الدكتور "حلمي القاعود" ظاهرة متفردة بين أبناء جيله
الدكتور "حلمي القاعود"
ظاهرة متفردة بين أبناء جيله
أ.د. حلمي محمد القاعود
زغلول عبد الحليم
ترجع علاقتي بالدكتور "حلمي القاعود " إلى منتصف عام 1970 وهو من مواليد 1946 يشترك معي في خصال كثيرة فعشنا كشخص واحد في فترات طويلة من حياتنا حتى وهو في سفره خارج البلاد وتعلمت منه أشياء كثيرة منها الصبر على الابتلاء وتحمل أعباء الهم العام التي كسرت ظهورنا وشغلتنا كل الشغل فأصبحنا وأمسينا لا نذكر إلا إياها.
التقينا على حب القراءة والاهتمام بالثقافة في شكلها العام وكانت رسائله إلى لا تنقطع خاصة تلك الرسالة التي كان يبعث بها من موقع تجنيده والتي استطاع أن يستثمر فيها وقته بدقة كبيرة وأخذ يكتب بعض فصول عن (حامد الشيمي) بطل روايته الأولى واعتقد أن ملامح (حامد الشيمي) هي نفس ملامح حلمي القاعود فالكاتب لا يكتب إلا نفسه وهو رأي لدستوفسكى أؤيده وأحبه ، واعتقد أنها نشرت مع غيرها في محلق مجلة الثقافة ـ أيام كان لنا ربع ثقافة في أواخر السبعينات وجمعنا أيضاً الإعجاب بالأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله الذي أحبه صديقي حلمي القاعود حباً جماً وقد تسبب له هذا الحب في مشاكل عديدة منها الوقوف ضد ما يكتبه حلمي القاعود عن محمد عبد الحليم عبد الله أو غيره من الأدباء الكبار من أمثال على أحمد باكثير أو عبد الحميد جوده السحار حتى أن أحدهم أشار إلى مقال للقاعود عن رواية "للزمن بقية" في مجلة الآداب اللبنانية ، بقوله: إن محمد عبد الحليم عبد الله نسيناه كأديب !! والذي قال هذا الكلام لا يزال يكتب في الأهرام المصرية حتى اللحظة ! ولا تزال رسائل الدكتوراه تأخذ في أدب عبد الحليم عبد الله حتى الآن ! وكتب القاعود عن محمد عبد الحليم عبد الله وأصبح من كبار نقاد أدبه وحرص على معرفة تفاصيل حياته ، وكان له ما أراد. إن حلمي القاعود منا نحن أسرة محمد عبد الحليم عبد الله ونحن منه ، كتب عنه (الغروب المستحيل) وقد عانى في نشره أشد المعاناة، ليس لشئ سوى لرفض منهج القاعود في التناول والذي أصر الأستاذ يوسف الشاروني على رفضه حتى في تقديمه للكاتب والكتاب حيث نشر بالمجلس الأعلى للآداب والفنون ولا تزال نسخه مخزنه بمخازنه ولعل بطول فترة التخزين قضى عليه، ويحاول الدكتور حلمي حالياً إعادة نشره كما علمت من ناشر كتبه قبل عام. حلمي القاعود صاحب صفات نادرة واعتقد أنه ورثها عن والده الأكرم الذي رأيته وهو يعاملنا معاملة مشحونة بالرقة والعاطفة والود اللانهائي . كان تاريخاً جميلاً نظيفاً راقياً. كان يسعدك في كل كلمة يلقيها إليك ، رحمه الله.
