قراءة في وصية أبي تمام للبحتري
أ. سعيد بكور
أستاذ اللغة العربية من المغرب
نص الوصية كما ورد في العمدة :
" قال أبو عبادة الوليدة بن عبيد البحتري:كُنتُ في حَداثَتي أرُومُ الشِّعْرَ، وكنتُ أَرْجِعُ فيهِ إلَى طَبْعٍ، ولَمْ أَكُنْ أَقِفُ علَى تَسْهيلِ مَأْخَذِهِ، ووجُوهِ اقْتِضابِه، حتى قصدتُّ أبا تَمَّامٍ، وانقطعتُ فيه إليه، واتَّكلْتُ في تَعريفِه عليه؛ فكانَ أوَّل ما قال لي :
يا أبا عُبادة؛ تخيَّر الأوقاتَ وأنت قليلُ الهُمومِ، صِفْرٌ من الغُمومِ. واعْلَمْ أنَّ العادةَ في الأوقاتِ أن يقصدَ الإنسانُ لتأليفِ شَيْءٍ أو حِفْظِه في وَقْتِ السَّحَرِ؛ وذلكَ أنَّ النَّفْسَ قَدْ أَخَذَتْ حَظَّهَا مِنَ الرَّاحةِ، وقِسْطَهَا مِنَ النَّوْمِ. فإنْ أردتَّ النسيب؛ فاجْعَلِ اللَّفْظَ رَقيقا، والمعنَى رَشيقًا، وأَكْثِرْ فيه مِن بَيانِ الصَّبابةِ، وتوجُّعِ الكآبَةِ، وقَلَقِ الأَشْوَاقِ، ولَوْعَةِ الفِراقِ. وإذا أَخَذْتَ في مَدحِ سيِّدٍ ذي أيادٍ؛ فأشْهِرْ مَناقِبَهُ، وأظْهِرْ مناسِبَه، وأَبِنْ مَعالِمَهُ، وشرِّفْ مقامَهُ. وتقاضِ المعانيَ، واحْذَرِ المجهولَ مِنْها. وإيَّاكَ أن تَشينَ شِعْرَكَ بالألفاظِ الزرية، وكنْ كأنَّكَ خيَّاطٌ يقطعُ الثِّيابَ علَى مَقاديرِ الأجسام. وإذا عارَضَكَ الضَّجَرُ؛ فأَرِحْ نَفْسَكَ، ولا تعملْ شِعْرَكَ إلاَّ وأنتَ فارغُ القَلْبِ، واجْعَلْ شَهْوَتَكَ لقولِ الشِّعْرِ الذَّريعةَ إلَى حُسْنِ نَظْمِهِ؛ فإنَّ الشَّهْوَةَ نِعْمَ المُعِينُ. وجُمْلَةُ الحالِ أَن تعتبرَ شِعْرَكَ بِما سَلَفَ مِن شِعْرِ الماضينَ، فما اسْتَحْسَنَ العُلَماءُ فاقْصِدْهُ، وما تَرَكُوهُ فاجْتَنِبْهُ؛ ترشد إن شاءَ اللهُ تعالى" العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده،ابن رشيق القيرواني،تح: محمد محيي الدين عبد الحميد،دار الجيل،ط4،1972م،ج2،ص 114-115.
تقديم:
وردت وصية أبي تمام للبحتري في مظان كثيرة بينها تفاوت في المتن مرده بالأساس إلى الزيادات التي كان يضيفها الشراح والعلماء بغاية شرح أمور غامضة لطلابهم ، ومن المصادر التي ضمت بين ثناياها هذه الوصية نذكر بالترتيب الزمني :
-زهر الآداب وثمر الألباب للحصري(ـ453هـ)
-العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده لابن رشيق(ـ456هـ)
-شرح مقامات الحريري للشريشي(ـ619هـ)
-تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان غعجاز القرآن لابن أبي الأصبع المصري(ـ654هـ)
-منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني(ـ684هـ)
-خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي(ـ837هـ)
وقد قطع نص الوصية رحلات متواصلة في كتب النقاد، محتفظا تارة بمتنه الأصلي ،ومضافا إليه تارة أخرى أشياء ليست منه لعدة أسباب تعود بالأساس إلى إيضاح الغامض للطلاب وما يستدعيه ذلك من تفصيل وتقييد وإضافات وشرح ، إضافة إلى اختلاف فهوم الطلبة حيث يدرجون أمورا ليست من النص الأصلي ويكتبونها في مصاحفهم، ونجد مصدرا آخر من مصادر الزيادة يتمثل أساسا في زيادات النساخ والوراقين والشارحين والدارسين ،دون تمييز بين النص الأصلي والمضاف ([1]).
