عُكَاشِيَّاتٌ 2
عُكَاشِيَّاتٌ 2
[تَعْليقَةٌ عَلى مَتْنِ "مُذَكِّرَاتِي فِي السِّيَاسَةِ وَالثَّقَافَةِ" لِلدُّكْتُورِ ثَرْوَتْ عُكَاشَهْ]
د. محمد جمال صقر
مِنْ أَدَبِ الْمُفَاوَضَةِ
قَالَ:
فِي يَوْمِ 23 فِبْرَايِرَ الْتَقَيْتُ بِالْمِسْيُو لُوِي جُوْكْسْ وَزِيرِ الدَّوْلَةِ الْفَرَنْسِيَّةِ لِشُؤُونِ الْإِصْلَاحِ الْإِدَارِيِّ بِمَقَرِّ وَزَارَتِهِ. وَبَعْدَ تَبَادُلِ عِبَارَاتِ الْمُجَامَلَةِ التَّقْلِيدِيَّةِ عَرَضْتُ الْمَوْضُوعِ، فَقُلْتُ: إِنِّي مُكَلَّفٌ بِرِسَالَةٍ شِبْهِ رَسْمِيَّةٍ مِنْ رَئِيسِنَا، أَرْجُو إِبْلَاغَهَا لِلْجِنِرَالِ دِيجُوْلَ شَخْصِيًّا. وَلِعِلْمِي بِمَكَانَتِكَ الْمُقَدَّرَةِ عِنْدَهُ، وَحُسْنِ اسْتِمَاعِهِ إِلَيْكَ، وَلِثِقَتِي بِصَدَاقَتِكَ لَنَا الَّتِي أَثْبَتَتْهَا الظُّرُوفُ فِي أَحْلَكِ الْأَوْقَاتِ- قَصَدْتُكَ لِإِبْلَاغِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ. فَبَعْدَ تَبَادُلِ الْأَمَانِيِّ الْحَارَّةِ الَّتِي تَبَادَلْنَاهَا فِي شَهْرِ أُكْتُوبَرَ الْمَاضِي أَثْنَاءَ زِيَارَةِ الْمُشِيرِ عَامِرٍ، آتِي إِلَيْكَ الْيَوْمَ بِعَرْضٍ وَاقِعِيٍّ أَرْجُو أَنْ يَصِلَ عَلَى لِسَانِكَ رَأْسًا إِلَى الرَّئِيسِ دِيْجُولَ. وَأَنْتَهِزُ هَذِهِ الْفُرْصَةَ كَيْ أَتَقَدَّمَ بِالتَّهْنِئَةِ عَلَى النَّجَاحِ الْبَاهِرِ الَّذِي حَقَّقَتْهُ فَرَنْسَا بِالْأَمْسِ فِي مَيْدَانِ الْفَضَاءِ بِنَجَاحِ صَارُوخِهَا دِيَامَانْ 1. وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ فَرَنْسَا تَعْتَنِقُ مَبْدَأَ عَدَمِ انْتِشَارِ الْأَسْلِحَةِ الذَّرِّيَّةِ، كَمَا نَعْلَمُ أَنَّ سِيَاسَتَهَا الْخَارِجِيَّةَ سِيَاسَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ تَمَامًا، وَعَلَى ضَوْءِ هَذَيْنِ الِاتِّجَاهَيْنِ أَعْرِضُ الْمَسْأَلَةَ... لَا الْمُشْكِلَةَ. لَقَدْ تَوَرَّطَتْ حُكُومَةُ جِي مُولِيهْ فِي عَهْدِ الْجُمْهُورِيَّةِ الرَّابِعَةِ فِي تَقْدِيمِ كَافَّةِ أَنْوَاعِ الْمُسَاعَدَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ لِإِسْرَائِيلَ -وَخَاصَّةٌ فِي الْمَيْدَانِ النَّوَوِيِّ- فَكَانَ لِمُسَاعَدَتِها غَيْرِ الْمَحْدُودَةِ أَثَرٌ فِي التَّقَدُّمِ الْكَبِيرِ الَّذِي أَحْرَزَتْهُ الْآنَ فِي تَكْوِينِ مُفَاعِلِهَا الذَّرِّيِّ، وَفِي إِمْكَانِيَّةِ حُصُولِهَا عَلَى الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ فِي عَامِ 1970، كَمَا تَشْهَدُ عَلَى ذَلِكَ هَذِهِ الْمَقَالَةُ الرَّئِيسِيَّةُ بِعَدَدِ شَهْرِ فِبْرَايِرَ لِمَجَلَّةِ REALITES