ثوريّة الوطن الضّائع

قراءة في أشعار سالم جبران

هيفاء مجادلة

بين إخفاقات ونكبات شعبه وُلدَت كلمته الشعريّة مدوّية في سماء شعراء فلسطين المقاومين، فاتّخذت أشعاره شكلاً من أشكال النّضال والمقاومة والصّمود. هو سالم يوسف جبران، الذي اتّخذ من الشّعر منبرًا أفرغ فيه مشاعره المتأجّجة. ولد عام 1941 في قرية البقيعة في الجليل الأعلى شمال فلسطين. تلقّى دراسته الثانويّة في كفر ياسيف. اتّجه للعمل في ميدان الصّحافة منذ عام 1962 واستمرّ فيه حتى عام 1992. تنقّل خلال هذه السّنوات بين مجلات عديدة، بدءًا برئاسة تحرير مجلّة الجديد الأدبيّة، مرورًا بالاتّحاد والغد رئيسًا لتحريرهما، وانتهاءً بإنشائه وإدارته لمجلّة الثّقافة، ورئاسة تحرير مجلّة المستقبل الأدبيّة. رافق عمله في الصّحافة دراسته في جامعة حيفا وتخرّج منها عام 1972. اتّجاهاته يساريّة، انضمّ إلى صفوف الحزب الشّيوعي إيمانًا منه بأن الشيوعيّة أعلى مراحل الوطنيّة والإخلاص للشّعب، ولكن إثر صراعات عقائديّة وتنظيميّة ترك الحزب عام 1993.

لقاؤه مع الشّعر بدأ مبكرًا جدًا، حين كتب أوّل قصيدة له وهو في الصّف الثامن الابتدائي. طرق في أشعاره مواضيع شتّى، فكتب في الطّبيعة، الغزل والمرأة. كتب شعرًا اجتماعيًا وإنسانيًا، وشكّلت الوطنيّة مجالاً خصبًا من مجالات كتاباته، فخصّص معظم شعره في تناول مأساة الشّعب الفلسطيني وصوّر معاناته؛ كما نالت القضايا العالميّة حصّة من اهتماماته.كتابته الحقيقيّة بدأت وهو على مقاعد الدّراسة الثانويّة عام 1956، إذ عايش أجواء الوطنيّة وتفاعل مع مدّ الحركات الثوريّة العربيّة.

اتّسمت خطواته الأولى في عالم الشّعر بطابع من الرومانسيّة، فكتب شعرًا تغزوه ملامح القلق والبحث عن الذّات. لم يطل بقاؤه في تيّار الرومانسيّة، وسرعان ما انتقل إلى مسارٍ واقعيٍّ ثوريّ، تأثّرًا بإنتاج الشّعراء العالميّين التقدّميّين والشعر الثوري العربي في تلك الفترة، الذي حفّزه على خلق أشكال شعريّة تتفاعل إنسانيًا وثوريًا مع المجتمع الذي يعيش فيه، وجعله يبحث عن شكل شعريّ أكثر تجاوبًا مع الواقع.

يُعتبر جبران من أصحاب الفوج الثاني من الشّعراء في فلسطين، ويمكن القول بأن تجربته الذاتيّة المعيشة هي المنبع الأساسي الذي منه يغترف شعريّته، فمعاناته التي عاشها في ظلّ الاحتلال ولّدت الكثير من قصائده؛ لذا كثيرًا ما نلمس في دواوينه خطابًا مباشرًا يوجّهه الشاعر إلى القارئ الفلسطيني خاصّة والعربي عامّة، يحدّثه فيه عن الثورة، الوطن، الاحتلال، المعاناة، القمع وغيرها من المحاور التي عليها دار شعره. لذا لم يكن غريبًا أن اتّسم شعره بالثوريّة وانطبع بالواقعيّة الاشتراكيّة. وقد دفعه تفاعله مع القضيّة الفلسطينيّة، وما رآه بعد النكبة إلى ممارسة الكتابة ملتزمًا، فحمل شعرُه طابع الالتزام، وقد صرّح جبران بأنه يعتزّ بكونه ملتزمًا بقضية لشعب، بقضية التغيير الثوري للعالم، ويرى أن التزامه الثوري هو بالضرورة التزام إنساني. كان من بين أولئك الذين سيقوا إلى السّجن في مطلع حزيران 1967، وحين أطلق سراحه "ثبته" الحاكم العسكري بأوامر تحديد إقامته والإقامة الجبريّة.