والوصية في عمومها كلام يروم منه الموصي نصح الموصى له وتوجيهه إلى الصواب من الأمور ، وقد تتناول الوصية أمورا تتعلق بالدين أو الأدب أو الحياة ،وعليه فهي تختلف تبعا لاختلاف المجال والمقام، وفيما يخص وصية أبي تمام فقد وردت في سياق توجيه البحتري التلميذ إلى الطريقة السليمة لنظم الشعر ورصف مبانيه وإتقان نسجه، وتتضمن توجيهات وضوابط عامة يمكن للمطبوع أن يسترشد بها في مجال إبداعه الشعري، وهي في عمومها موجهة إلى كل مبدع شاعر، لما فيها من نصائح وتعليمات وتوجيهات ذهبية تتناول الأمور الجوهرية التي تخص شروط الإبداع الصحيح ، ولعل ما يميز الوصية هو اختزالها اللفظي واقتصادها اللغوي ، لكنه اقتصاد فيه ثراء وغنى من حيث الزخم التوجيهي الذي تزخر به .
1-ظروف الوصية:
الراوي في الوصية هو نفسه الموصى له، وهو "التلميذ" البحتري و يستفاد من متن الوصية أنه تلقى من أستاذه أبي تمام الوصية وهو في سن صغيرة " كنت في حداثتي أروم الشعر"، ويشير النقاد إلى أن أبا تمام قال وصيته هذه في سنواته العشر الأخيرة ، وقد نتساءل عن سبب قيام الأستاذ أبي تمام بتدبيج هذه الوصية الثمينة للبحتري دون غيره من الشعراء الذين قد تتلمذوا على يديه، ولعل السبب في ذلك يعود إلى:
-اعتماد البحتري على طبعه في نظم الشعر، حيث يركز على موهبته وطبيعته، دون الاعتماد على الصنعة والتنقيح ومراجعة الإبداع بالرعاية والنظر؛
-عدم استطاعة البحتري الوقوف على تسهيل المأخذ ووجوه الاقتضاء؛ ومعنى ذلك أنه كان يقول الشعر دون اعتماد على طريقة تساعده على إبداع الجيد؛
-تلمس أبي تمام علائم النبوغ الشعري على البحتري من خلال مصاحبته إياه.
ويظهر من كلام البحتري أنه تتلمذ على يد أبي تمام ردحا من الزمن ليس باليسير عب فيه من معين شعره، واتكل في تعريفه عليه، وكان طبعيا أثناء مدة التلمذة أن يلاحظ أبو تمام بعين الناقد الخبير الحصيف علائم النبوغ ومخايل الذكاء على تلميذه البحتري ، حيث تيقن من موهبته الشعرية الفذة فقرر أن يوجهه الوجهة التي يراها مناسبة لموهبته، وليس الوجهة التي تتعارض معها وتتنافى .
2-عناصر الوصية ومحتوياتها:
أ- أوقات الإبداع:
يبين أبو تمام الناقد في وصيته عن حنكة نقدية و تجربة إبداعية تظهر تمكنه وتمرسه بالمجالين، وتظهر هذه الحنكة جلية في إشارته إلى أهم الأوقات التي يكون فيها المبدع متهيئا نفسيا وفكريا ليخرج ما في جعبته من إبداع صاف براق، لا تشوبه شائبة ضعف أو تكلف أو تكلان، فهو يوصي تلميذه بقوله" تخير من الأوقات وأنت قليل الهموم ،صفر من الغموم"، وهنا يضع أبو تمام يده على جوهر الإبداع، ذلك أن خلو الذهن من المشاغل والمشاكل والقلب من الهموم والبلبال يجعله قادرا على القول في غير اعتياص، مقبلا عليه إقبال الظمآن على الماء إذا توفرت دواعيه وبواعثه ،ومعلوم أن الهموم والغموم كما تهيمن على الذهن فهي تشغل القلب، و تعكر صفو الخاطر ، و تنغص على النفس فتخيم بظلالها السوداء على المبدع ،وتمنع نتيجة لذلك شمس إبداعه من الإشراق، وجمرته من التوقد، وسيله من التدفق ،وحتى لو كتب له التدفق فإنه سيخرج أعرج معاقا لفظا ومعنى.