أيام ساحل مرقص (حالياً أبو المجد) قرية حلمي القاعود ، كانت غاية في السعادة ، لقد فقدنا السعادة بفقدنا زمنها ، قرية بلا كهرباء ولكنها مضيئة بقلوب أهلها. عشنا فيها سنوات لا تحسب من العمر. قضينا ليلنا ونهارنا في الحديث عن محمد عبد الحليم عبد الله، وعبد السلام العجيلي، أنور الجندي ، فاضل السباعي ، نازك الملائكة ، بدر شاكر السياب ، نجيب الكيلاني ، يحيى حقي ، ثروت أباظة ، على أحمد باكثير ، عبد الحميد جوده السحار ، نجيب محفوظ، محمود شاكر ، العقاد ، الرافعي. دراستي كانت تجارية ودراسته كانت أدبية خالصة .. سبحان الله. أجبروني أهلي على الالتحاق بكلية التجارة! ، ولكن الهواية غلبت علىّ وساعدني في ذلك الجو الذي نشأت فيه بقربي من الأستاذ محمد عبد الحليم عبد الله، إن الفارق بينى وبين الدكتور حلمي القاعود فارق كبير يحسب لصالحه بالطبع ولكن بساطته ساعدتني على تشكيل مفاهيمي الأدبية وكان قربي منه يساعدني أكثر على تنمية هذه المفاهيم بشكل لا يخلو من الاستمرارية. فقد عرفني حلمي بالدكتور عبد السلام العجيلي الذي لا أنسى له مطلقاً إضافاته الدائمة وتصحيحه كل ما يعرض على النفر من فكر في رسائله إلى ، لقد كان كاتباً كبيراً رحمه الله الدكتور عبد السلام العجيلي، جمعتني والدكتور حلمي القاعود رؤية واحدة هي ضرورة تفعيل منظومة القيم العليا حتى يمكن أن تعبر الأمة طريقها إلى التمكين ، وهي في حقيقة الأمر قضية صعبة ومعقدة لأنها تشمل كل مناحى الحياة وليس فيها مسائل تجزيئية ، إنها العقيدة التي تشمل كل الحياة كما يقول أستاذنا محمد قطب.
إن الدكتور حلمي القاعود واحد من المؤصلين للتيار المتكامل من النقد الأدبي وهو تيار شيدته الأستاذ سيد قطب في أوائل الخمسينات ووضحه وبينه في كتابه (في التاريخ فكرة ومنهاج) وانطلاقاً من هذا التصور عن الدكتور حلمي القاعود فأنني أراه أهم ناقد أدبي معاصر لأنه:
1- يضفي على نقده قوة يستمدها من عقيدته.
2- إخلاصه الشديد في تقويم الأعمال بعيداً عن الهوى وخصلة السماع التي تفرد بها معظم النقاد .
3- وضوح رؤية النقدية رغم ما يتعرض له هو شخصياً من اضطهاد.
يذكرني بالنابه الدكتور عبد العزيز حمودة الذي رحل وهو في قمة العطاء رحمه الله رحمة واسعة .
إن خطورة منهج حلمي القاعود هي تصديه للنزعات الفوضوية في النقد ومحاربة الانطباعات المضللة المتخذة شكل الحقائق. إن حلمي القاعود يشكل عقبة كبيرة لقطاع كبير جداً من يحسبون على الثقافة لأنه يفضح كلامهم وينبه إلى خطورتهم ورغم كل هذا فيافطة : البقاء لإبراهيم أصلان مرفوعة !!
نحن نعرف إن البقاء لله بكل تأكيد ولكن ماذا نفعل مع أصحاب الإفهام ... يذكرني أخي الدكتور القاعود بأخي الدكتور عماد الدين خليل وهو من نفس المدرسة (النقية التقية) بفارق واحد يحسب لصالح الدكتور عماد الدين خليل هو تميزه بخاصية الامتصاص التي تشكل عنده قاعدة أساسية ولكنها كنتيجة للحرب الضروس التي تشن على فكره وسلوكه معاً توارت قليلاً خاصية الامتصاص لديه وأصبح يميل إلى العزلة كنتيجة حتمية للحرب المعلنة على الرجل فكراً وسلوكاً من جانب حملة الأقلام المقصوفة وكتاب الدرجة الثانية الذين أفقدوا الأمة توازنها.