اضطلع الشّاعر بدور كبير في إثراء الحركة الثقافيّة والأدبيّة الحديثة من خلال أشعاره، وكذلك من خلال عشرات المقالات السياسيّة والأدبيّة، في مجلاّت وصحف عديدة مثل: صحيفة الرأي الأردنية، النّهار اللبنانيّة، الطريق الفلسطينيّة. تُرجمت الكثير من قصائده إلى لغات عديدة كالعبريّة والفرنسيّة والروسيّة والانجليزيّة.

أصدر جبران ثلاثة دواوين شعريّة: كلمات من القلب (1971)، قصائد ليست محدّدة الإقامة (1972)، رفاق الشّمس (1975). وهناك قصائد نُشرت في ديوان الوطن المحتل ولم تُجمع في ديوان واحد.

العزف على وتر الأرض والوطن:

جاءت النكبة عام 1948 فخلّفت معها تداعيات وأحداثا حفرت في نفسيّة الفلسطينيّين ندوبًا عميقة. تشرّد الشّعب، منهم من بقي يعاني الممارسات القمعيّة، ومنهم من نزح إلى الشّتات ولوعة الفراق ترافقه. سالم جبران أحد هؤلاء الذين كانوا شاهدين على ما حلّ بالشعب الفلسطيني من معاناة، فقد عايش المأساة التي اقتلعت أكثريّة الشعب الفلسطيني من وطنه، وعلِقَت مشاهدُ قوافل اللاجئين الفلسطينيين وهي تنزح من الوطن إلى المجهول خارجه في ذاكرته؛ وكلّ ذلك ترك بصماته واضحة على أشعاره.

ورد في أحد أعداد مجلة الجديد: "إنّ حبّ الأرض –حبّ الوطن-هو الموحي لشعرائنا بهذه القصائد، وكفاح قرويّينا للمحافظة على أرض الآباء والأجداد هو ما أثارهم. لقد أثار الاضطهاد القومي كرامتهم، التي هي من كرامة شعبهم ]...[، أثار آلامهم وآمالهم، فعبّروا بصدق وإخلاص عن كلّ ذلك" (الجديد، ع 7، 1957. ص 7).

تلخّص هذه الفِقْرة دائرة المضامين الشعريّة التي تحرّكَ الشعراءُ الفلسطينيّون في فضائها في تلك الفترة، ومن بينهم شاعرنا، وتتلخّص بكلمة واحدة هي الحبّ: حبّ الأرض والوطن. نظرتُنا الممعنة إلى أشعار جبران تفضي إلى أنها نبعت من هذه المعادلة، معادلة حبّ الوطن، ولعلّ أجمل قصيدة تُبرز هذا الحبّ قوله في قصيدته حب: كما تحبّ الأم / طفلَها المشوّها / أحبُّها / حبيبتي بلادي! (كلمات من القلب. ص 102).

