نازك ضمرة يعود لطفولته في رواية الجرّة
نازك ضمرة يعود لطفولته في رواية الجرّة*
جميل السلحوت
نازك ضمرة أديب فلسطيني مولود عام 1936 في قرية بيت سيرا قضاء رام الله، يكتب القصّة القصيرة والرّواية، ويعيش مغترباً في ولاية كارولاينا الشمالية في الولايات المتحدة الأمريكية. التقيته في شيكاغو في شهر تشرين أول / أكتوبر 2011 لمدة لا تزيد عن ثمانٍ وأربعين ساعة، فوجدت فيه الرجل المثقف المتابع لأحداث الشرق الأوسط، ويُؤرقه ما يجري لشعبه ووطنه وأمّته، وتُلحّ عليه ذكريات الماضي عن طفولته وشبابه، وما حيك لشعبه ووطنه من مؤامرات استعمارية، تمخضت عن نكبة ما لبثت أن تبعتها هزيمة ماحقة أسموها "نكسة". لكن في كل الأحوال، ومهما اختلفت التسميات والمصطلحات، فقد ضاع الوطن وتشتت الشعب.
وأديبنا نازك ضمرة، يُؤرقه الحنين إلى قريته بيت سيرا، الحنين إلى مرابع الطفولة والصّبا، الحنين إلى أزقة وحواري القرية، وإلى حكاياتها الصغيرة والكبيرة. الحنين الممزوج بالأسى إلى حياة مخضّبة بالفقر والبؤس والحرمان، الحنين إلى البيت الذي وُلد وترعرع فيه، ويحلم بأن يُحوّله إلى متحف يحمل اسمه، ولا يغيب عن باله أن يُفاخر بوالده الذي عمل في تدريس أبناء القرية، وخطيباً في مسجدها، وكذلك جدّه لأبيه الذي كان يستحضر الأرواح، ويُخاطب الجنّ ويمشي على النار دون أن تؤذيه، وقد يرى البعض الآن أن لا مكان للمفاخرة بمهنة التدريس، ولكن إذا أخذنا بعين الاعتبار، أنّه في الوقت الذي مارس والد أديبنا وجدّه التعليم فيه، فإن الغالبية العظمى من أبناء شعبنا، كانوا يُعانون من الأمّيّة المتفشية، خصوصاً في أواخر العهد العثماني، والمرحلة التي تلته، ولشدّة فخر أديبنا بمهنة أبيه وجدّه، فإنّه وبشكل عفويّ عندما يتطرق إلى أحد الأشخاص من مجايليه، أو ممّن هم أكبر منه سنّا، فإنّه يقول عنه: "لقد كان من طلّاب أبي" حتى أنّ والد زوجته الثانية كان من تلاميذ أبيه، وهذا كان من أحد الأسباب التي دفعته إلى الموافقة على زواج ابنته من أديبنا.
وأديبنا نازك ضمرة الذي يحلو له أن يكتب عن نفسه في تعليقاته على بعض المواضيع التي يقرأها على بعض المواقع الإلكترونية "عمّكم العجوز أبو خالد" لا يزال يتمتع بقدرات جسدية ملحوظة، وبعقل متقد، ووعي لافت وذاكرة خصبة، ومثابرة على المطالعة والكتابة، وهو يشعر بأنه شاب لا يزال الطريق أمامه طويلاً، ويُخطط للعودة إلى أرض الوطن ليقضي ما تبقى له من حياة فيه.
الجرّة:
وإذا كان من بدهيات الأدب المعروفة أن الأديب يكتب شيئاً من سيرته وتجربته في أعماله الأدبية، فإن أديبنا نازك ضمرة، في روايته "الجرّة" قد كتب لنا عن مرحلة الطفولة التي عاشها، واختار لها عنوان "الجرّة" كون هذا الوعاء "الجرّة" جزء من الموروث الشعبي الفلسطيني، والجرّة الفخارية لها أشكال وأحجام مختلفة ومتعددة، ولها أكثر من استعمال في حياتنا الشعبية، فهي التي استُعملت لجلب الماء من الآبار والينابيع للبيوت، وفيها يحفظون الماء للشرب وللاستعمالات الأخرى، وفي نوع من الجرار يخزنون زيت الزيتون، وفي نوع من الجرار يجري إعداد طبخة "القدرة" الشعبية المعروفة، وهناك أباريق و"شربات" الفخار التي يشرب منها الناس، وحتى هناك "حصّالة النقود" التي يحتفظ فيها الأطفال بقروشهم القليلة.