إن المنهج النقدي المتكامل الذي يميز حلمي القاعود عن غيره من النقاد هو منهج مرفوض من جانب الكهنة وحملة المباخر ولكنه هو المنهج النابع من العقيدة التي تحكم كل تصرفات الفرد لأن الذي ينفع الناس يمكث في الأرض. ولقد عبر الأستاذ الدكتور حلمي القاعود في كتابه الرائع (النثر الأدبي) عن منهجه أصدق تعبير فلقد اعتبر أدب نجيب محفوظ هي الرواية (بالمعنى الغربي) فانصف الرجل والأستاذ نجيب رحمه الله حر في ما يعتقده من مذهب يراه يشكل رؤيته الفنية ، والمهم أن يتمتع العمل الفني والأدبي بالانسجام أو الصدق الفني مع اعتماده ما يخالف منهج القاعود في الحكم على العمل الأدبي والذي عرضنا له من قبل وفي ذات الوقت أنصف القاعود شعراء الورد وأنصف عبد المنعم رمضان وهو من شعراء الهالوك وكما أنصفه أيضاً الشيخ عبد العظيم المطعني في كتابه: (الحداثة سرطان العصر). إن الدكتور حلمي القاعود قلم من الأقلام الكبيرة وهو امتداد للمدرسة التي أسسها شيخ العربية مصطفى صادق الرافعي.
نعم أن الدكتور ( حلمي القاعود) امتداد للمدرسة الفكرية القديمة وهذا لا يعببة في شئ إطلاقاً ، ويحسب له أنه من أبناء مدرسة الرافعي التي أنتجت سعيد العريان ومحمود شاكر رغم تأثره بمهج سيد قطب (1906- 1966 ) في النقد الأدبي الذي يجمع بين المنهج الفني والمنهج التاريخي والمنهج اللغوي والمنهج النفسي أو المنهج المتكامل كما ذكرنا من قبل، والمعروف أن الأستاذ سيد قطب هو من مدرسة الكاتب الكبير عباس العقاد.
ويعتبر الأستاذ سيد قطب بنظريته ( الصور والظلال ) في النقد الأدبي قد وصل إلى القمة خاصة بعد أن تراها وهي تعمل في ( ظلال القرآن ) لذا فأن الدكتور القاعود عليه أن يدفع ثمن انتسابه لمدرسة الرافعي والعقاد معاً ، واعتقد أن الدكتور القاعود صاحب مدرسة يتخرج فيها من يريد إن ينتسب إلي الثقافة الجادة التي تؤهل الأمة لحياة أفضل .
كتب الدكتور القاعود عن معظم جيل السينيات من كتاب الرواية ، كتب عن نجيب محفوظ ، عبد الحليم عبد الله ، عبد الحميد السحار وعلي أحمد بالكثير وغيرهم . ولكنه عاش في حياة محمد عبد الحليم عبد الله لأسباب كثيرة ربما ذكر لي بعضها من أه رأى فيه بعض نفسه، ربما تشابه الرحلة، وكذا ارتباطه الأسري الشديد . كتب كثير عن ( بعد الغروب ) وبطلها عبد العزيز وعن الجنة العذراء وبطلها ( رضا ماضي ) وكذا ( للذين بقية ) وبطلها ( صلاح النجومي ) الذي رآه امتداداً ( لرضا ماضي ) في ظروفه وأحواله كتب عن أدب عبد الحليم عبد الله الذي ينتمي إلى المدرسة التقليدية التي هي مدرسة الفكرية أيضاً ، كتب وهو صادق فيما يقوله لأنه تكلم عن نفسه أو بعض نفسه . لقد رأي حلمي القاعود بعض ملامح نفسه من معظم شخوص روايات محمد عبد الحليم عبد الله اقول معظم الشخوص ولا أقول كل الشخوص .
ولما كان منهج حلمي القاعود في النقد هو منهج التكامل فقد كان رائعا عند تحليله لشخوص روايات عبد الحليم عبد الله خاصة نقده لروايه ( للذين يقية ) آخر ما كتبه المؤلف كاملاً .
