شتاء طرابلس الدامي
محمد سيد بركة
يعد كتاب شتاء طرابلس الدامي للشيخ الداعية الليبي أحمد القطعاني أول كتاب عن ثورة 17 فبراير يصدر في طرابلس الغرب، يحدثنا عن مجريات الأحداث منذ يوم 15 فبراير وحتى انتصار الثورة يوم 20 أغسطس ، وموقفه من هذه الأحداث راصدا كل التفاصيل المهمة ومتتبعا لكل ما يبثه النظام الديكتاتوري من دعاية وزور وبهتان، الغرض منها زرع الفتنة بين أبناء الشعب الليبي الواحد وتقويض ثورتهم البكر البريئة التي بدأت سلمية وتطورت لتأخذ الطابع العسكري دفاعا عن النفس.
بدأ القطعاني كتابه بعبارة جميلة معبرة تقول: تستطيع أن تدوس الأزهار لكنك لا تستطيع تأخير الربيع، وهي عبارة من العبارات المنبثقة عن عبارة ارنست همنجواي في روايته الشيخ والبحر على لسان بطله سانتياجو من الممكن أن تسحق الإنسان لكنك من المستحيل أن تهزمه.
فالمستقبل كما يقول القطعاني ھو تكرار للماضي القدیم لیس إلا ففي1911 م حارب اللیبیون مستعمریھم الإیطالیین وبعد ذلك بقرن في 2011 م ھاھم أحفادھم یحاربون مستعبدیھم المتألھین ، وأقام الایطالیون المعتقلات للیبیین في العقیلة والبریقة وسواھا وھاھو نظام القذافي یعتقلھم داخل العقیلة والبریقة بل والمدن والقرى التي تأخر تحریرھا ویعتدي جنوده ومرتزقتھا على أعراض الحرائر اللیبیات فیھا ویسرقون وینھبون ویقتلون ، وأطلق الإیطالیون لقب الجرذان على اللیبیین وھو ما وثقه فیلم عمر المختار وأطلق القذافي اللقب نفسه على اللیبیین وھو ما وثقه كل إعلام الدنیا ، واضطر الایطالیون اللیبیین للنزوح خارج وطنھم وكرر القذافي الأمر نفسه ، وكما طلین بعض خونة اللیبیین وحاربوا أخوانھم مع الجیش الإیطالي ھاھم أحفادھم یحاربون مع القذافي ویقتلون أھلھم لأجله، وتحرر تونس من الاستعمار الفرنسي ومصر من الاستعمار البریطاني كان یعتمد بشكل أساس على الجانب السیاسي والمفاوضات وھو تقریبا ما تكرر في ثورتیھما ضد بن علي ومبارك بینما تحررت لیبیا بالقتال المضني الذي استشھد فیه نصف سكان لیبیا في الجھاد ضد المستعمر الإیطالي أو في معتقلاته وھاھو الأمر نفسه یتكرر في ثورة فبرایر المباركة.
يرى الكاتب رغم أن الموعد المعلن لانطلاق ثورة لیبیا المجیدة عبر الفیس بوك كان ھو 17/2/2011 م إلا أنھا انطلقت فعلیا في 15/2/ 2011 فتحررت بنغازي من قبضة القذافي ثم تلتھا مدن شرق وبعض غرب لیبیا التي تحررت أیضا . وأن السبب الحقیقي لطول مدة ومعاناة ثورة لیبیا المجیدة ضد القذافي أن القذافي لم یكن رئیسا أو حاكما كبن علي أو مبارك بل كان انتقل منذ سنوات طویلة من صنف البشر إلى صنف الآلھة وكیف ینزل إله عن عرشه ، وعندما خطب لیقول: من أنتم ؟ ، وأنا المجد لأفریقیا وآسیا وأوروبا وأمریكا الجنوبیة ، ولیقول مرة أخرى أنه مقدس كإمبراطور الیابان وأن الشعب مستعد للموت لحمایته وغیرھا من عبارات كثیرة تظھر فیھا ھذه المعاني النرجسیة إنما كان یعبر فعلا عن حالته النفسیة الحقیقیة التي یعیشھا وأكدھا فیه آلاف منیحیطون به ویھتفون له . ومن ثم استغرقت ثورة ليبيا المجیدة شھورا حتى یوم الجمعة 8/7/ 2011 وھو الیوم الذي ألقى فیه كلمة صوتیة بالھاتف عبر تلفزیونه على متظاھرین من أنصاره في سبھا في هذا اليوم بدأ الليبيون يشعرون أن الطاغية ابتدأ على مضض ومشقة یعود إلى الواقع ، وھو ما جعل الكاتب يقول وبكل ثقة : اقترب الفرج . ونحن لا نستطیع أن نغیر الماضي ولكننا قادرین على تغییر المستقبل بإذن الله... ويقول: كنت أعرف دائما أنك یا ربیع التكبیر ستحل یوما والحمد لله أنني أدركتك..