بكلمات قليلة يجسّد الشاعر حبًّا عظيمًا لبلاده، شبّهه بحبّ الأم لوليدها المشوّه. هذا الحبّ الجارف لوطنه، حدا به لأن يوصي شعبه بأن يدفنوه-عندما يموت-خارج الأرض لا داخلها كي يعانق التربة، يقول في قصيدة "حنين إلى القرية": يا إخوتي إن متُّ / مُدُّوني على الأرض / بلا قبرٍ ولا لحدٍ / وخلّوني شهيدًا / في عناقِ التُّربة الشَّهيدة (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 6)

دارت مضامين أشعار جبران حول محاور أساسيّة أبرزها: المحور الوطني، تمثّل بإظهار حبّه لوطنه ودعوته إلى الصّمود والتشبّث بالأرض، وحرصه على إيقاظ الحسّ الوطني عند الشّعب وبثّ روح المقاومة فيهم؛ المحور القومي والأممي أبرزَ فيهما انتماءه إلى الأمّة العربية من خلال تناوله للقضايا والأحداث العربيّة وإلى القضايا الأمميّة عامّة؛ والمحور الإنساني/الاجتماعي الذي نبع من انتماءاته الماركسية، وتمظهر في طرحه لهموم وقضايا العمّال والطبقات الكادحة، وإظهار دعمه وولائه لها، ومن خلال إبرازه لقدسيّة الكفاح والنّضال وتكاتف طبقات المجتمع في سبيل الانتصار في معركة البقاء.

في طرحه لهذه المحاور، ينطلق جبران من إيمان مطلق بقوّة الكلمة فهي أقوى أسلحة الدفاع الفعّالة في معركة الفلسطيني، ولها دور كبير في تأجيج مشاعر الفلسطينيين وشحذ هممهم وحثّهم إلى المقاومة؛ لذا كثيرًا ما نجده يصرّ على استنفار صوته كقوّة تحريك دافعة، وكأنه يشير بذلك إلى ضرورة التزام الشاعر بقضيّة وطنه المحتلّ، وتكريسه شعره لهذه المهمّة. يقول متحديًا: يا وطني، إن سجنوا لي خُطوَتي / وغيّبوا عني طلوعَ الفجرِ في الجليل

]...[ / فلن تشلَّ خطوتي / وسوف يعلو الصوت (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 19)؛ فكلّ الممارسات القمعيّة والتهديدات لن تعمل على شلّ حركة الشاعر ولا كتم صوته، سيظلّ يصدح بالغناء، فهو مغنّي الثورة: وإذا مُتُّ في المعركة / فالأغاني / سوف تحتلّ، بين الرّفاق، مكاني / وتحارب عنّي (رفاق الشّمس، ص 26).لم يعد صوته وغناؤه مجرّد كلمات، بل تجسّمت وصارت تنوب عن الشاعر في حالة فنائه وتحارب بدلاً منه. وفي هذا إشارة من الشاعر إلى مدى قوّة الكلمة وشدّة وقعها وتأثيرها.

فيما يتعلّق بالمحور الوطني في أشعار جبران، لعلّ أول ما يطالعنا من شعر أبرزَ وطنيّته بوضوح، تلك القصيدة التي افتتح بها ديوانه كلمات من القلب وأطلق عليها عنوان (1948)، نظمها وهو يواكب الأحداث القاسية التي ألـمَّت به وبشعبه، يقول: كان ليلُ النكبةِ الأسود لا إشعاع فيه / غير إشعاع القنابلْ / وهي تنصبّ على رأس قرًى / ليست تقاتل ! / ولماذا يا بلادي؟ / قالت الأعين، في رعب / ولم تفهم تفاصيل القضيّة (كلمات من القلب، ص5)

يختزلُ جبران من خلال المقطع السّابق نكبة 1948، ويُظهر عدم فهم الشعب الفلسطيني لتفاصيل المؤامرة التي حيكت خيوطها على يد المستعمرين والرجعية العربيّة في حينه (بولس، حبيب. مقالات في الأدب العربي الفلسطيني الحديث: الرحلة الأولى. الناصرة: المطبعة الشعبيّة، 1986. ص 82)، وفي نمط حكائي مطعّم بحوار تتخلّله تساؤلات أضفت حركيّة على القصيدة، ينقلنا الشاعر إلى أجواء مشوبة بالقلق والاضطراب، أجواء الظّلام الدّامس الذي ينيره بريق القنابل، وحيث العيون الفزعة تنقّل بصرها من مكان إلى آخر غير واعية لما يحدث حولها، تتساءل عن سبب الرّحيل القسري.