أَشَدِّ الْمَجَلَّاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ جِدِّيَّةً وَمَوْضُوعِيَّةً -وَهُنَا عَرَضْتُ عَلَيْهِ نُسْخَةً هَذَا الْعَدَدِ الَّتِي يَتَّضِحُ مِنَ الْمَقَالِ الْمَنْشُورِ بِهَا أَنَّ الْجُمْهُورِيَّةَ الْعَرَبِيَّةَ سَتَتَمَكَّنُ مِنَ الْحُصُولِ عَلَى الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ فِي عَامِ 1975، بَيْنَمَا سَتَصِلُ إِلَيْهَا إِسْرَائِيلُ فِي عَامِ 1970- وَالشُّعُورُ السَّائِدُ لَدَى الْعَرَبِ عَامَّةً وَمِصْرَ خَاصَّةً أَنَّ فَرَنْسَا -سَوَاءٌ كَانَتِ الْجُمْهُورِيَّةَ الرَّابِعَةَ الَّتِي ارْتَكَبَتْ هَذِهِ الْخَطِيئَةَ، أَمِ الْجُمْهُورِيَّةَ الْخَامِسَةَ الَّتِي وَرِثَتْ هَذِهِ التَّبِعَةَ- مَسْؤُولَةٌ أَمَامَ التَّارِيخِ بِلَا جِدَالٍ عَنْ دُخُولِ الصِّرَاعِ بَيْنَ الْعَرَبِ وَإِسْرَائِيلَ فِي هَذَا السِّبَاقِ الَّذِي لَنْ يَقِفَ عِنْدَ حَدٍّ؛ فَبَعْدَ الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ سَيَتَّجِهُ التَّفْكِيرُ إِلَى الْقُنْبُلَةِ الْهَيْدُرُوجِينِيَّةِ، وَهَكَذَا سَيَمْضِي السِّبَاقُ إِلَى غَيْرِ نِهَايَةٍ -وَأَرْدَفْتُ قَائِلًا- إِنَّ الرَّئِيسَ عَبْدَ النَّاصِرِ يُدْرِكُ عَدَمَ جَدْوَى هَذَا السِّبَاقِ كَمَا يُؤْمِنُ بِمَبْدَأِ عَدَمِ انْتِشَارِ الْأَسْلِحَةِ الذَّرِّيَّةِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِأَنْ يَقِفَ مَكْتُوفَ الْيَدَيْنِ أَمَامَ الْخَطَرِ الَّذِي يَتَهَدَّدُنَا؛ فَوَفْقَ إِحْصَائِيَّاتِكُمْ تَسْبِقُنَا إِسْرَائِيلُ بِخَمْسِ سَنَوَاتٍ عَلَى الْأَقَلِّ فِي هَذَا الْمَيْدَانِ الْخَطِيرِ، وَهِيَ فَتْرَةٌ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ، مَلْأَى بِكُلِّ أَنْوَاعِ التَّهْدِيدِ وَالدَّمَارِ وَالْخَطَرِ، وَهُوَ مَا يَجْعَلُ الرَّئِيسَ يَعِزُّ عَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ جَامِدًا حَتَّى يَتَحَوَّلَ شَعْبُنَا إِلَى شَرَاذِمَ مِنَ اللَّاجِئِينَ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ الدَّخْلَ الْقَوْمِيَّ عَلَى حَلِّ مَشَاكِلِ بِلَادِهِ وَالِارْتِفَاعِ بِمُسْتَوَى سُكَّانِهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يَرَى مَفَرًّا مِنْ وَضْعِ نَشَاطِ إِسْرَائِيلَ الذَّرِّيِّ فِي حِسَابَاتِهِ -وَاسْتَطْرَدْتُ أَقُولُ- وَكَمَا تَعْرِفُونَ فَقَدْ بَدَأْنَا مُنْذُ وَقْتٍ غَيْرِ قَصِيرٍ بِتَطْبِيقِ بَرْنَامِجٍ نَوَوِيٍّ لِلْأَغْرَاضِ السِّلْمِيَّةِ وَلِإِنْتَاجِ الْمَوَادِّ الِانْشِطَارِيَّةِ؛ فَعَلَى أَيِّ دَوْلَةٍ تُرِيدُ صِنَاعَةَ الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ أَنْ تَمُرَّ بِمَرْحَلَتَيْنِ: تَخْتَلِطُ الْمَرْحَلَةُ الْأُولَى مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ تَفَاصِيلِهَا بِتَطْبِيقِ بَرْنَامِجِ الذَّرَّةِ الْمَدَنِيَّ، وَتَنْتَهِي بِإِنْتَاجِ الْمَادَّةِ الِانْشِطَارِيَّةِ- وَالْمَرْحَلَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ مَرْحَلَةٌ عَسْكَرِيَّةٌ بَحْتَةٌ، تَنْتَهِي بِتَجْرِبَةِ الْقُنْبُلَةِ. وَسَوْفَ تَسْتَطِيعُ إِسْرَائِيلُ خِلَالَ خَمْسِ سَنَوَاتٍ إِحْرَازَ تَقَدُّمٍ أَكْبَرَ نِسْبِيًّا فِي الْمَيْدَانِ الذَّرِّيِّ، وَفِي خِلَالِ السَّنَوَاتِ الْعَشْرِ الْقَادِمَةِ سَوْفَ تَسْتَطِيعُ ثَمَانِي دُوَلٍ أُخْرَى اللَّحَاقَ بِهَا، مِنْهَا الْجُمْهُورِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ. وَالْمُتَوَقَّعُ أَنَّهُ فِي حَوَالَيْ 1980 سَوْفَ تَسْتَطِيعُ أَغْلَبُ الدُّوَلِ الْأُخْرَى الَّتِي تُمَارِسُ الْآنَ بَرْنَامَجَ أَبْحَاثٍ ذَرِّيَّةٍ، النَّظَرَ فِي صِنَاعَةِ الْقُنْبُلَةِ الذَّرِّيَّةِ. وَلَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّهُ بِانْتِشَارِ الْمَعْرِفَةِ وَالتَّقَدُّمِ الْفَنِّيِّ فِي عُلُومِ الْكِيمِيَاءِ وَالْإِلِكْتِرُونَاتِ وَالْمَعَادِنِ، أَصْبَحَ مِنَ السَّهْلِ الْوُصُولُ إِلَى مَرْحَلَةِ الصِّنَاعَةِ الذَّرِّيَّةِ؛ فَقَدْ أَسْفَرَتْ بَرَاِمُج اسْتِخْدَامِ الْمُعَدَّاتِ الذَّرِّيَّةِ فِي النَّشَاطِ الْمَدَنِيِّ، عَنْ أَنَّ عَدَدًا مِنَ الدُّوَلِ وَجَدَتْ حُلُولًا لِلْعَدِيدِ مِنْ مُشْكِلَاتِهَا الْفَنِّيَّةِ الْخَاصَّةِ الَّتِي كَانَتْ تُوَاجِهُها، بَلْ إِنَّ أَيَّةَ دَوْلَةٍ تَمْلِكُ الْيَوْمَ الْمَعْرِفَةَ اللَّازِمَةَ وَأَقَلَّ الْمُعَدَّاتِ الصِّنَاعِيَّةِ، يُمْكِنُهَا أَنْ تَصْنَعَ لِنَفْسِهَا قُنْبُلَةً ذَرِّيَّةً بِنِصْفِ مِلْيَارِ فِرَنْكٍ فَحَسْبُ، كَمَا أَنَّ سِرِّيَّةَ السِّيَاسَةِ الذَّرِّيَّةِ ثَبَتَ فَشَلُهَا وَعَدَمُ جَدْوَاهَا، لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَنْعُ انْتِشَارِ الْمَعْرِفَةِ وَلَا التَّقَدُّمِ الْفَنِّيِّ وَلَا وُصُولِ عَدَدٍ مُتَزَايِدٍ مِنَ الدُّوَلِ إِلَى الْمُسْتَوَى الصِّنَاعِيِّ الْمُتَوَسِّطِ، وَهُوَ الْمُسْتَوَى اللَّازِمُ لِلْوُصُولِ إِلَى إِمْكَانِ صِنَاعَةِ السِّلَاحِ النَّوَوِيِّ. كَذَلِكَ فَإِنَّ سِيَاسَةَ الْإِشْرَافِ الَّتِي حَلَّتْ مَحَلَّ سِيَاسَةِ السِّرِّيَّةِ لَمْ تَعُدْ فَعَّالَةً أَوْ كَافِيَةً، وَالْحَلُّ الْوَحِيدُ كَمَا