يمضي الكتاب عبر تقنية كتابة اليوميات بسرد تاريخ اليوم وما وقع فيه من أحداث مهمة نقرأ مثلا:
الساعة الثامنة مساء من طرابلس يوم 20/2/2011 أذاع الشيخ القطعاني هذا البيان محتجا فيه عما يحدث في شرق ليبيا من مجازر من قبل كتائب القذافي ومرتزقته. يقول في بعض فقرات بيانه: الكلمة الأولى هي لرجال الأمن وغيرهم ممن يواجه المتظاهرين، أناشدهم بضبط النفس إلى أقصى درجة وعدم استعمال السلاح في مواجهة المتظاهرين، فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة المائدة {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا}.. إلى آخر الآية الكريمة.
وأيضا وجه كلمة في بيانه هذا للمتظاهرين ينصحهم فيها بالإلتزام بالتعبير السلمي وعدم التخريب وإفساد الممتلكات، ووجه كلمة ثالثة إلى المسؤولين في ليبيا من أعلى الهرم إلى أسفله يذكرهم فيها بما جاء في الوثيقة الخضراء الكبرى لحقوق الإنسان الصادرة عن مؤتمر الشعب العام 1988 حيث تضمن هذه الوثيقة للفرد في ليبيا بالتعبير عن رأيه وفي الهواء الطلق. لكن بيانه هذا لم يجد آذانا صاغية لدى كتائب القذافي ومرتزقته فاستباحوا الدماء والفروج وخربوا الممتلكات وكان ذلك بإيعاز من القذافي نفسه.
ثم يتحدث القطعاني عن معاناته من قبل النظام الذي يراقبه عن كثب، وكيف أنه قطع خط هاتفه مباشرة بعد مداخلته. وقد ألحق بيانه هذا بفتوى بتعطيل صلاة الأوقاف في المساجد والميادين والصلاة في البيت لقطع الطريق أمام أمة النظام المتاجرين بالدين، وأيضا حقنا للدماء ومحافظة على أرواح المسلمين من رصاص القناصة المتمترسين فوق المباني العالية القريبة من المساجد.
كما يتحدث في كتابه عن إشاعة هرب القذافي إلى فنزويلا، يوم 20 فبراير وكيف اندلعت بعدها مظاهرات كبرى في طرابلس تم قمعها بوحشية من قبل النظام حيث يعتقد الشيخ أن عدد الشهداء في هذه المظاهرة يفوق عدد شهداء ثورات تونس ومصر واليمن مجتمعة عداك عن عدد الجرحى والمفقودين. واحتجاجا على هذه المذابح أمر بوقف وحجب إصدار مجلة الأسوة الحسنة كنوع من المقاومة السلمية والشجب لهذه الجرائم، وأذاع ذلك على موقع المجلة على شبكة الانترنت، ليتم غلق الموقع لاحقا. ويذكر أن من أوائل الشهداء بين المحتجين السلميين كان المواطن خالد خنفر.
الكتاب يحتوي على رسائل رسمية تثبت مثل هذه المعلومات الواردة، وقد فصل الكتاب، حيث يورد تاريخ اليوم والحدث المهم الذي وقع فيه. ويرصد حتى الإعلانات التي ترسلها شركتا "ليبيانا" و"المدار" للمواطنين معلنة عن خطاب للقذافي أو ابنه سيف، أو إعلانات تطالب المواطنين بالذهاب إلى أعمالهم.