إن الخلو من الهموم والتطهر من الغموم يجعل الذهن صافيا متوقدا ومتهيئا للإبداع الجيد الخالي من أود النظم،ولا شك أن الخلو من الهموم لا يتيسر للمبدع إلا في وقت معين من اليوم هو "وقت السحر" ،لذلك ينصح أبو تمام تلميذه بضرورة تحين هذا الوقت المساعد على إخراج الدفين من المعاني والدرر ، ولا يقتصر الأمر على التأليف بل يشمل الحفظ أيضا "واعلم أن العادة في الأوقات أن يقصد الإنسان لتأليف شيء أو حفظه في وقت السحر" لأن النفس في هذا الوقت بالذات تكون قد "أخذت حظها من الراحة وقسطها من النوم " ويترتب عن ذلك صفاء ذهن وشهوة نفس و قوة إقبال على الإبداع ، فالنفس تكون في قمة نشاطها وفراغها وصفائها بحيث تتقبل ما يلقى إليها(الحفظ) وتفجر ما بها من براكين الإبداع الثاوية تحت رماد العجز (التأليف)، ويمكن الوقوف من خلال إشارة أبي تمام إلى الأوقات المؤاتية للإبداع على أمرين ذوي أهمية هما:
-التهيؤ لنفسي: ويراد به استعداد النفس لإخراج ما بداخلها من إبداع، ويتم ذلك بخلوها من الغموم التي تحجب شمس الإبداع المشرقة، ويكون التهيؤ النفسي حاضرا ساعة السحر تحديدا لأن النفس تكون قد أخذت قسطها من الراحة والنوم،وصارت قادرة على العطاء والتقبل، ذلك أن النفس لا تكون متهيئة إلا إذا خلت مما ينغص عليها ويكدرها .
-التهيؤ الفكري:ويتم بدوره بخلو الذهن من المشاغل التي تؤثر سلبيا على تركيز الشاعر، لاسيما وأن المشاكل والمشاغل تفقد المبدع تركيزه ويظل مشوشا لا يستطيع إبداع شيء ذي قيمة عليه علائم الجودة، وجدير بالذكر أن إشارة أبي تمام الذكية إلى أوقات الإبداع تظهر تمرسه بمجال الإبداع الشعري،وكذا حنكته بالميدان النقدي.
ب-ضوابط الأغراض الشعرية:
لم يتطرق أبو تمام في وصيته إلى كل الأغراض الشعرية المعروفة بل اقتصر على ذكر غرضين مبينا ضوابطهما اللفظية والمعنوية ، ولنا أن نتساءل عن سبب التغاضي عن الأغراض الأخرى من رثاء، وهجاء، ووصف، والاقتصار فقط على المدح والغزل، لعل الداعي إلى ذلك من وجهة نظري أن أبا تمام من خلال خبرته الطويلة في ميدان الشعر لاحظ بنظرته الثاقبة أن "طبع" البحتري يميل إلى المدح والغزل دون غيرهما ، لذلك ساق له مجموعة من النصائح الضابطة لهذين الغرضين ،والناظر في شعر البحتري يلمس هذا المعطى، وكيف أنه في شعره لم يبرع في الفخر والهجاء.وفيما يلي عرض لضوابط الغرضين كما حددتها الوصية:
1-النسيب: وهو من الأغراض الشائعة الذائعة في أشعار العرب منذ الجاهلية، حيث اعتاد الشعراء ابتداء قصائدهم بما تيسر من النسيب قبل الوصول إلى الغرض الذي من أجله نظمت القصيدة، وفي هذا السياق يدعو الأستاذ أبو تمام تلميذه إلى الالتزام بالضوابط اللفظية والمعنوية لغرض النسيب نشدانا للإتقان ،ففيما يخص اللفظ يشترط أبو تمام شرط الرقة قائلا "فاجعل اللفظ رقيقا" والرقة في الغزل يقصد بها اجتناب الألفاظ الكزة الغليظة التي لا تتماشى مع طبيعة غرض يعبر فيه الشاعر عن لواعج نفس حرى مكتوية بلهيب العشق ونار الصبابة ، ويبين شرط "الرقة" في الألفاظ أن لكل غرض ألفاظه التي لا تصلح إن وظفت في غيره، أما فيما يتعلق بالمعنى فيدعو أبو تمام إلى مراعاة شرط "الرشاقة والخفة" والانسيابية ، والرشاقة خلاف "الفخامة والشدة" التي قد نجدها في أغراض كالمدح والفخر،وإضافة إلى رشاقة المعنى يشير الموصي إلى ضرورة أن يكون شعر النسيب متوفرا على أمور تجعله ينساب إلى القلب ويلامس شغافه منها:
-بيان الصبابة؛
-توجع الكآبة؛
-قلق الأشواق؛
-لوعة الفراق.