يصوّر جبران في العديد من قصائده وسائل القمع الإسرائيلي وما ألمّ بالفلسطيني من تشريد ونفي، وتعذيب نفسيّ وجسديّ،  وسلب ونسف للبيوت وغيرها من ملامح المأساة التي يعاني منها، من ذلك وصفه: أنا ابن فلسطين / أُذبَح في كلّ عام / وفي كلّ يوم / وفي كلّ ساعة / تعال تأمَّل صنوف البشاعة / مناظر شتّى / وأهونها أن دمي يسيل (كلمات من القلب، ص5). تختزل هذه اللقطة الشعريّة القصيرة مأساة شعب بأكمله، لدرجة أن "المأساة تصير خبزًا يوميًّا". يعيش الفلسطيني حياة صار فيها التّراب رغيف الخبز، والدود أضحى ماءً، لياليه ظلماء لا ضوء فيها، يصف ذلك بقوله: الماء دودٌ / والرّغيف من تُرابٍ / وليالي شرقنا / دُجًى بلا أقمار! (رفاق الشّمس، ص 53).

مشاهد وحشيّة كثيرة استفزّت شاعرنا، منها تلك اللقطات التي حملت معها الذبح الجماعي وإراقة الدماء، فعبّر عمّا يراه من أعمال وحشيّة، جعلت من لحوم الأمّهات أكوامًا متناثرة وأراقت الدماء على الأرض، وصوّر فزع الأطفال ورعبهم، ينقلون بصرهم بين الأشلاء المبعثرة. يقول في قصيدته القرية المذبوحة: دمٌ...دمٌ...دمٌ... / كأنّ الأرضَ لا تُنبِتُ أعشابًا / بلا دماء / اللّحم فوق اللّحمِ، والدّمار / يزيد جوعَ الوحش للدّمارْ / والصّغارْ / يمشون مرعوبين بين النّار والغبارْ (رفاق الشّمس، ص 62).

ضمن الإجراءات التعسفيّة التي ذاقها الشعب الفلسطيني هدم بيته بلا مبرّر، يصوّر جبران في قصيدة المعركة كيف يحتجز صاحب البيت وهو يشاهد عمليّة هدم منزله:  غيم الغبار في الفضاء.. والشررْ / ويوسف محتجز / بين الجنود، تستبيحه الذِّكَرْ / أنا..أنا بنيته / بعتُ لكي أقيمَه الماعزَ والبقر/ أحجاره..أنا بنفسي، كلّها قطعتها / حجرْ.. حجر! (كلمات من القلب، ص 14)

ثم يصوّر الجنود وهم يُقدمون على تفجير البيت، فيختفي في لحظات عن الوجود، يعودون أدراجهم فرحين بهذا النصر، ويبقى أهل البيت في العراء يلتحفون السماء ويفترشون الأرض متحسّرين على وضعهم: يا ناس، يا إله! / هل يُهدَم في هنيهةٍ / كأنه زجاجة.. / أو بيضة فتنكسر؟!  / نُفِّذت الخطّةُ، والعسكرُ عادَ مسرعًا / وهو يغنّي أغنيات المجد والظّفر / ويوسفْ / يكفكف الدّموعَ من عينييْ وحيدهِ عُمَر ]...[ / وهو يكادُ من أساهُ ينفجرْ! (كلمات من القلب، ص 14-15)

