قراءة في (معارج)
قراءة في (معارج)
الشاعر: مصطفى عكرمة
يحيى بشير حاج يحيى
في عصر ارتكست فيه فطرة الكثيرين ، و انتكست إرادتهم ، و كثر الهبوط و الالتصاق بقاع السفاسف ينبري شاعرنا (مصطفى عكرمة)* ليرتقي بالنفوس !و كانت وسيلته تلك المعارج التي يحض من خلالها على التسامي و الصعود .
فهذه المعارج تود من الناس أن يعودوا إلى الله بعد شرود عن منهجه ، و بأصحاب الهمم الضعيفة أن يرتقوا ، و لو كان في الارتقاء صعوبات و صعوبات ، و من الأمة جمعاء أن تتبصر بحقيقة وجودها ، و عظمة الرسالة المنوطة بها و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسألون ؟!
في هذا الجزء الأول من الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر تستوقفنا محطات كثيرة .
ففي المحطة الأولى (إلى الله ) يدعونا لنفر منه إليه ، و نتفيأ ظلال الرحمة ، مرددين معه :
إلهي ضاق بي الرَّحبُ و أثقلَ كاهلي الذَّنبُ
و نارُ هواجسي اتّقدتْ و مَلَّ أزيزَها اللبُّ
و غار النورُ في عَيْنِي و أيقظَ جندَه الرُّعبُ
و نفسي لم تَعُدْ نفسي و قلبي .. ليته قلبُ
وهِمتُ هنا على وجهي و ضِعتُ و ضاعت الدرب
و لكن هذا كله ينجلي في لحظة صدق ، و صحوة قلب نجوتُ - غداةَ - يا ربي علمتُ بأنك الرَّبُّ
و أما في قصيدته (بسطت يدي ) فشكوى صدقة لا صحوة عابرة :
عليكَ توكلي في كل أمري
فَيَسِّرْ لي بحقك كلَّ أمريو صدري يا إلهي ضاق صدري بهَمِّي ، فاشرحِ اللهم صدري
إلهي و اكشف اللهم ضري فليس سواك من يرجى لضُري
و حاشا لله لو أتاه العباد نادمين مقربين أن يردهم ، و قد فتحت أبواب : ألا هل من مستغفر فأغفر له ؟!
و نلج مع الشاعر محطة (نجاوى) إذ تطيب المناجاة
لـكَ حـيـنـمـا لـذَّ المنامَ و تَـعـاف نـفـسي ما يلـذُّ تقرُّباً فاغفر و تُبْ، و امنُنْ إلهي و استجِبْ | أقومُو غـداةَ طـاب لـي الطعام أصومُ لـكَ فـاعـفُ عـنها .. أيها القيومُ يـا مَـنْ إلـيـك الأمـرُ و التسليمُ |
و يسكن القلب ، و تقرُّ العين ، و يأنس الخاطر ، و تهب نفحات الرضا ، فيجدها المؤمن انشراحاً في الصدر و لذة في الذكر و قد سمى الشاعر ذلك ( فيض الأنس ) :
وجـدتُـك يـا إلهي في نـزلتَ بخافقي بشرى و نُعمى فصِرتُ أعزُّ مَنْ في الأرض لما | فؤاديفـمـا عـانيتُ يوماً من و طـمـأنةً جنيتُ بها مرادي عـلـيكَ غدا أيا ربُّ اعتمادي | سهادِ
و هذا الفضل الذي يتقلب فيه الشاعر ، و تلك النعم التي يرغد فيها ، كان سبيلها الوحي الذي نزل على محمد صلى الله عليه و سلم الرحمة المهداة و قد بلغ الرسالة ، و أدى الأمانة ، عرّفنا بالله حقاً فسلكنا سبيل الهدى و الفلاح:
خـيرُ الخلائق في الزمان هـو رحمة للعالمين على المدى بـهـداه نـال العالمون نعيمهم لـولا هـدايـتـه لظلتْ أمتي | محمدفـبحبه تصفو النفوس و و سـبـيله النهج القويم الأرشدُ و بـهديهِ أهلُ الضلالة قد هُدوا تشكو الضياع ، و للحجارة تسجدُ | تَـسعدُ
فبحبه و حملِ رسالته التي أنقذت أمتنا يتجدد الأمل ، و قد نبتت لهبل و اللات نابتة ، و أطلت برأسها زخارف الإفك و الشيطان ، و أمست البشرية تتلفت إلى منْ ينقذها ؟!