تَعْلَمُونَ حَقَّ الْعِلْمِ، هُوَ النَّزْعُ الْعَامُّ لِلسِّلَاحِ النَّوَوِيِّ، وَأَنْ تَنْتَقِلَ مِلْكِيَّةُ الْقُوَّةِ النَّوَوِيَّةِ إِلَى سُلْطَةٍ دَوْلِيَّةٍ لَهَا الْحَقُّ الْمُطْلَقُ فِي الْإِشْرَافِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَى جَمِيعِ الْمُنْشَآتِ الذَّرِّيَّةِ الْحَالِيَّةِ وَالْمُسْتَقْبَلِيَّةِ، غَيْرَ أَنَّ الدُّوَلَ الْكُبْرَى لَا تَبْغِي السَّيْرَ فِي هَذَا الطَّرِيقِ. وَلَمَّا كَانَ الدَّوْرُ الَّذِي تَلْعَبُهُ فَرَنْسَا فِي الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ كَمَا صَرَّحَ الْجِنِرَالُ دِيجُولُ لِلْمُشِيرِ عَبْدِ الْحَكِيمْ عَامِرْ، هُوَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى تَوَازُنِ الْقُوَى فِي الْمَنْطِقَةِ- فَقَدْ آنَ الْأَوَانُ لِفَرَنْسَا لِتَحْقِيقِ هَذَا الدَّوْرِ. وَاسْمَحْ لِي أَنْ أَدْعُوَهُ تَكْفِيرًا عَنِ الذَّنْبِ الَّذِي ارْتَكَبَتْهُ الْجُمْهُورِيَّةُ الرَّابِعَةُ...! فَقَاطَعَنِي الْمِسْيُو لُوِي جُوكْسْ بِقَوْلِهِ: هَلْ تُرِيدُونَ ضَمَانًا؟ قُلْتُ: كَلَّا الْبَتَّةَ! قَالَ: لِمَاذَا؟ قُلْتُ: لِنَفْسِ السَّبَبِ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ الْجُمْهُورِيَّةُ الْفَرَنْسِيَّةُ الْخَامِسَةُ؛ فَرَفَضَتِ الْحُصُولَ عَلَى ضَمَانِ الْوِلَايَاتِ الْمُتَّحِدَةِ، وَقَرَّرَتْ أَنْ تَكُونَ الْمُبَادَأَةُ بِيَدِهَا؛ فَصَنَعَتْ قُنْبُلَتَهَا. مَا كَانَ أَيْسَرَ أَنْ نَطْلُبَ ضَمَانَ الِاتِّحَادِ السُّوفْيِيتِّيِّ! وَلَكِنَّنَا نَنْهَجُ دَائِمًا سِيَاسَةً مُسْتَقِلَّةً، وَمِنْ شَأْنِ مَنْ يَتْبَعُ هَذِهِ السِّيَاسَةَ أَلَّا يَضَعَ نَفْسَهُ تَحْتَ رَحْمَةِ قُوًى أُخْرَى كَيْ تَخْتَارَ الطَّرِيقَ الَّذِي تَقْضِي بِهِ عَلَيْهَا مَصْلَحَتُهَا الْعَامَّةُ -وَرَدَّ الْمِسْيُو جُوكْسْ عَلَى قَوْلِي بِابْتِسَامَةٍ، وَأَرْدَفْتُ قَائِلًا- هُنَاكَ حَلَّانِ: الْأَوَّلُ أَنْ تَتَدَخَّلَ فَرَنْسَا تَدَخُّلًا إِيجَابِيًّا لِإِيقَافِ إِسْرَائِيلَ عَنْ مُوَاصَلَةِ إِنْتَاجِ قُنْبُلَتِهَا الذَّرِّيَّةِ، بِطَرِيقَةٍ تَضْمَنُ بِهَا زَوَالَ هَذَا التَّهْدِيدِ عَنَّا حَتَّى تَقْتَنِعَ أَجْهِزَتُنَا الْمَسْؤُولَةُ عَنِ الدِّفَاعِ بِالِانْصِرَافِ عَنِ الْمُضِيِّ فِي هَذَا السِّبَاقِ اللَّامَحْدُودِ، وَهَذَا هُوَ الْحَلُّ الْأَمْثَلُ، لِأَنَّنَا نَتُوقُ إِلَى أَنْ نَحْصُرَ جُهُودَنَا فِي التَّغَلُّبِ عَلَى مُشْكِلَاتِنَا الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَاللَّحَاقِ بِرَكْبِ الْحَضَارَةِ، وَإِعْطَاءِ الْفُرْصَةِ لِلْمُوَاطِنِ الْمِصْرِيِّ كَيْ يَحْيَا حَيَاةً كَرِيمَةً. أَمَّا إِذَا تَعَذَّرَ هَذَا فَلَا مَعْدِلَ عَنْ أَنْ تَمْنَحُونَا مُسَاعَدَتَكُمُ الْفَنِّيَّةَ السَّرِيعَةَ وَالْفَعَّالَةَ، لِلَّحَاقِ بِالْمُسْتَوَى الَّذِي بَلَغَتْهُ إِسْرَائِيلُ بِفَضْلِ عَوْنِكُمْ وَأَصْبَحَتْ بِذَلِكَ خَطَرًا يُهَدِّدُ حَيَاةَ أَفْرَادِ شَعْبِنَا وَمُنْجَزَاتِنَا. وَلَسْنَا نَطْلُبُ تَسْلِيمَنَا الْقُنْبُلَةَ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ! وَلَكِنَّنَا نُطَالِبُ مُؤْمِنِينَ أَنَّنَا نُطَالِبُ بِحَقٍّ، بِالْقَدْرِ الْكَافِي مِنَ الْمَعْلُومَاتِ الَّذِي يُسَاعِدُنَا عَلَى إِنْجَازِ قُنْبُلَتِنَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مَعَ إِسْرَائِيلَ. إِنَّ نَشَاطَنَا النَّوَوِيَّ يَتَّجِهُ نَحْوَ الْأَهْدَافِ السِّلْمِيَّةِ -وَكَذَلِكَ تَدَّعِي إِسْرَائِيلُ- وَلَكِنَّكَ خَيْرُ مَنْ يَعْلَمُ أَلَّا حُدُودَ هُنَاكَ بَيْنَ الْأَهْدَافِ السِّلْمِيَّةِ وَالْعَسْكَرِيَّةِ! إِنَّ هَذَا الْمَوْضُوعَ بِالنِّسْبَةِ لَنَا عَلَى جَانِبٍ كَبِيرٍ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ الْعَاجِلَةِ. وَنَحْنُ عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِتَقْدِيمِ الْمُقَابِلِ بِطَبِيعَةِ الْحَالِ فِي الْمَيْدَانِ أَوِ الْمَيَادِينِ الَّتِي تُقَدِّرُ فَرَنْسَا أَنَّهَا مُنَاسِبَةٌ لَهَا. فَعَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ -وَهَذَا مَيْدَانٌ أَقْتَرِحُهُ بِصِفَةٍ شَخْصِيَّةٍ- طَالَعْتُ بِصَحِيفَةِ لُومُونْدْ عَدَدِ 15 فِبْرَايِرَ، الْأَزْمَةَ الَّتِي تَمُرُّ بِهَا صِنَاعَةُ الطَّائِرَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ الْكَارَافيلَ بَعْدَ أَنْ قَرَّرَتْ شَرِكَاتُ الطَّيَرَانِ الْإِسْكِنْدِنَافِيَّةُ وَالسُّوِيْسْرِيَّةُ وَالْإِيطَالِيَّةُ وَالْبَلْجِيكِيَّةُ وَالْأَلْمَانِيَّةُ، التَّخَلُّصَ مِنْ طَائِرَاتِهَا الْكَارَافِيلِ الْفَرَنْسِيَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ عَلَى خُطُوطٍ مُتَوَسِّطَةٍ، وَالتَّعَاقُدَ عَلَى شِرَاءِ طَائِرَاتٍ أَمْرِيكِيَّةٍ مِنْ طِرَازٍ D C 9 وَطِرَازِ بُويِنْجَ 727 الْجَدِيدِ، الَّتِي بَدَأَ تَسْلِيمُهَا إِلَيْهِمْ بِالْفِعْلِ، وَهُوَ مَا قَدْ يُسْفِرُ عَنْ أَنْ تُصَابَ هَذِهِ الصِّنَاعَةُ الْفَرَنْسِيَّةُ الْهَامَّةُ بِكَسَادٍ شَدِيدٍ فِي مَيْدَانٍ أُورُوبِّيٍّ تَقْتَحِمُهُ الصِّنَاعَةُ الْأَمْرِيكيَّةُ فَتَخْدِشُ الْكِبْرِيَاءَ الْفَرَنْسِيَّ الَّذِي ظَلَّ شَامِخًا فِي أُورُبَّا تَحْتَ رَايَةِ طَائِرَاتِ الْكَارَافِيلِ طَوَالَ السَّنَوَاتِ الْعَشْرِ السَّابِقَةِ. وَأَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنَ الْيَسِيرِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ أَنْ تَتَخَلَّصَ الْجُمْهُورِيَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ وَأَصْدِقَاؤُهَا مِنْ طَائِرَاتِهَا الْإِنْجِلِيزِيَّةِ، وَاْسْتِبْدَالُهَا بِطَائرِاَتِ الْكَارَافِيلِ. هَذَا مَيْدَانٌ وَاحِدٌ مِنَ الْمَيَادِينِ أَسُوقُهُ عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ لِإِظْهَارِ حُسْنِ النَّوَايَا. كَذَلِكَ هنُاَكَ الْكَسَادُ الَّذِي تُعَانِي مِنْهُ تَرْسَانَاتُ بِنَاءِ السُّفُنِ الْفَرَنْسِيَّةُ، وَتَسْتَطِيعُ الْجُمْهُورِيَّةُ الْعَرَبِيَّةُ الْمُتَّحِدَةُ أَنْ تَعْهَدَ إِلَى التَّرْسَانَاتِ الْفَرَنْسِيَّةِ بِبِنَاءِ أُسْطُولِهَا التِّجَارِيِّ. وَإِذْ تَتَّصِفُ سِيَاسَتُكُمْ دَائِمًا بِالِاسْتِقْلَالِ -وَهُوَ مَا تَنْتَهِجُهُ سِيَاسَتُنَا بِالْمِثْلِ- فَلِمَاذَا لَا نُقْدِمُ عَلَى تَجْرِبَةِ تَوْحِيدِ سِيَاسَتِنَا فِي كُلٍّ مِنَ الشَّرْقِ الْأَوْسَطِ وَأَفْرِيقِيَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ، بِتَبَادُلِ الرَّأْيِ بِطَرِيقَةٍ أَكْثَرَ عُمْقًا مِنَ الطَّرِيقِ الَّتِي نَتَبَادَلُ بِهَا الرَّأْيَ الْآنَ؟ وَهُنَا أَعَدْتُ عَلَى مَسَامِعِهِ الْحَلَّيْنِ اللَّذَيْنِ سَبَقَ أَنْ أَبْدَيْتُهُمَا، فَأَكَّدَ لِي أَنَّهُ سَيَنْقُلُ لِلرَّئِيسِ دِيجُوْلَ فَحْوَى هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ أَلِفِهَا إِلَى يَائِهَا، ثُمَّ كَرَّرَ لِي مَا عَرَضْتُهُ عَلَيْهِ كَامِلًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، وَأَرْدَفَ يَقُولُ: لَا أَظُنُّكَ تَتَوَقَّعُ مِنِّي إِجَابَةً فِي التَّوِّ وَاللَّحْظَةِ! قُلْتُ: لَا بِطَبِيعَةِ الْحَالِ؛ فَهُوَ أَمْرٌ لَهُ شَأْنُهُ وَمَسْؤُولِيَّتُهُ. وَلَمَّا أَخْبَرْتُهُ أَنِّي سَآتِي إِلَى بَارِيسَ لِحُضُورِ دَوْرَةِ الْمَجْلِسِ التَّنْفِيذِيِّ لِلْيُونِسْكُو فِي شَهْرِ مَايُو، قَالَ إِنَّ هَذِهِ الْفَتْرَةَ تَسْمَحُ لَهُ بِدِرَاسَةِ الْمَوْضُوعِ وَالتَّحَدُّثِ إِلَى الْجِنِرَالِ، حَيْثُ يَسْتَطِيعُ اسْتِئْنَافَ الْحَدِيثِ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ لَدَى عَوْدَتِي.
قُلْتُ:
هذا الحوار نمط فاخر من التفاوض على النحو الحديث، يزيد عجبي مما انطوى عليه الدكتور ثروت من مواهب مختلفة مؤتلفة- ومن شوقي أن يظل في بلادي مثله بعد بهجتي به!