ينقل جبران أحد مظاهر التمييز العنصري الواضح الذي يمارسه المحتل، حين رأى لعبة للأطفال تُعرض في الأسواق، وعند الضغط على أزرارها يتدلّى منها إنسان عربي مشنوق يتأرجح في حبل الإعدام، من أجل غرس روح الحقد والكره في نفوس أطفال اليهود تجاه العرب: إنسان مشنوق / أحلى لعبة / أحلى ملهاة للأولاد / تُعرض في السوق ]...[ / يا أرواحَ الموتى / في معتقلاتِ النّازيين / الإنسان المشنوق / ليس يهوديًا في برلين (كلمات من القلب، ص 46) يسجّل الشاعر في قصيدته السّابقة احتجاجه الإنساني الصارخ في مواجهة المجتمع العرقي البغيض الذي آلت إليه السّلطة في فلسطين (ديوان الوطن المحتلّ، ص 28-29).

لا يغفل جبران بابًا يتعلّق بالنكبة إلا ويطرقه، وكما استنفرت مجزرة كفر قاسم أقلام العديد من الشّعراء والأدباء، فقد استفزّت جبران ليرسم بريشته لوحة ناطقة بجريمة دامية وحشيّة لقرية كانت آمنة: الدم لم يجفّ، والصرخة لا تزال / تمزّق الضمير. والقبور / مفتوحة، في فمها أكثر من سؤال / ولم يزل مدخل كفر قاسم / مروِّعًا من هول تلك الليلة السّوداء (كلمات من القلب، ص 16).

جعل الشاعر من ضحايا المجزرة البشعة إشارة إلى عمق المأساة، ورغم أنه لم يغرق في وصف تفاصيل المجزرة، كيف وأين ومتى وقعت، إلا أن كلماته القليلة تعبّر عن غضب عارم، ويرى مواسي أن الشاعر في الأبيات السّابقة "يرى في هذا الواقع ديمومة صارخة، ديمومة تبحث عن التساؤل بقدر ما تبث من ارتياع. وهذا الوصف الحكائي مكثف بشاعرية، فيها الكثير من التخييل الشعري أو الفانتازيا" (مواسي، فاروق. مرايا في النّقد، "شاهد على حصاد الجماجم-شعر كفر قاسم". بيت بيرل: مركز دراسات الأدب العربي، 2000، ص 48.) وقد استغل الشّاعر مناسبة القصيدة ليحرّض على عدوّه ولينبّه شعبه إلى أن الخطر لا يزال قائمًا. يقول: يا أمّة أحبُّها تنبّهي / فلا تزال الحيّة الرّقطاء / عطشى إلى الدّماء (كلمات من القلب، ص 16).

في قصيدته أعلاه والتي عنونها بـكفر قاسم، يرسمُ الشاعر المشهد المأساويَّ للمجزرة، عبر اتّكائه على مجموعة من الصّور الاستعاريّة (نحو: القبور مفتوحة، في فمها أكثر من سؤال، الجزّار يسحب حقل الأرض، الحيّة الرّقطاء عطشى إلى الدّماء) التي  زادت حدّة المأساوية، كما أضفت طابعًا شاعريًا على أجواء القصيدة.

ضمن تطرقّه لمواضيع تتعلق بالنّكبة وما آلت إليه، وصف حالة المرض والفقر المدقع التي أصابت الشعب الفلسطيني: مريضة أمّي بلا دواء / تبكي وتبكي وحدها العمرَ ]...[ / يا إخوتي الصّغار ]...[ / عيونكم ألمحها تأكلني / تريد شيئًا..دميةً تريد؟ برتقال؟! / تريد أن أبرَّ بالوعد، وأن آتيكم / عشيّة العيد.. مع الحذاء؟!! (كلمات من القلب، ص 17). تجسّد هذه الأبيات مدى معاناة الأم المريضة التي لا تجد ثمن الدواء، عدوى الفقر تنتقل إلى الأولاد الذين لا يعثرون على من يهدي إليهم لعبة أو فاكهة أو حلوى.