ويسهم توفر هذه الأساسيات في شعر الغزل في جعل المتلقي يتأثر بما يصفه الشاعر ،وذلك من خلال مشاركته في ذلك افتراضيا ،خاصة، وأن الغزل لائط بالقلوب .
2-المدح: لم يشر أبو تمام إلى شروط اللفظ في غرض المديح كما فعل في النسيب ،وكأني به يترك الخيار للشاعر لينظر إلى المقام وما يستدعيه من ألفاظ، بخلاف الغزل الذي يتطلب نوعية واحدة من الألفاظ يتوفر فيها شرط الرقة لا غير، وهو في ذلك يبين عن حنكة نقدية تظهر تمرسه الحكيم بمجال الشعر وما يدور في فلكه، وبيان ذلك أن الألفاظ التي قد توظف في مدح شخص بالشجاعة قد تتسم بالقوة والجزالة، فيما نظيرتها التي قد تصطفى لتستعمل في مدح شخص بالكرم تقع في موقع وسط بين الجزالة والرقة وهكذا.
وعلى هذا يركز أبو تمام في وصيته لتلميذه على المعاني وكيفية بنائها وتنضيدها حتى ينال رضا الممدوح، ونبين كل عنصر على حدة:
-إشهار مناقب الممدوح خاصة إذا كان ذا أياد ومشهورا بكرمه ونواله ، وإشهار المناقب يتطلب من الشاعر تفصيل القول في المدح، وطرق المعنى من سائر نواحيه حتى يبدو واضحا لا غموض يشوبه ؛
-إبانة معالم الممدوح وذلك بالتعبير عنها في لغة بعيدة عن الغموض ،لاسيما عند التطرق إلى فعال الممدوح وأعماله وإنجازاته؛
-تشريف المقام وإظهار المناسب، ويتم ذلك بذكر محتد الممدوح وأصله الشريف ،وانتمائه إلى بيوتات المجد والسؤدد، مع الإتيان على ذكر الآباء والأجداد وعظيم صنيعهم؛
-تنضيد المعاني وتلافي المجهول منها: ويقصد بالتنضيد ترتيب المعاني ،واختيار الأجود منها، ووسم الممدوح بها ، مع اجتناب المعاني المجهولة التي قد يظنها الممدوح هجاء ، ونفهم من ذلك أن طرق المعاني المعلومة الواضحة كان أمرا مطلوبا، لأن الشخص الممدوح ليس له الوقت الكافي ليقلب المعاني حتى يصل إلى المقصود.
-الابتعاد عن الألفاظ الزرية لتي تشين المدح الذي ينبغي أن تكون ألفاظه منتقاة مصطفاة من خيرة الألفاظ وأفصحها ، لأن مقام المدح يستدعي ذلك .
-مدح الممدوح بما فيه دون زيادة أو نقصان "كن كأنك خياط يقطع الثياب على مقادير الأجسام" ؛ذلك أن الممدوحين يختلفون في الدرجات، والمراتب، والصفات، لذا ينبغي للشاعر ألا يخلط بين ممدوح وآخر يختلفان في كل شيء، ويتطلب تطبيق هذا الشرط ذكاء لامعا، وفكرا متقدا، ومراعاة ذكية للمقام ، وعدم وضع ذلك في الحسبان كان يوقع الشاعر في أخطاء كثيرة، ويضعهم في مواقف لا يحسدون عليها أمام الممدوحين، و معلوم أن مدح الممدوح بما فيه لا يتنافى مع مبدأ الغلو والمبالغة في نعته والرقع من مكانته.
ج-الإبداع:معيقاته ومحفزاته
+معيقات الإبداع:
ما دامت الوصية تروم إسداء نصائح عامة حول أسس الإبداع الصحيح، فإن صاحبها لم ينس المعيقات التي يمكن أن تقف حجر عثرة في طريق الإبداع ، ويشير هنا إلى الضجر الذي يجعل المبدع غير قادر بالمرة على تفجير ما بداخله من مكنونات وطاقات ، وفي هذه الحالة يكون المبدع محتاجا إلى قسط من الراحة ، وفي اتصال بهذا الشرط وفي علاقة بأوقات الإبداع ينصح الموصي تلميذه –ومعه سائر الشعراء- بالإقبال على القول ساعة فراغ القلب من الهموم ، والمشاكل، و البلبال، لأن أي محاولة للإبداع والقلب منشغل والخاطر منغص مصيرها الفشل.