الْهُرُوبُ مِنَ السِّيَاسَةِ
قَالَ:
بِرَغْمِ إِيمَانِي بِالْعَمَلِ الثَّقَافِيِّ إِلَّا أَنَّ مَنْصِبَ الْوَزِيرِ ذَاتِهِ لَا مَفَرَّ مِنْ أَنْ يُدْخِلَنِي فِي غَمْرَةِ الْمُشْتَغِلِينَ بِالسِّيَاسَةِ، وَهُمْ فِي كُلِّ بِلَادِ الْعَالَمِ -وَلَيْسَ فِي مِصْرَ وَحْدَهَا- رِجَالٌ ذَوُو اسْتِعْدَادٍ طَبِيعِيٍّ وَطِبَاعٍ خَاصَّةٍ تُمْلِيهَا عَلَيْهِمْ حِرْفَةُ السِّيَاسَةِ، وَأَنَا عَلَى طَبْعٍ مُغَايِرٍ. فَحِينَ انْضَمَمْتُ إِلَى الضُّبَّاطِ الْأَحْرَارِ، كُنْتُ أَحْمِلُ بَيْنَ جَوَانِحِي شُعُورًا عَامًّا لِتَحْرِيرِ الْوَطَنِ وَالشَّعْبِ، دُونَ تَفْكِيرٍ فِي أَنْ أَزُجَّ بِنَفْسِي فِي غَمْرَةِ السِّيَاسَةِ؛ وَلِهَذَا وَبَعْدَ نَجَاحِ الثَّوْرَةِ تَنَازَلْتُ طَوَاعِيَةً عَنْ مَكَانِي الَّذِي عَرَضَهُ عَلَيَّ جَمَالْ عَبْدِ النَّاصِرْ فِي مَجْلِسِ قِيَادَةِ الثَّوْرَةِ لِزَمِيلٍ كَرِيمٍ فَاضِلٍ لِأَسْبَابٍ ذَكَرْتُهَا قَبْلُ، مُبْتَعِدًا بِنَفْسِي عَنْ تَيَّارَاتِ السِّيَاسَةِ وَاضِعًا نُصْبَ عَيْنَيَّ أَنْ أُقَدِّمَ لِوَطَنِي مَا تَسْمَحُ بِهِ إِمْكَانَاتِي. وَكَانَ تَعَطُّشِي إِلَى الْمَعْرِفَةِ يَجْعَلُ الْكِتَابَ أَقْرَبَ رَفِيقٍ لِي، كَمَا كَانَ وَلَعِي بِالْمُوسِيقَى يَشُدُّنِي إِلَى مَوَاطِنِ النَّغَمِ! وَهَكَذَا كَانَتْ هِوَايَاتِي الْفَنِّيَّةُ تَسْتَحْوِذُ عَلَى أَوْقَاتِ فَرَاغِي كُلِّهِ، فَتَنْأَى بِي عَنْ أَنْ أُشَارِكَ فِي جَلَسَاتِ الدَّرْدَشَةِ، مِمَّا خَالَ الْبَعْضُ مَعَهُ أَنَّ بِي تَبَاعُدًا أَوْ تَعَالِيًا، وَمَا كَانَ هَذَا حَقًّا، بَلْ هِيَ رَغْبَةٌ مُلِحَّةٌ فِي مُطَالَعَةِ كِتَابٍ جَدِيدٍ أَوْ سَمَاعِ لَحْنٍ شَجِيٍّ!
قُلْتُ:
عجبا لك! أبعد ذلك كله تنكر السياسة!
فَتْحِي رِضْوَانْ
قَالَ:
كَانَ هَذَا بِفَضْلِ الْمُثَقَّفِينَ الَّذِينَ اسْتَعَنْتُ بِهِمْ وَالَّذِينَ هَيَّأَتْهُمُ النَّهْضَةُ الْفِكْرِيَّةُ الَّتِي بَدَأَتْ مَعَ مَطَالِعِ الْعِشْرِينِيَّاتِ، وَبِالِاسْتِئْنَاسِ بِجُهُودِ أُسْتَاذِنَا النَّابِهِ فَتْحِي رِضْوَانَ الَّذِي حَقَّقَتْ وَزَارَةُ الثَّقَافَةِ وَالْإِرْشَادِ الْقَوْمِيِّ فِي عَهْدِهِ إِنْجَازَاتٍ فَنِّيَّةً عَظِيمَةً فِيهَا الْجِدَّةُ وَالِابْتِكَارُ، وَأَرْسَتْ أُسُسًا لِلْفُنُونِ عَلَى قَاعِدَةٍ صَحِيحَةٍ، بِالرَّغْمِ مِنْ قِصَرِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَوَلَّى خِلَالَهَا مَسْؤُولِيَّتَهَا الْجَدِيدَةَ.
