السيد بونتيلا وتابعه ماتى !!
السيد بونتيلا وتابعه ماتى !!
علاء الدين حمدي
ـ قررت إعادة قراءتها بعد خمسة عشر عاما من قرائتى الأولى، أحسست أن شيئا ما يستدعيها من ذاكرتى ويدفعنى دفعا لتوقيعها طوبغرافيا، حسب طريقة اخواننا العسكريين، على بعض مشاهد وشخوص واقعنا المصرى، ربما لأننى ألمس بواطن الرواية يوميا فى تصرفات وكلمات وقرارات الكثيرين ممن شاءت إرادته سبحانه، ولا معقب لحكمه ولا اعتراض على مشيئته، أن يجعلهم، لحكمة خافية على أمثالى، فى صدارة المشهد السياسى المصرى يقررون مصير الوطن ومستقبل أبنائه بتناقضاتهم المتناقضة !
ـ إنها رواية "السيد بونتيلا وتابعه ماتى"، رائعة الكاتب المسرحى الألمانى "برتولت بريخت" ترجمة الدكتور عبد الغفار مكاوى، والتى تظهر روعتها فى كونها لا تتحدث عن فكرة محورية ولا تتبنى ايدولوجية معينة، وانما تستمد مفهومها من الملاحم الشعبية التى يمكن أن تجدها بحذافيرها فى أى بقعة على ظهر الكوكب.
ـ تتحدث الرواية عن "السيد بونتيلا"، المحاط بهالة من العظمة الأسطورية كأحد كبار الإقطاعيين فى قريته، هالة لا يهتم من أحاطوه بها بكونه احد الظالمين الفسدة الذين يتناقض خطابهم بين قمة الفساد وقمة الإصلاح بفارق دقائق قليلة، بينما يبقى فعلهم دائما داخل اطار الفساد وحده !
ـ فإن شرب "السيد بونتيلا" وأسكرته نشوة الخمر، ظهرت انسانيته واكتشف فداحة الجرم الذى يرتكبه فى حق مجتمعه كل لحظة، وأقر بأنه رجل شديد السوء يحارب المبادىء ويترصد أصحابها، ثم تجده يبكى، ويتمنى أن تسقط الحواجز بينه وبين مجتمعه، ثم يتوب وينوب، ثم يطلق تصريحاً يحمل بين سطوره الأمل فى التغيير، يتعهد فيه بلم شمل أهل القرية وتحقيق مطالبهم حتى يمكنه أن ينعم بينهم بحياة أكثر حباً، وأنه قرر التكاتف معهم، بحكم موقعه، لبناء غدٍ أكثر إشراقا.
ـ وإن إستفاق "السيد بونتيلا" وصحا من سكرته، يكتشف مَن سمعه، فى اعترافات السُكر، أنه كان يفكر بقلبه لا بعقله، ويحس بوعيه الباطن لا بشعوره الظاهر، وأنه إنقلب وحشاً حقيقياً له مخالب الطبقة المستغلة وأنيابها، وفيه قسوتها وخداعها، انه كائن آخر يختلف ويتناقض مع ذلك السكران الذى رآه ! كائن عاد الى أطماعه واستغلاله من جديد ، ونسى ما تعهد به وكأنه لم يكن، وكأنه لم يسكر قط !!
ـ وبين سُكر "السيد بونتيلا" وصحوته، يظهر تناقض خطابه تناقض الخمر واللبن، وتضارب قراراته تضارب الليل والنهار، وكأنما أخرج السُكر حقيقته الكامنة وكشف ستر إحساسه الدفين بالذنب الذى يرتكبه فى صحوته التى يحياها لحماية مصالحه وإملاكه وقصف رقاب معارضيه الذين يعترف بنبل مقاصدهم إذا سَكر ! فيتراجع عن وعوده الطيبة وكلماته الرحيمة، ويتنكر لكل تصرفات سُكره التى تمثل قناعته بما ينبغى أن تكون عليه الحقيقة التى ينكرها فى صحوته !