+-محفزات الإبداع:
يشير أبو تمام إلى بعض المحفزات التي تشعل جذوة الإبداع وتهيج طاقة القول، ويضع يده على أهم محفز يعد رأس الأمر وهو "الشهوة" أو ما يمكن نعته بالرغبة في القول وتهيؤ النفس له ، فأي إبداع حقيقي ينبغي أن تكون الشهوة المحرك الرئيسي له لأن النفس عندما تكون راغبة في القول مهيأة له يخرج صافيا رقراقا عليه علائم الجودة والتميز، وهنا نشير إلى الإبداع الذي يأتي عنوة دون أن يشتهى ،حيث تكره النفس على أمر هي غير راغبة فيه بالمرة، وتكون النتيجة إبداعا مغسولا معاقا عليه علائم الكلفة بادية.
إن الإشارة إلى عامل الشهوة ودوره في تحفيز الشاعر على الإبداع يظهر بما لا يدع مجالا للشك وعي النقاد والشعراء بماهية الإبداع وارتباطه برغبة الشاعر الداخلية ، وهو ما يؤكد على ارتباط الإبداع بما هو نفسي وذاتي .
د -تقيل طريقة القدماء:
ينصح أبو تمام تلميذه بالسير على طريقة القدماء في النظم وتوظيف الصور، واختيار الألفاظ، وبناء القصيدة والتزام عناصر عمود الشعر" فما استحسنه العلماء فاقصده وما تركوه فاجتنبه" ، فأبو تمام يدعو تلميذه الذي ظهرت عليه علائم النبوغ الشعري أن يحذو حذو الأقدمين ويسير على منوالهم، ولنا أن نتساءل عن السبب وراء هذا التوجيه الغريب من شاعر عرف باختياره لأسلوب مغاير لما سمي بطريقة العرب، هل يعود ذلك إلى مراجعة قام بها أبو تمام لمذهبه في أخرة جعلته يقتنع بأن طريقة العرب هي التي ينبغي أن تتبع ،خاصة، وأنه قال الوصية في السنوات العشر الأخيرة؟ أم أن نصحه للبحتري كان وراءه شيء في نفس أبي تمام لم يرد الإفصاح عنه؟
أعتقد أن أبا تمام عندما رعى موهبة البحتري وهو في حداثة سنه رأى قدرة هذا الشاعر المستقبلي على النظم ، إذ لا أستبعد أنه كان يريد تقيل طريقة أستاذه في القول، وأعتقد أن أبا تمام كان على يقين أن البحتري لو سلك طريقته لبزه وتفوق عليه، لذا أراد من الوهلة الأولى أن يصرفه عن هذا الاتجاه حتى يكون وحده رائد التصنيع في الشعر العربي لا ينافسه في ذلك منافس.
خاتمة:
من خلال هذه القراءة المختصرة لوصية أبي تمام يمكن الخروج ببعض الاستنتاجات التي نسوقها في الآتي:
- حرص القدماء على رعاية المواهب الفذة، وتزويدها بالتوجيهات التي تساعدها على شحذ طبعها وصقل مواهبها الغضة الطرية حتى تستحيل قادرة على القول على بينة من أمرها ؛
-امتلاك الشعراء ثقافة نقدية موازية تساعدهم على تجويد إبداعهم؛
-إبراز الوجه الثاني من شخصية أبي تمام التي اجتمعت فيها البراعة الشعرية والحنكة النقدية،ولا شك أن اختياراته في الحماسة تدل على ناقد فريد من نوعه،ذلك أن الاختيار ما هو إلا وجه من أوجه النقد.
-محاولة أبي تمام صرف البحتري عن تقيل طريقته والسير على منوال العرب حتى لا ينافسه في مجاله مستقبلا ؛ وهي حيلة بارعة استطاع أبو تمام من خلالها توجيه تلميذه وجهة ربما لم يكن يريد سلوكها؛
-تحقق نبوءة أبي تمام الشعرية،حيث راهن على نبوغ تلميذه وبراعته في الغزل والمدح ،وتميز شعره بالرقة والرشاقة والخلو من الألفاظ الرزية .
- ينظر الأمر بتفصيل في مقال بعنوان "وصية أبي تمام للبحتري الإسناد والتوثيق، الدكتور عبد الكريم محمد حسين،مجلة جامعة دمشق،المجلك 19،العدد
3+4، 2003 ،ص :21[1]