أحب الدكتور حلمي القاعود الكاتب الكبير علي احمد باكثير (1969،1910 ) وقد كتب عنه الكثير أيضا كما سافر إلي بلده حضرت موت عاش مع بعض من أهله بعض الوقت. وكان دافعه أن ينزع ذلكم الغطاء الكثيف الذي القي علي فكر الرجل وأدبه المستمد أصلاً من العقيدة وكانت رائعته ( الثأر الأحمر ) هي التي تسببت في نقمة الشيوعيين علي أدبه وفكره وسلوكه العام فحاصروه حتى لقي ربه نظراً لما يتمتع به من تفوق أدبي خطير فاق به كل أبناء جيله كما أتصور بالإضافة إلي التزامه بالمنهج . وصدق الدكتور القاعود عند ما وصف بالكثير بقوله (( كان علي أحمد باكثير من ذلك الطراز الذي لا يخافت بصوته الإسلامي ولا يساوم علي تصوره الإيماني )) واذكر للدكتور حلمي كتابه بهذا المعني
( مسلمون لا نخجل ) ! وهو من أوائل كتاباته وقد صدر عن دار الاعتصام بمصر والقاعود له اسمه في الصحافة أيضاً. فهو قلم جاد يهتم بأمور الوطن وهمومه وشكواه . رايته قبل سنوات طويلة بدار الاعتصام يراجع مجلة الاعتصام أو قل يحررها ويدفع بكاتب هذه السطور إلي الأمام ويرشده ويعمله ويصبح له ما يكتب وينشره بمجلة الاعتصام قبل سنين . انه الدكتور حلمي القاعود. نعم للقاعود إسهاماته الصحيفة المتميزة فهو يكتب بنفس المنهج التكاملي الذي ارتضاه لنفسه فأصبح يمثل ( ظاهرة أدبية صحفية ) تستدعي أن تحجم ، ولكن إرادة الله غالبة فلأنه يكتب متوكلا علي الله فحسبه الله وكفي بالله حسيباً .
أن الكتابة الصحفية في تصوري تخضع لاعتبارات كثيرة ولكن الدكتور حلمي القاعود لخصها في واحدة هي ( الحق ) وهي كلمة خطيرة مدلولاتها خطيرة تسكن العقل والقلب معاً .
كتب الدكتور حلمي في الاعتصام " عن إجرام صدام حسين "وكتب عن القرن الأفريقي" وما يحدث فيه من أهوال ، وكتب عن البوسنة والهرسك ، ومحاولات التنصير في القارة الأفريقية ... وغيرها من قضايا تشغل بال الأمة فكان علي درجة عالية من الصدق والتميز بشأن كل كتاباته في النقد والأدب والسياسة لأنه يستمد قوته من قوة عقيدته .
أن الدكتور القاعود له ما يميزة بين أدباء جيله – لغة طيعة في لسانه وفي يده . إيمان لا يتزعزع دفاع عن الحق أينما كان . هو الناقد الأدبي الوحيد الذي أنصف الأدب الواقعي ونقله من الأدب الواقعي المنحرف إلي الأدب الواقعي الحقيقي. فالواقعة عنده لا تعني الهبوط أو التدني أو الإسفاف أو تمجيد لحظة الهبوط ولا تعني أيضا التسامي أو تمجيد لحظة التسامي. إن تمجيد الهبوط وتمجيد التسامي كل منهما يخرج العمل الأدبي عن الواقعية وهو نفسه ذات المنهج الذي يدافع عنه ويعتمده الأستاذ الكبير محمد قطب الذي تعلمنا منه. فرق كبير بين تمجيد لحظات الهبوط وذكر لحظات الهبوط ، وبين تمجيد لحظات التسامي وذكر لحظات التسامي . ذكر لحظة الهبوط أدب من الأدب ، تمجيد لحظة الهبوط إسفاف وتدني إن تمجيد لحظة التسامي خطابة يرفضها العمل الأدبي فهي تقلل من شأنه وتحيله إلى أدب النصائح والإرشادات .
ومن الإسهامات الواضحة والتي يتابعها القارئ للدكتور القاعود مقاله بمجلة المختار الإسلامي والتي هي فرع من الأصل الطيب مجلة الاعتصام المحتجبة ومجلة المختار الإسلامي إصدار متميز ، وكتابه في مجموعهم قادة فكر ورواد نذكر منهم الأستاذ الكبير محمد يوسف عدس والدكتور محمد عباس وغيرهم من الغيورين على العقيدة . أن الدكتور القاعود قلم جاد يمتنع القارئ بما يكتبه لأنه نابع من قلب محب لعقيدته ، محب لأمته .