"باط بوط".. رؤى من صميم المجتمع الفلسطيني

"باط بوط"..

رؤى من صميم المجتمع الفلسطيني

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

اعتبرت د. سلمى الخضراء الجيوسي في كتابها "موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، رياض بيدس من أفضل كتاب القصة القصيرة في فلسطين المحتلة عام 1948، والكاتب من مواليد عام 1960. ولد في قرية شفا عمرو في الجليل، حيث أكمل تعلميه الابتدائي والثانوي، وقضى بيدس ثلاث سنوات يدرس التاريخ والفلسفة وتاريخ الفن في جامعة حيفا1.

صدرت قصة "باط بوط" عن مكتبة سمير الصرفندي في الناصرة، وهي العمل السابع من مجموعة أعماله القصصية، وتقع القصة في "187" صفحة من القطع المتوسط، يتصدرها كلمة للكاتب بعنوان "شكر واجب"، يقدم فيها شكره لأصدقاءَ كثيرين، كان لهم فضل عليه في إتمام هذه الرواية، فقد أفادوه بملحوظات كثيرة حول القصة، ومن تلك الملحوظات التي أشار عليه فيها أصدقاؤه عنوان القصة التي غير اسمها من "الحب من أول نظرة إلى باط بوط على وزن راس روس لخليل السكاكيني"2.

تقوم أعمال الكاتب رياض بيدس على النقد الاجتماعي بكل أبعاد ذلك المجتمع السياسية والثقافية وجوانب حياة الناس المعيشية، وفي هذه القصة يعالج الكاتب جوانب مهمة من حياة الناس عبر مشاركة صديقه البوط هذا النقد، وما يلفت النظر حقيقة في هذه القصة أن البوط وهو نوع من أنواع الأحذية "حذاء رياضي عادة" يشكل عصب القصة، ويحمّله الكاتب أبعادا رمزية، فيتفق البوط والشخصية الرئيسية "فضل" في القصة على كل القضايا المختلف عليها مع الآخرين، والذي يوجه لهم الكاتب نقدا لاذعا.

لقد عرض الكاتب في باط بوط كثيرا من القضايا الاجتماعية، ومنها ما قاله الكاتب "فلتأخذن بالحسبان أن المرأة التي حملت تسعة شهور كاملة وأنجبت ابنة ما رأت بأسا من أن تزوج ابنتها وهي في المهد، وذلك احتياطا للمستقبل واستتماما للفائدة"3، لعل هذه القضية معروفة في الأوساط الشعبية في فلسطين، وهي أن فلانة لفلان منذ الصغر، تحدث عنها كثير من الكتاب، وهنا يتفق فضل والبوط على موقف واحد تجاه هذه القضية، "البوط يقول مضطربا: أكاد أتقيأ مما أسمعه، أرجوك كفى"4.

وينتقد الكاتب تصرفات الناس الذين يوزعون التهم على الآخرين دون تحقيق وتمحيص، يقول: "ولكم أن تتخيلوا عدد أولئك الذين يحملون سلال التهم ليوزعوها على الآخرين كما يوزعون باقات الورد وهم يتربصون بأمثالي"5، إن ذلكم وباء اجتماعي خطير يدمر العلاقات الاجتماعية، لا يمرّ عنه رياض بيدس دون أن يكون له فيه كلمة.

وعلى الرغم من أن الناس يعانون من إيقاع الحياة السريع، ويصور الكاتب لنا ذلك في القصة، بجمل فعلية قصيرة ذات إيقاع سريع يدل على المقصود، إلا أن الناس فيما يُمنحون من وقت فراغ، يقضون تلك المنحة العظيمة "في الكلام الفارغ حول ما هبّ ودبّ أو بفصفصة البذر أو عن أحداث المنطقة اللاهبة"6.

وغير بعيد عن مضمون القصة وعنوانها يتحدث السارد عن بعض الأفكار والمعتقدات الشعبية فيما يخص الأحذية، فما زلنا نسمع من كبار السن عن ضرورة عدم ترك الأحذية مقلوبة، لأن ذلك نذير شؤم عندهم، ترى رياض بيدس يتعرض لهذه المسألة، لذلك ترى فضلا يتحدث عن ذلك قائلا، وغير مصدق بالضرورة تلك المعتقدات: "وطلب مني بإلحاح ألا أنساه مقلوبا ذات يوم، فأينعت ذكريات رأسي عن الأحذية المقلوبة واسترجعت بعضا منها"7.

ويتخذ الكاتب من القصة مجالا لتبصير الجماهير بضرورة التفكير بالواقع وتأمله، لتستطيع تغييره أو التعايش معه على الأقل بعيدا عن عوامل التخدير التي تحاول إبعاد الناس عن التفكير بهذا الواقع، فالراوي الذي يسرد فضلٌ علينا قصته في أحد الليالي لا يلبي رغبة الجماهير في أن يحدثهم حكاية مسلية، بل أخذ يتحدث لهم عن الأبواط والتبوط حتى ملوا وناموا، ولكنه يوجه في نهاية الجلسة إلى الجماهير حديثه قائلا: "ما رأيكم بحذاء المختار؟ قارنوا بين حذائه وأحذيتكم البالية أيها المجانين"8. لذلك تجد السارد يعلق على موقف الراوي قائلا: "فأيهما أكثر جنونا: الراوي الطيب أم الحضور الذين تظاهروا بالفهم وهم ليسوا بفاهمين؟9".

وأما في الثقافة والمثقفين فحدث ولا حرج، فقد تناول الكاتب العديد من المجالات الثقافية بالذم والنقد بدءاً من أصحاب الشهادات من المحامين والأطباء والمحاسبين، وتحول هؤلاء كما يقول "إلى عناوين مستحبة"10، ولم يحظ المعلم بطبيعة الحال بذلك الشرف، ولذلك ترى السارد "فضل" يعلق ساخرا على هؤلاء "فإن نظرات الأطباء والمحامين غير قصيرة أبدا، وإنما أقوى ما في هؤلاء الناس هو نظرتهم الطويلة التي بحاجة إلى تقصير"11.

وتشن القصة حملة شديدة على المثقفين أو أنصاف المثقفين، وتصفهم بأنهم "طقيقة حنك"، فعندما جاء رتل من المثقفين ليسلموا على فضل بعد عودته من سفرته الباريسية كان يتوقع منهم حديثا مفيدا، وليكن عن بوطه مثلاً، ولكنهم تجاهلوا الحديث عن البوط إلى أشياء تافهة، فقد كان أول سؤال يطرحه عليه المثقفون هو "كيف الفرنسيات؟"12، وبعد أن يداور فضل بالحديث مبعدا المثقفين عن هذه الموضوعات التافهة، فإنه لم يفلح بجرهم لحديث مهم، لذلك بقوا على أحاديثهم التي لا تليق بمثقف من وجهة نظر فضل، فالحديث عن البوط والتبوط أحسن حالا من أحاديث المثقفين!

وإذا ما علمنا أن رياض بيدس يسكن في بلدة تدعى شفا عمرو، وهي إحدى القرى العربية داخل "إسرائيل"، فإنه يعرض في القصة نقدا ساخرا عن أوضاع العرب في إسرائيل وكيف تعاملهم الدولة، ففي حلهم وترحالهم يفتشون تفتيشا دقيقا، "رنت ضحكة المسؤول في أذني وقال: كل شي عرضة للشبهات ما دام معك، سواء كان بوطا أم حبة ملبس"13.

ويتعرض العرب للمضايقات، ويستدعون للتحقيق، وهم عرضة لذلك بمناسبة وغير مناسبة، فيهانون في مراكز التحقيق بالشتائم والضرب، ولا تتعامل معهم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية إلا بسوء نية، وتأخذ هذه المسألة بعدا لا بأس به في القصة، ففي هذا المشهد يصف فضل ما جرى معه صبيحة ذلك اليوم الذي استدعي فيه للتحقيق: "ولما وصلت مركز البوليس سألت عن المسؤول وتوجهت إليه. عرفت نفسي تعريفا دقيقا تاما. سألني المسؤول: كفاك تقديما وتعريفا بنفسك. ما نعرفه عنك يفوق خيالك. أرحني من حكيك، وقل لي كيف تعرّف بوطك14"، أترون كيف يستدعى فضل للتحقيق، إنه لأمر تافه حقا أن يستدعى للتحقيق شخص لمجرد أنه فرح ببوط استقدمه معه من سفره، وكأن الكاتب يريد أن يقول إن هؤلاء القوم يريدون أن يفسدوا عليه حياته وفرحه حتى بأبسط الأشياء.