عاش الفلسطيني الغربة بكل أبعادها وأشكالها، غربة نفسيّة وجسديّة، عانى ويلاتها من غادرها مُكرهًا، ولم يسلم من طعم مرارتها من بقي في أرض فلسطين، فعاش غريبًا وهو في وطنه! في الحالتين، تمزّق الفلسطيني بين خيارين أحلاهما مرّ: إما البقاء في أرض الوطن المغتصب وتذوّق مرارة الاحتلال، وإما الهروب من الواقع ومفارقة الوطن مع الشعور بآلام العذاب النفسي. عن هذين الموقفين عبّر جبران في أشعاره بتوجّع وتفجّع. عن ذلك الذي يشعر بالغربة رغم بقائه في وطنه، عبّر جبران في قصيدة تحدّث فيها عن مدينة صفد التي زارها بعد النّكبة، فوجدها خاوية لا عرب فيها، فقال: غريبٌ أنا يا صفدْ/ وأنتِ غريبة / تقول البيوت: هلا / ويأمرني ساكنوها ابتعد! (كلمات من القلب، ص 44)

وأمّا من نزح هاجرًا وطنه وبلاده، فكان الحنين يُلهِبُ قلبَه إلى أهله. في قصيدة لاجئ يعبّر جبران المغترب عن مرارته وهو بعيد عن وطنه وأهله وأطفاله: تعبرُ الشَّمسُ الحدودْ / دون أن يطلقَ في جبهتها النارَ الجنودْ / ويغني

بلبلُ الدوحِ، ضحًى، في طول كرم / ومساءً يتعشّى وينامْ / بسلام / مع أطيار "كيبوتسات" اليهود / وحمار ضائع يرعى بخطّ النّار / يرعى في أمان / وأنا، إنسانُكِ اللاجئُ، يا أرضَ بلادي / بين عيني وآفاقكِ / أسوارُ الحدودْ (كلمات من القلب، ص 45)

نحسّ بمدى وجع الشاعر وهو يقارن وضعه مع وضع البهائم والطّيور التي لا تعوقها أي حدود؛ إنها تغنّي، تتحرّك، ترعى، تأكل وتنام بسلام وأمان، دون أن يعكّر صفوها أسوار وجدران. أما جبران فيحاول اختراق هذه الحدود ولو بالخيال والكلمة المعبّرة عن الشّوق واللهفة. وتتراءى صور الوطن بحواكيره وحاراته وأشجاره وصبيانه أمام جبران فيناجيها ملتاعًا، وعبر المنفى يظهر لوعة قلبه المتلظيّة شوقًا إلى الأهل والأصحاب، وفي أغنية للبلد يطلق وعدَه بالرجوع إلى وطنه قائلاً: سريعًا سوف آتيكم، رفاقي / مثلما يركض للعين / قطيعُ الماعز العطشان! / سريعًا سوف آتي البيت يا أمّي (ن.م.، ص 96). من خلال النّماذج السّابقة، يُلاحَظ أن قصائده التي وُلِدَت في المنفى قد نضحت بمشاعر الحنين إلى أرض الوطن، والشوق إلى الأهل، وحملت طابع الثورة والأمل.

يعمد الشاعر إلى فضح سياسة الاستعمار، وإزالة القشرة التي تغطّي ممارساتهم معريًا أساليبهم، ويعلن عدم رضوخه لمحاولاتهم ضمّه إلى صفوفهم ليكون عينًا لهم: سجِّل اسمي في القائمة السوداء / سجِّل اسم أبي، أمي، إخواني ]...[ / سجِّل اسمي.. / فأنا لن أتنازل / عن أرضي الطيّبةِ المعطاء / لن أعمل جاسوسًا / للأجهزة السّوداء (كلمات من القلب، ص55)

نلمس الحزم في رفضه للعمالة، وكأنه برفضه الحاسم يحثّ كل فلسطيني على الرفض. يتجلّى هذا الرفض للعمالة في قصيدة يخاطب بها – بحدّة- الرجل الذي باع ضميره فخان وطنه: أجوع ألف مرّة / أموت ألف مرّة / في دربنا الموصل للمجرّة / أموت يا هذا، ولا أسير / في دربك الحقير / يا خرب الضّمير (قصائد ليست محددة الإقامة، ص 55)

حالة الكبت والطغيان التي عاشها الفلسطيني بعد النكبة، خلقت عنده روح التمرّد والثورة، وقد تأجّجت هذه الروح مع تأجّج الممارسات القمعية وتفاقمها، ومع الإصرار على خنق الحريّات وفرض الموت البطيء عليهم. لذا، استثمر جبران قلمه ليصوّر من خلال أشعاره صمود الفلسطيني وتشبّثه بأرضه ومواصلته للنّضال والتضحية رغم كلّ وسائل الترهيب التي لاقاها، والتي لم تنجح في إخماد شعلة المقاومة لدى الشعب الفلسطيني، يقول: تشتعل المقاومة / في كل شبرٍ / يُعلن الإصرار / إصراره أن تبصق العدوان كل دار / شعبي أنا أعرفه / إن أظلمتْ / ينسجُ من دمائه أنهار (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 22)

لقد أدرك جبران أن ترك الفلسطيني لأرضه ونزوحه منها هو ما يستهدفه العدو وما يرمي إليه، فسخّر شعره من أجل الحثّ على البقاء في الوطن مهما اشتدّت الظروف، في قصيدته يا تراب الجليل يطلق الشاعر وعده باسم شعبه بأن يبقى متشبثًا بكل شبر من أرضه، وسيحمل راية الصمود الأبناء والأحفاد الذين سيرثون حب الوطن:

أيها الموت!  إنّ  شعبي هنا باق  بقاء  الجبال  ليس  يميدُ !

يا تراب الجليل يا مِسْك أجدادي عزيز ما أورثَتْنا الجــــدود

نحن في عــمقك المقدّس جذر ليس تنسيه نكبة أو عــهود

لن نملّ لبقاء حتّى ولو في الـــقيد نبقى وسوف تفنى القــيود!

كلُّ طفلٍ يجيء عهدُ بقـــــاء وصمود، فهلهلي يا عهود (رفاق الشّمس، ص 85-86)

عبارات التحدّي في الأبيات السابقة تنبئ عن جرأة وقوة يتمتّع بها شاعرنا فهو مباشر في توجّهه، متحدٍّ في موقفه. في قصيدة تحمل عنوان بقاء يدعو جبران شعبه إلى البقاء في أرض الوطن، ينادي بأن يهبّوا جميعا إلى غرس الخناجر في الأرض لتكون مقبرة لأحلام العدو: الأرض خناجرْ / تحت الأقدام الوحشيّة / والأرض مقابرْ / للأحلام الهمجيّة (كلمات من القلب، ص 10)

بقاؤه هذا وتشبّثه بالأرض وصموده مقرون بتفاؤل يملأ قلبه، فهو يحاول أن يغرس بذور الأمل في نفوس الشّعب. نلمح هذا التمازج بين الإصرار والأمل في قوله: سأظلُّ هنا / أمسكُ جرحي بِيَدٍ / وألوِّحُ بالأخرى / لربيعٍ، يحملُ لبلادي / دفءَ الشّمسِ وباقاتِ الأزهار! (كلمات من القلب، ص 10)

تتميّز أشعار جبران بنبض ثوريّ حافل يلفّه التفاؤل والأمل، ما يدلّ على أنه يبصر الضوء في نهاية النفق المعتم، ويستحضر رؤية متفائلة تبشّر ببزوغ فجرٍ جديد. ومن بين جحافل الشّهداء وموت الناس جوعًا وأشلاء الجثث وبكاء الفلاحين، تنبت السّنابل معلنةً سطوع الأمل في الانتصار. تبرز هذه الصورة الشعرية التفاؤليّة في قصيدة كتابة على معسكر الأسرى، وفيها يتكرّر تصريح الشاعر: "إنّي متفائل" سبع مرات، ويختمها بقوله: الغد مرج سنابل/ الغد عرس سنابل (رفاق الشّمس، ص 15)