وللشيخ القطعاني تصريح مهم لقناة الجزيرة يوم 23 فبراير بعد يوم من مجزرة طرابلس طالب فيها القذافي بأن يكون رجلا ويتنحى. مما جعله بهذا التصريح الجرئ والصادر من مواطن ليبي بطريقة صريحة ـ وهو أن يتنحى القذافي ـ مطلوبا للنظام فاختفى في عدة بيوت للأصدقاء، وتمت إشاعة نبأ قتله مما جعل قبضة البوليس والمخابرات ترتخي في البحث عنه وليختفي لمدة شهر بعدها.
كما يتتبع الكتاب كل المسجات (رسائل الموبايل القصيرة) التي يرسلها النظام لهواتف المواطنين بدقة، شيوخ موالية تطالب الناس بطاعة أولى الأمر وترك التظاهر. 500 دينار توزع على المواطنين. وكثير من التوجيهات التي معظمها كذب وبهتان وتوجيه استخباراتي للرأي العام.
لم يفت القطعاني في كتابه هذا أن يشكر الله تقربا له ودعما للثوار، فنذر أن يذبح كبشا عند انتصار الثورة. ويتحدث في كتابه عن قصف الناتو بصواريخ التوما هوك وأيضا بواسطة الطائرات لمخازن الذخيرة وللمعسكرات القريبة من بيته، وكيف أنها تظل تنفجر لمدة سبع ساعات أحيانا. والطريف أنه عندما يكون هناك قصف للناتو تكون الأمور هانئة وينامون في راحة، لكن إن تأخر قصف الناتو يشعرون بالخوف. ويسمي شباب طرابلس طائرات الناتو باسم (فريحة) فيقول أحدهم: أينك يا فريحة تأخرتي اليوم.
كما يرصد الكتاب عملية فوضى السلاح والمتاجرة به، وكيف يتحصل عليه بسهولة الناس بعد أن يقوم الناتو بقصف منشأة مباشرة حيث يهرعون إلى هناك ووسط الفوضى يسرقون الأموال والسلاح. وأحيانا يتعرضون للخطر إن قام الناتو بقصف المكان مجددا.
أيضا يشيد الكتاب بتدخل فرنسا لحماية الشعب الليبي فيوجه تحية إلى الرئيس ساركوزي عبر صديقه الفرنسي مسيو جويل ماورات الذي كان يصلي الجمعة معهم وينصحه بأن يختفي في بيته، وأن يغير شفرة هاتفه وأن يبلغ السفارة الفرنسية بمكانه.
يوم 4/3/2011 أفتى الشيخ القطعاني بحرمة أخذ مبلغ 500 دينار من نظام القذافي. كما طلب من صديقه الهامل الذي يزور الزاوية أن يحضر له قنينة من تراب ميدان الشهداء بالزاوية ليتعطر به.
وفي نهاية الكتاب وتحت عنوان آمالي الخمسة يقول القطعاني : بالنسبة لي آمل أن تحقق ثورتنا المجیدة كل أھدافھا النبیلة وأن یكون منھا ھذه الآمال الخمسة التي لا أحب إلي من رؤیتھا في لیبیا الأمل التي نرنوا إلیھا بإشفاق واشرئباب أعناق ونترجاھا من ربنا الكریم الرزاق.
الأمل الأول .. ألا توجد بلیبیا وزارة إعلام ولنسجل للتاریخ أن لیبیا ھي أول دولة عربیة تتخذ ھذه الخطوة الحضاریة الدیمقراطیة العملاقة.
الأمل الثاني .. إنشاء وزارة باسم وزارة الوفاء یكون عملھا الاھتمام بأیتام الثوار من ناحیة الإنفاق
علیھم حتى یتموا دراستھم وتمكینھم من دخولى أفضل الجامعات وإن كان المجموع المطلوب لكلیة ما 90 % وكان مجموع أحدھم 55 % دخل الكلیة لأن فرق الدرجات دفعه والده الشھید مقدما ولھم الأولویة في المسكن الحسن وأداء فریضة الحج وكل المزایا وأن تتكفل ھذه الوزارة بعلاج جرحى الثورة والمنتھكات أعراضھن ومتابعة المفقودین ، وبناء ما تھدم من منازل أسر بقذائف الطاغیة وتعویض ما فقد من ممتلكات حیوانیة أو زراعیة أو صناعیة ، وتبني عودة المھجرین واللاجئین .ومن عمل وزارة الوفاء أیضا حفظ جمیل دول عربیة وأجنبیة ومنظمات عربیة ودولیة وقفت معنا في محنتنا وأفراد مسؤولین عرب ودولیین من رؤساء ووزراء وسواھم حتى بعد تنحیھم عن مسؤولیاتھم ، والبعد بمنافع الدولة اللیبیة كافة واستثماراتھا وتقدیرھا عن دول وشخصیات ومنظمات أعانت القذافي ونظامه علینا إبان محنتنا.