كما ويذكرنا الكاتب بجرائم الصهيونية في حرب لبنان عام 198215، ويقول عن أبناء عمومته من اليهود أنهم "رفضوا حمامة السلام وغصن الزيتون"16، وعن معاناة السفر، يختصر فضل تلك المعاناة بجملة قصيرة "المطار مكان مرعب"17

ويعرج الكاتب على أوضاع السياسة في العالم العربي، فيتحدث عن حرب العراق، وما جلبته من ويلات الدمار على العراق وشعبه، "وألم يكفنا شر السيد بوش في هجمته "الطيبة والودودة على العراق وإغراق بلد النخيل بشتى أصناف الأسلحة القديمة والجديدة؟ وحبذا لو تفرغ "الطيب" بوش وأعمل نظره الإنساني في أقدام العراقيين الصغار، وتأمل ما فعلته حوافر طائراته وطائرات الدول الغربية التقدمية المؤازرة على هدر الدم وإزهاق الأرواح"18

وفي كل تلك القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية، لم يحدث أن خالف البوطُ فضلا، ولو مرة واحدة، وهذا يستدعي أن أقف قليلا حول دلالة البوط في هذه القصة.

لم يكن البوط مجرد حذاء تنتعله القدم، بل يأخذ أبعادا رمزية، فيغدو شخصية رئيسية تشارك فضلا في الأحداث والتعليق عليها، ليكون البوط وفضل شخصية واحدة "مع أننا واحد، وما ما من شيء مقسوم بيننا سواء كنا في السراء أو الضراء19"، ويُؤْثِر فضل بوطه على صديقته الحيفاوية التي خيرت فضلا بينها وبين البوط، فيختار فضل البوط عليها، فإذا كان فضل سيحارب من أجل أن يعامل البوط كما يجب20! فهل سيتخلى عنه لصالح صديقة، قد يجود الزمان عليه بغيرها؟ ولكنه في كل الأحوال لن يستطيع التخلي عن ذلك البوط، الذي وصفه في مواطن كثيرة من القصة بالعزيز والمخلص والصادق.

ويدل البوط على فئة من الناس إنهم الهامشيون والكادحون والناس الطيبون الذين امتازوا بالصدق والبعد عن النفاق الاجتماعي، فيتعرض البوط كما يتعرضون إلى التهميش والمضايقات وسوء التصرفات والمعاملة من فئات المجتمع، وخاصة الأغنياء البرجوازيين، فكان التبوط سلوكا اجتماعيا نقيضا لسلوك هؤلاء الناس، كما أنه يعني أن تسير إلى حيث شئت لا يمنعك أحد من ذلك، فيصبح التبوط رديفاً للحرية، "أريد أن أسير كيفما وحيثما أشاء21"، ومن هنا جاء تعليق الكندرجي خلال حديثه مع فضل "من يستطيع المشي في قفص؟22".

وأخيرا لقد امتازت قصة باط بوط بجملة من الخصائص الأسلوبية، أظهرت تمكن الكاتب فعلا من الفن القصصي وأدواتها الفنية، فما قالته د. سلمى عن رياض بيدس في موسوعتها تؤكده هذه القصة بما لا يدع مجالا للشك، ولا يكتفي المرء أن يقف عند هذه القصة وقفة عجلى كهذه، بل إن فيها قضايا كثيرة تستحق المناقشة والتحليل، أختم هذا المقال وفي النفس شيء من باط بوط، تدفعني لمعاودة قراءتها من جديد في وقفة أخرى إن شاء الله.

                

1 موسوعة الأدب الفلسطيني المعاصر، د. سلمى الخضراء الجيوسي، ج2، ص38.

2 باط بوط، ص"5"، وهذا كان اقتراح الكاتب أنطوان شماس.

3 القصة، ص "11"

4 السابق نفسه.

5 السابق، ص "30"

6 السابق، ص "32"

7 السابق، ص"90"

8 السابق، ص "94"

9 نفسه

10 السابق، "10"

11 السابق، ص "11".

12 السابق، ص "118"

13 السابق، ص "163"

14 السابق، ص "132"

15 السابق، ص "106"

16 السابق، ص "161"

17 السابق ص"165"

18 السابق، ص "1.9"

19 السابق، ص "29"

20 السابق، ص "89"

21 السابق، ص "80"

22 السابق، ص "81".