأدب الإسلامي ـ كظاهرة رئيسية في حياة الأمة العربية يزداد توهجًا وقت الأزمات والنكبات، وإعلان الجهاد، والدعوة إلى القيم الرفيعة، فكان هو الأقوى حضورًا ، وإن لم يكن الأعلى صوتًا في بعض الفترات ، وذلك لسبب لا يرجع إلى طبيعته، ولكن إلى بعض المؤرخين الذين وجهوا أقلامهم لرصد آداب القصور والعواصم دون غيرها من القرى والصحراء مما أعطى انطباعًا واهمًا بأن عصرًا كالعصر العباسي كان عصر تهتك وسقوط، ودعارة أدبية ، وروج لهذه الأكذوبة كثير من المستشرقين ومن والاهم وسار على دربهم من تلاميذهم العرب ، فسلط هؤلاء الأضواء المكثفة الباهرة على أمثال أبي نواس، وبشار بن برد ، وأغفلوا شعراء القيم والأخلاقيات من أمثال أبي محمد اليزيدي وكلثوم العتابي، ويعقوب الخريمي، وابن الخبازة، وسلمة بن عياش.

*********

إن الأمة الإسلامية ـ في وقتنا الحاضر ـ تعيش في طوفان من النكبات، وهي تواجه الآن أضرى الأعداء : الصهيونية العالمية ، والصليبية . وحركات التنصير ، والاختراقات الإسرائيلية، وجهود العلمانيين والحداثيين والملاحدة .

ومع اشتداد هذه النكبات والمآسي انبثقت صحوتان : صحوة فكري يسري في أعطافها عاطفة إسلامية إيمانية قوية ، وصحوة نضالية تتمثل في الانتفاضة الجهادية في فلسطين وكشمير، والفلبين وغيرها.

ومن ثم كان لا بد من صحوة أدبية تستمد الإسلام والقيم الإنسانية العلياء ، وتصل أدب آخر هذه الأمة بأدب أولها، وقد تمثلت هذه الصحوة في الأدب الإسلامي. وبها تستكمل هذه "الثلاثية الحميدة" وجودها الحي المنتج الفاعل في مجالات: الفكر ، والجهاد، والأدب ، أو العقل ، والسيف ، والقلم .

والأدب الإسلامي واسع المدى، رحب الآفاق ، فهو لا يحجز على الإبداعات التي توافقه، ولا تصطدم بقيمة ومثالياته ، ولو كان المبدعون من غير المسلمين ؛ لأنها إبداعات "موافقة " أو "محايدة" ويصدق هذا المعيار على إبداعات العقول والقرائح على مدار التاريخ الإنساني كله: من وصف الطبيعة، وتصوير النفوس، والغزل، والرثاء المنصف، والنقد البناء ... إلخ . فلم يبق إذن إلا الأدب الساقط الماجن من خمريات وفحشيات، ونفاقيات ، وهذا ما يرفضه الإسلام ، والأدب الإسلامي ، بل ترفضه الفطرة السليمة، وقد قرأنا أن بعض الجاهليين حرموا على أنفسهم الخمر بمقولة "ما كانت بالأحمق حتى أستر عقلي بيدي " . وهذا الأدب الساقط يؤدي ولا شك ـ إلى تخريب عقول الشباب ، وتدمير أخلاقيات الشعوب ، وفي هذا المقام نذكر قول "ديورانت " إن وراء انهيار كثير من الحضارات عاملاً رئيسيًا واحدًا اسمه خراب الأخلاق والعقول .

وعودًا على بدء : أقول إن على مثيري الشغب، والاعتراضات على " الأدب الإسلامي " قبل أن يسألونا : لماذا الأدب الإسلامي ؟ أن يسألوا أنفسهم ـ قبل أن نسألهم: لماذا الأدب اللا إسلامي؟ لأننا نستصحب الأدب الأصيل الجليل، أما هم فيستصحبون الطارئ الدخيل ، والبقاء للأصلح وإن طال الأمد .

*********

نعم نحن ـ دعاة الأدب الإسلامي ـ نصاحب هذا الأصل الكريم الذي يحمل عبق النبوة والصحابة، وجهاد السلف الصالح، بالكلمة التقية النقية النافذة ، ونتخذ من الكلمة القرآنية سلاحًا من أسلحة الجهاد الشريف عملاً بتوجيه رب العزة لنبيه مشيرًا إلى القرآن الكريم :(فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا ) الفرقان (52) .