الأمل الثالث .. الإبقاء على أصل دستور لیبیا الصادر سنة 1951 م ویعدل فیه ویزاد ویحذف لیلبي كل حاجاتنا الدیمقراطیة والقانونیة المھم أن نتفھم ونستفید من القیمة التاریخیة والحضاریة فشتان بین أن یكون لدولتنا دستور عمره 60 عاما ودستور عمره 60 یوما ، إنه تأصیل لتاریخنا وتأكید لعمق وقدم حضارتنا كما أنه وفاء ومواصلة لأجدادنا الذین خطوا ھذا الدستور یوم استقلالھم المجید الذي حققوه بالدماء والجوع والنصب في
وقت كان العالم یخطو أوائل خطواته بعد الحرب العالمیة الثانیة.
الأمل الرابع .. إلغاء كل الأجھزة الأمنیة التي تستھدف المواطن لصالح الدولة.
الأمل الخامس .. إرجاع الأفارقة الموجودین في لیبیا للعمل أو غیره إلى مواطنھم ومراقبة الحدود الجنوبیة بدقة لمنع دخولھم مجددا والاستعانة بالعمالة العربیة والأسیویة عوضا عنھا علما بأنھم عمالة عادیة غیر مدربة وجلھا أمي ومجموعات متكدسة غیر منتجة بطبعھا ولم ولا تشكل أي فائدة للبلاد ، فقد عانینا منھم كثیرا وكل ما فعلناه بھم من خیر أعادوه بنا شرا ، ویحتاج أطفالنا ونساؤنا وقتا طویلا وطویلا جدا لینسوا ما فعلھ بھم المرتزقة الأفارقة.
وعموما الكتاب به معلومات كثيرة عن أجواء طرابلس خلال الشهور الست التى عانتها من القذافي قبل أن تتحرر في ذكرى فتح مكة، عشرين رمضان/ عشرين أغسطس. كتاب تميز بلغته البسيطة غير المتزمتة والمطعمة بروح الفكاهة والسخرية المرة من تصرفات ديكتاتور ظنَّ نفسه إلها وصبر شعب يراهن على انتصاره ولو طال الزمن، ولسان حاله يقول للقذافي ولكل طاغوت ماكلينا غير عظيماتك على الكسكسو. كتاب رصد مجريات الأحداث وتتبعها وعلق عليها. أيضا كما يعتبر سيرة ذاتية للشيخ القطعاني تؤرخ لحياته خلال شهور الثورة منذ انطلاقتها وموقفه منها ومن كل تداعياتها.
ولا يخلو الكتاب من لمسات طريفة تحبب القارئ في قراءته والتعاطي معه، وأقف هنا عند عدة ألقاب يطلقها أهل طرابلس المرحين على الفريقين المتصارعين: الثوار وكتائب القذافي. فالثوار رمزهم توتو والكتائب رمزها كوكو. أيضا يقولون مختش أو عاقل، والعاقل يعنون بها الثوار، والمختش أي المختل عقليا كتائب القذافي، وأطرف تشبيه للثوار والكتائب هو الثوار يشبهون بالدلاع (البطيخ الأحمر) لأنه يحتوي على ألوان علم الاستقلال الثلاثة الأخضر والأسود والأحمر، وكتائب القذافي يشبهون بالنعناع للونهم الوحيد، وهو الأخضر، وأحيانا يسألون الشخص أنت ملون أو ساده. والملون مع الثوار، والسادة اللون الواحد مع الكتائب.
وثورة ليبيا ككل الثورات ستصدر كتب كثيرة عنها، وكل كتاب سوف يضيف لبانوراما الثورة، ويسهم في رفع معدلات الحرية والديمقراطية والمعرفة والتنوير.
الكتاب : شتاء طرابلس الدامي
المؤلف : أحمد القطعاني
الطبعة : الأولى -2011
عدد الصفحات : 145 صفحة من القطع المتوسط
الناشر : المؤلف –طرابلس –ليبيا