ـ يبحث "السيد بونتيلا" جواره عن أولئك الندامى الذين اعتاد استمالتهم بدعوتهم للشراب، فيجدهم وقد تساقطوا من على كراسيهم ثمالى بما فيهم قاضى المدينة وصاحب الكلمة الرسمية العليا فيها، فيرى نفسه وحيدا لن يسمعه أحدهم إن تحدث عن مغامراته ومشاريعه إلا ساقى الحانة، ذلك الذى كثيرا ما استخدمه فسبر غوره وعرف أبعاده وثمنه ، فآنفت نفسه عن منادمته .
ـ وفجاة يقبل تابعه "ماتى" بعد أن تركه السيد ينتظر فى الخارج كثيراً، يدخل وقد لسعه البرد والجوع ، فيقبل على بقايا مائدة السيد يتناول فتاتها مرغما مكرها، ربما ناعياً حاله وما وصلت اليه وكيف انه هو الأولى بالمكانة التى يرفل فيها سيده، ومع ذلك فـ "ماتى" لا يفارقه عقله البارد ومحاولته للظهور بمظهر الذكى المتزن، أو السياسى المحنك، عسى أن يًمكِّنه ذلك من إقتناص فرصة تضمن له نوعاً من الانتعاش المحدود الذى لا يمكن لتفكيره الضيق أن يصل الى أبعد منه، فيسعى لإختبار إنسانية سيده السكران، فيحكى، فى إحتيال خائب وسذاجة بادية، عن قصص الأشباح التى تظهر فى ضيعة السيد، وكيف أن رائحة اللحم المشوى كفيلة بإبعادها !!
ولكن السيد لم يكن أبداً بذلك الغباء، حتى فى حالات سكره الذى لم يمنعه من طرد ذلك العامل الاشتراكى الذى تجرأ وطالب بحقوق العمال، فأذنه ترفض سماع ما لا يحب سماعه، وهو يعلم جيدا ما يخطط له تابعه "ماتى"، حتى وإن توقف طموحه عند قطعة من اللحم المشوى ! فيغير الموضوع بحرفية من يجيد المراوغة، ويحدثه مضطراً، فلم يبق غيره نديما، يحدثه عن خطاياه فى حق أهل القرية، وكيف أنه يتمنى أن يجعل من صديقه "ماتى" وكيلاً عنه يرعى شئون العاملين فى المزرعة والقصر، يحدثه عن طموحاته الخاصة ومشاكل جشعه المادى أو المعنوى، وكيف أنها تحتاج لتمويل لن يتحقق إلا بإستغلال مزرعة القرية الكبرى التى منحته تلك الهالة الأسطورية وقصرها المنيف، أو بالغرق فى بحار الود والغرام مع تلك الشمطاء العجوز التى تطمع فى تبوير المزرعة لتنتعش مزرعتها المقابلة على الطرف الآخر من القرية.
يصمت "ماتى"، ولا ينصح سيده بشىء، يتركه يواجه مصيره المحتوم عندما يثور أهل القرية، إضافة الى أن ما يقوله السيد يخرج عن نطاق استيعابه الذهنى وطموحه السياسى الذى توقف عند قطعة اللحم المشوى !
فينهضان لمغادرة الحانة، "ماتى"، مرغماً، يحمل ذلك الفاقد للوعى .. القاضى المسكور بخمر السيد، وأمامه يمضى السيد مترنحا ثملاً، يرغمه على التوقف مرة بعد أخرى لسماع خططه عن المستقبل، بينما "ماتى" يئن من وطأة ثقل القاضى على كتفه، ويخشى الاعتراض عن الحمولة أو التملل من سماع السيد، وترتسم على وجهه علامات البلاهة، ظاناً أنه يمنع نصحه وخبراته السياسية عن سيده بونتيلا، بينما الحقيقة أن منتهى تفكيره توقف عند حدود قطعة اللحم المشوى !
بتصرف.
ضمير مستتر:
قال، صلى الله عليه وسلم، "ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق فيها الرويبضة، قيل وما الرويبضة ؟، قال الرجل التافه يتكلم في أمر العامة".