و في أيدينا - لو صَحَّ - منا العزم و النية - ما يرد قلقها ، و يحول ضياعَها إلى رشد و سعادة :
يـا أيـها الهادي إلى مـا قـلتَه حقٌّ أقـرَّ به العدا لـو حكَّموا ما جئت للدنيا به و لزال من عيش الأنام شقاؤُه | الرحمنمـا زال شرعُكَ منقذَ الأكوان لـم يختلف في الحق فيه اثنان لرأيتَ كلَّ الكون في اطمئنان و لعاش كلُّ الخلق في رضوان |
و لما كان حبه ، و حب ما جاء به دليل الإيمان به و بدينه فقد ظل حبه صلى الله عليه و سلم حياً في ضمائر الأمة ، و صدق من قال :
إن الرسول لحيٌّ في ضمائرنا على الزمان يرى منا و يستمع
و يتردد صدى هذا الحب في معارج مصطفى عكرمة فيقول :
حبُّـكَ السعدُ و المنى والأمان يا رسولاً عزَّتْ به الأكوانُ
بكَ تمّتْ رسالـةُ الله للكـــ ــون ، و نالتْ نعيمَها الأزمانُ
و اطمأنَّ الأنام ، لم تَشْقَ روحٌ كيف تشقي و في هداك الضمانُ
و يستمر الحق في مسيرته ، و لا ينقطع مدد الخير ، و تمضي الأمة في كل عصر و مصر على سنن الهدى ، و يهيئ الله لها رجالا يستنون بسنة نبيهم ، و يصلحون ما أفسد الناس ؟!
يجددون للأمة أمر دينها ، و يحيون فيها يقينها و قد قال عنهم كتاب الله (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه ))
و يقف الشاعر في محطة (رجال) ليجد فيها ماضياً و حاضرا سلسلة لم تنقطع ، يبرز فيها قائم لله بحجة ، كما في خطابه لبلال مؤذن الرسول صلى الله عليه و سلم :
أأبـا اليقين و أنت فيه لم سَوّاكَ ربُّـكَ للثبات على الأذى (أُحُدٌ) بها ناديتَ تصفع كبرَهم | تزلْفـرداً تـبـارك ذكرَه مَـثَـلًا بـه تـتجسد الأمثالُ فاصّاغروا ، فإذا الرجالُ نِمالُ | الأجيالُ
و كما عرفت الأمة للسابقين فضلهم عرفت للتابعين بإحسان قدرهم ، و منهم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط أحد فرسان السنة من المحققين المتميزين في عصرنا :
يا خادماً سُـنةَ المختار في و هـبتَ عمرَكَ تمحيصاً لها أبداً شغلتَ قلبك بالوثقى و عشتَ لها لـحـكمةٍ شاءَكَ الرحمنُ حارسَها | زمنيلأنتَ بالحق في الدارينِ أنتَ غني و عشتَ عمرَك تقفو أكرمَ السَّننِ و لم تحِدْ ساعةً عن نهجكَ الحسَنِ فـكـنتَ فيها عليها خيرَ مؤتَمَنِ |
و يمضي الشاعر يعرج في مرتقاه ، و تشمخ في ديوانه شتى الفضائل يصورها يراع متمكن ... و لكن يؤلم النفس أن أمثال مصطفى عكرمة ذا الشاعرية الفياضة المتدفقة الحكيمة المؤمنة لم يعط حقه ، و أعطي غيره أكثر مما يستحق ؟! فلو أن النقاد الذين تغافلوا عنه نظروا إلى ما فوق رؤوسهم لرأوا كيف يكون التسامي لغة و مضموناً و صوراً و إيقاعاً في معارج مصطفى عكرمة .. و لعل قصيدة (لمن) تلخص هذي المعاناة ، و تختصر ما نريد قوله :
لـمـن أذوّب نبضَ القلب أرسلتُ شعري لمجد الحق منتصراً أعـمَـتْ لذائذُ فاني العيش أعينَهم فـكـيف بالقلب لا ينساب أشعارا لـكـل حـر سأبقى العمر أرسله و حسب شعريَ أن تلقاه صاعقـةً | أشعاراو لا أرى صاحباً يصغي و لا جارا و مـا وجدتُ لمجد الحق أنصارا فـلا يـبـالون مهما حولهم صارا و كـيف لا أرسل الأشعارا إنذارا عسى أرى كلّ حرّ في الورى ثارا عـلى الطغاة ، و للأحباب أزهارا |
* صدر الجزء الأول من الأعمال الشعرية الكاملة في 716 صفحة من القطع الكبير
عن (مكتبة العبيكان) - الرياض - المملكة العربية السعودية - ط 1 عام 2005
* مصطفى عكرمة : شاعر سوري ولد 1943 م في قرية (بابَنـّا) شرقي اللاذقية له عدد من الدواوين الشعرية ، و هو عضو في اتحاد الكتاب العرب و رابطة الأدب الإسلامي العالمية .