قُلْتُ:
يا سلام!
إِنَّمَا يَعْرِفُ ذَا الْفَضْلِ مِنَ النَّاسِ ذَوُوهُ!
لا بد لمن عاش في مجلس أستاذنا شاكر -رحمه الله!- على ذكراه الطيبة، من أن يكون كذلك! وكان فتحي رضوان وزير الثقافة قبل ثروة عكاشة، أي مع الثورة.
مُمْكِنُ الْعَالَمِيَّةِ وَمُسْتَحِيلُهَا
قَالَ:
لَنْ يُكْتَبَ لِثَقَافَةٍ رَفِيعَةٍ النَّجَاحُ إِلَّا إِذَا حَرَصَتْ عَلَى أَنْ تَجْنِيَ أَنْضَجَ الثِّمَارِ الثَّقَافِيَّةِ وَالْفَنِّيَّةِ وَالتِّكْنُولُوجِيَّةِ مِنْ هُنَا وَمِنْ هُنَاكَ؛ فَنَحْنُ لَمْ نَرَ مِنْ قَبْلُ ظَاهِرَةَ عَالَمِيَّةِ الْفَنِّ تَتَجَلَّى بِمِثْلِ مَا نَرَاهُ حِينَ نُشَاهِدُ عَبْقَرِيَّةَ شَاعِرٍ مَسْرَحِيٍّ فَذٍّ مِثْلِ شِكِسْبِيرَ الْإِنْجِلِيزِيِّ، تَجْتَمِعُ مَعَهَا مَوَاهِبُ مُوسِيقِيٍّ عِمْلَاقٍ مِثْلِ فِرْدِي الْإِيطَالِيِّ لِيَخْلُقَ مِنْهَا أُوبِرَا مِثْلَ عُطَيْلَ، يِتَضَافَرُ عَلَى الْعَزْفِ لَهَا أُورْكِسْتِرَا فَرَنْسِيٌّ يَقُودُهُ مَايِسْتُرُو مِنَ الْيَابَانِ، وَيُصَمِّمُ مَنَاظِرَهَا فَنَّانٌ مِنْ إِسْبَانْيَا، وَيَعْطِفُ عَلَى الْأَدْوَارِ الْغِنَائِيَّةِ الرَّئِيسِيَّةِ فِيهَا مُغَنُّونَ مِنْ أَمْرِيكَا وَأَلْمَانْيَا وَإِيطَالْيَا، وَيَقُومُ بِالْأَدْوَارِ الرَّاقِصَةِ بَالِيرِينَاتٌ مِنَ السُّوِيدِ وَالدَّانْمَرْكِ وَرَاقِصُونَ مِنْ رُوسْيَا بَلْ وَمِنْ مِصْرَ... -أَجَلْ مِنْ مِصْرَ!- وَمِنْ خِرِّيجِي مَعْهَدِ الْبَالِيْهِ بِأَكَادِيمِيَّةِ الْفُنُونِ الْمِصْرِيَّةِ بِالْجِيزَةِ؛ فَيَسْتَهْوِي نُفُوسَ الْمُشَاهِدِينَ غَرْبًا وَشَرْقًا بِنَفْسِ الشَّجَنِ وَالِانْبِهَارِ! إِنَّ الْإِنْسَانِيَّةَ لَمْ تَشْهَدْ مِنْ قَبْلُ أَبْدًا، مِثْلَ هَذِهِ الْإِمْكَانَاتِ لِتَحْقِيقِ أَحْلَامٍ لَمْ تَكُنْ لِتَتَحَقَّقَ إِلَّا فِي الْخَيَالِ الَّذِي لَا يُعَشِّشُ إِلَّا فِي وُجْدَانِ الطُّفُولَةِ النَّقِيَّةِ؛ فَالْجَمَالُ طَلِيقٌ لَا يَحُدُّه مَكَانٌ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ زَمَانٌ!
قُلْتُ:
لكن ألا يمكن أن تنطلق هذه العالمية من ثقافتنا العربية الإسلامية! أم دون ذلك حقد وكيد، وذكريات عروش تزلزلت وكؤوس انكفأت!