ضمن الأسباب العديدة التي تستدعي الفلسطيني البقاء في أرضه وعدم النّزوح منها، يسوق الشاعر في قصيدة لا تُسافِر سببًا إضافيًّا قويًا نابعًا من إدراكه بأن البقاء في الوطن هو رمز الحبّ له وعماد الانتصار في معركة البقاء، فيذكّر شعبه بأن في السّفر والنّزوح عن أرض الوطن تحقيق لما يبغيه العدوّ، لأنه سيترك الأرض خاوية وحيدة نهبًا لذئاب الليل، التي تتحيّن الفرص من أجل الاستيلاء على أرض تركها صاحبها فريسة الاغتصاب دون حماية أو صون. يقول مهيبًا ومناشدًا شعبه:

قفْ هنا لا تترك الأرضَ التي رُبٍّيتَ فيها / وزرعْتَ اللوزَ والرّمانَ فيها / قف هنا..لا تترك الأرض وحيدة / قف هنا..إنَّ ذئاب الليلِ ترجو أن تسافر / لترى أرضكَ عزلاءَ حزينة / بعد أن كان بها رضوان يحميها، ويسقي زرعها / بعد أن كانت مصونة !! (ديوان الوطن المحتلّ، ص 557-558)

تدلّ هذه الأبيات على وعي ويقظة إزاء خطط العدوّ لتفرقة الشعب الفلسطيني. يواصل الشّاعر دعوته إلى البقاء في أرض الوطن، ويسوق لنا تبريرًا آخر يستحقّ البقاء: إن البقاء ضروريّ لأن الحرب تحتاج إلى جنود: كالسنديان هنا سنبقى / كالصّخور ]...[ / سأظلُّ فوق ترابك المذبوح يا وطني / مع المزمار، أنشد للربيع / وأقول للباكين والمتشائمين: / إن الشّتاء يموت فابتسموا / ولا تتخاذلوا تحتَ الدّموع / هاتوا أياديكم، فمعركة البقاء تريدكم / جندًا...ومعركة الرّجوعْ! من استخدامه للتعبير "هاتوا أياديكم" نستشفّ حثّ الشاعر لأبناء شعبه على الوحدة والوفاق من أجل الوطن، وكأنه يؤكّد أن الانتصار لا يكون إلا بالاتّحاد، لذا يهيب بهم أن يتوحّدوا ويتضافروا من أجل الانتصار في معاركهم مع العدوّ. ويحثّهم على ضرورة التآخي مهما اشتدّت قسوة الظروف، ونبذ التشاؤم ورفض البكاء، لأن الدّموع لا تفيد ولا تعيد الأرض المسلوبة: بكيتُ حتّى سقطت عيناي في شوارع الأرض / دموعًا ودمًا / سخفي دفعتُ ثمنه / عرفتُ / إنّ الدّمع لا يمنح للضّائع / أرضًا آمنة (قصائد ليست محدّدة الإقامة، ص 34-35). لقد أيقن الشاعر أن الانتصار في معركته لن تتحقّق بالبكاء والاستسلام للواقع المر، وإنما يكون بالعمل المثمر وبإشعال فتيل المقاومة والقتال.

يتطرّق جبران  إلى عنصر التضحية لدى الفلسطيني متجليًا بأقوى صوره في رسم صورة للمرأة التي تضحّي بنفسها ولا تكترث بتفتيت جسدها من أجل الوطن: سوف أغنّي للسّنين / قصّة طويلةً طويلةً / عن فاطمة / تلك التي كانت تخبّئ بين نهديها الديناميت / لكي توصلَهُ-عابرة في خندق الموت- / إلى المقاومة! (رفاق الشّمس، ص 34)

[email protected]

وللحديث تتمّة..