ويبدو أنّ الجرّة قد استهوت أديبنا نازك ضمرة، فاتخذها عنوانا لروايته، وجرّة أديبنا ليست ككل الجرار، إنّها الجرّة التي تملؤها النساء بالماء من الينابيع والآبار، ويحملنها على رؤوسهن حتى بيوتهن، ولها شكل جميل يُثير الإعجاب والدهشة، تماماً مثلما هي طريقة حملها على الرأس مثيرة للإعجاب، حتى أن بعض فنانينا التشكيليين رسموا لوحات فنّيّة لنساء يحملن الجرار على رؤوسهن، وهناك الكثير من الأغاني والزجليات الشعبية التي يتغزل بها الرجال بالنساء حاملات الجرار.
وجرّة الماء هذه لها أشـكال وأحجام مختلفـة أيضاً، ولها وظيفـة خفيّـة أخرى؛ فالفتيات يحملنها على رؤوسـهن بفخر وتيـه، فالمرأة تحملها على رأسـها وهي ملأى بالماء، وتسـير بدلال وتيـه دون أن تضع يديها عليها، وتسـير في الطرقات الوعرة من النبع إلى البيت، وهذا دلالـة على القوة والرشـاقـة وسـلامـة الجسـد، مما يلفت انتباه الشـباب الذين يترصّدون الفتيات عند مصادر المياه، فيختار الواحد منهم عروسـه من حاملات الجرار...!!
الأسلوب:
وأديبنا نازك ضمرة في روايته هذه التي اختار لبطلها اسم "ساهر" ولبطلتها اسم "سماهر" ـ وهي شقيقة البطل ـ جمع لنا عدداً من حكايات القرية، وربطها بخيط شفاف لتُشكل لنا رواية "الطفولة" في قرية فلسطينية، في أربعينات القرن العشرين، وتكلم لنا بضمير "الأنا" ثمّ لا يلبث أن يستعمل ضمير الغائب" هو، هما، هم، هي، هما وهنّ "وكأنّي به لجأ إلى الضمير لتكون الرواية أقرب حميميّة إلى نفسية وعقلية المتلقي "القارئ".
لقد لجأ الكاتب إلى التفاصيل الدقيقة في حكاياته، ليرسم لنا واقع القرية في تلك المرحلة بعناية فائقة. واستعمل أديبنا الخيال الذي ينطبق على الواقع، لتتجلى روعة الرواية بخروجها من الخاصّ إلى العام، لتكون رواية كل قرية فلسطينية في تلك المرحلة، فمن يقرأ هذه الرواية، يظن أنّ أديبنا قد كتب عن قريته "قرية القارئ" وهذا هو الإبداع الأشمل والأوعى.
اللغة:
استعمل أديبنا لغة سلسة إنسيابية، لا تنقصها البلاغة من تشبيهات وصور جميلة.
المضمون:
وصف لنا الكاتب الجرّة بأحجامها المختلفة، وكيفية حمل الفتيات لها على رؤوسهن، والمشقة التي يُعانينها في جلب الماء، واستخراج الماء من البئر العميقة التي حفرها الإنكليز لأهل القرية، بعد أن طمروا الينابيع الأخرى، ووصف لنا كيف أن من ينزلون البئر لملء الدّلاء قد يتبولون ويتبرزون في البئر، كما وصف لنا معاناة الأهالي مع حياة الفقر والبؤس، خصوصاً معاناة الأطفال والنساء، وكيفية ذهاب الأطفال إلى المدرسة في قرية مجاورة مشياً على الأقدام، ليقطعوا حوالي خمسة كيلومترات ذهاباً ومثلها إياباً، وكتب لنا عن "رائد" ـ شقيق ساهر، الذي قتله الإنكليز قبل أن يولد ساهر، ممّا حرم الأسرة من الابن الأكبر الذي يُشكل سنداً لوالديه، كما تطرق إلى تفاصيل صغيرة مثل أنّ الأطفال كانوا حُفاة، يُغافلون أمّهاتهم لاختطاف قطعة لحم من طنجرة الطبيخ قبل أن تنضج الطبخة.... وهكذا.
وماذا بعد؟
لم يكتب أديبنا نازك ضمرة في هذه الرواية تأريخا للقرية، بل كتب لنا عن الحياة الاجتماعية التي أغفلها الكثيرون من الكُتاب، كتب لنا بلغة أدبية جميلة، وبأسلوب السهل الممتنع الذي يطغى عليه عنصر التشويق.
فتحية له أينما حلّ وأينما ارتحل.
*الجرة ـ رواية لمؤلفها نازك ضمرة ـ صدرت عام 1997 عن دار النسر للنشر والتوزيع ـ عمان ـ الأردن.